لا زال العسكر يجثمون على صدور المجتمع المدني العربي ويعودون بنا إلى سنة 1949م عندما قاد حسني الزعيم أول انقلاب في تاريخ المنطقة بانقلاب عسكري أعتبر قاعدة أساسية شرعت للمنقلبين إرساء سلطاتهم وأنظمتهم التي تأتي بانقلابات عسكرية تسلب المجتمع دوره في تنظيم شؤونه وحياته وتخضع مؤسساته الشرعية للبندقية وقوانين الطوارئ والأنظمة العسكرية التي لا تفقه سوي تمرير الأوامر العسكرية والانضباط الحديدي وإعادة المجتمع لإرهاصات عملية التحول المدني الديمقراطي .ورغم أن الذاكرة العربية قد كادت أن تنسي أو تتناسى حقبة الانقلابات العسكرية وبدأت تنسجم مع عملية التغيير من خلال الممارسة المدنية والاندماج في عملية الديمقراطية التي دفعت الشعوب والمجتمعات العربية ثمناً غالياً لتبدأ بجني بوادرها وبزوغ بوادر الأمل في تعميم ثقافة الانتخاب عبر صندوق الاقتراع ، وإطلاق الحريات والإنتشار المؤسساتي المدني التي يعتبر أحد أهم مكونات السلطة الديمقراطية المدنية .إلا أنه ورغم مرور تسعة عشر عاماً على أخر انقلاب عسكري قاده عمر البشير في السودان سنة 1989م وحالة السكوت التي عاشتها المنطقة دون تحركات للعسكر من ثكناتهم . إلا أن المشاهد التي بدأت من غزة سنة 2007 وتحرك العسكر لحسم التناقض والخلاف أعاد صورة الجندي مرة أخرى للأذهان ، وأعادها لذاكرة العسكر من جديد بالرغم من أن ما حدث في غزة يعتبر حالة استثنائية كون المنقلب انقلب على نفسه وعلى شرعيته ، وأيضاً اعتبار ما حدث في غزة ما هو سوي حالة تكسير عظام بين موازين القوي الفصائيلية المتناحرة على الهيمنة والسيطرة على حدود منطقة جغرافية لم تتمتع بأي من المميزات السيادية التي تتمتع بها الدول أو الأقاليم المستقلة ، ولم تأتٍ ضمن عملية تداول السلطة بالسلاح ، وعليه لم تسجل كأحد حالات التداول المسلح ضمن حدود إقليم مستقل يتمتع بالاستقلال كما حدث في موريتانيا أخيراً حيث قاد عسكر موريتانيا انقلاب عسكري تم من خلالها إقصاء الرئيس المنتخب من الشعب بطريقة حرة ، وتداول السلطة بالبندقية وبسطار الجنرالات التي لم تفلح للحظة في تسجيل انتصار واحد على أعداء أمتها وشعوبها وإنما ومنذ بداية هذه الانقلابات وحركات التمرد العسكرية مثلت انتصاراتها جميعها ضد شعوبها فقط ، وهي مؤسسات عسكرية فاشلة ومهزومة أمام أعدائها سواء مؤسسات الجيش الرسمية التي اندحرت وانهزمت في كل حروبها التي خاضتها ضد أعداء الأمة والشعوب ، أو الحركات المسلحة التي كانت تسجل انتصارات سريعة وساحقة ضد أبناء شعبها وتذوب كسرعة البرق أمام أعدائها ولنا في طالبان والمحاكم الإسلامية خير مثال على هذا النموذج حيث إنهما لم يصمدا ساعات في وجه الأعداء ، رغم البراعة والبسالة التي سطراها ضد الفصائل المسلحة الشريكة لها .أما موريتانيا ذاك البلد العربي الإسلامي الذي استطاع أن يحافظ على نوعاً من الاستقرار السياسي ويتميز بهدوء واستقرار يُحسد عليه مقارنة بما يحيطها من بؤر توتر وعدم استقرار ، واعتلاء قمة الهرم رئيس منتخب من بل الشعب الموريتاني حيث مثلت مكمن فخر بأنها جاءت برئيس منتخب وهذه ميزة في المنطقة العربية التي تعيش حالة توارث بمسميات جمهورية وملكية ، وأميريه …الخ واستخدام الرئيس الموريتاني لحقوقه الدستورية في عزل قادة الجيش الذين أرادوا السيطرة والاستئثار بالقرار والسطوة والهيمنة والتلاعب بها حسب رتبهم العسكرية وفرض هيمنتهم على المجتمع وتقييده ومنعه من أي عملية تطور حقيقية نحو الديمقراطية والحرية والتنمية .نعم لنا العشرات من التحفظات على الأنظمة العربية الرسمية بكل أنواعها وأشكالها ولكن هذه الأنظمة هي وليدة الانقلابات العسكرية التي لم تأتٍ بأي خير يشفع لها ، بل هي من كانت أساس عملية الاضطهاد والقمع وعرقلة التطور المدني ومؤسساته التي من خلالها يمكن أن تنهض الشعوب وتخوض عملية التحول الديمقراطي والنهوض بعملية تنموية اقتصادية واجتماعية وسياسية تضعها في مصاف الدول المتقدمة والمتطورة .” عسكر وحرامية ” ما حدث في موريتانيا يؤكد أن شبح الانقلابات العسكرية لا يزال ماثلاً في المخيلة العسكرية العربية ولا زال مارداً متعملقاً في الثكنات العسكرية التي تستنزف نسبة كبيرة من الثروات العربية تحت ذريعة التسلح لحماية الأمن الوطني والقومي . في الوقت الذي تدرك جيدا أن تلك الموازنات المقتطعة من ضرائب المواطن وقوته ما هي سوي امتيازات خاصة يجنيها جنرالات المؤسسة العسكرية ويمارسون بها كل أنواع الهيمنة والملوكية التي يعيشون بها .هذه المميزات التي حولتهم لطبقة ارستقراطية رفيعة تتمتع بالجاه والسلطان والهيمنة وتمنحهم القبض على المجتمعات سواء بوجودهم في المؤسسة العسكرية أو بعد ارتدائهم للزى المدني من خلال احتلال أعلى المناصب الوظيفية والإدارية في الدولة.ويعود مظهر العسكر مرة أخرى بوجهة القبيح ليضفي ملامح الظلام مرة أخرى على الحياة العربية مما يطرح تساؤلاً عن دور الجيش في الدول العربية وما هو الدور الذي يلعبه في الحياة الاجتماعية والسياسية في القرن الواحد والعشرين ؟ وهل نحن على أبواب انقلابات عسكرية جديدة ؟!
سامي الأخرس6/8/2008