استيقظت بالصباح الباكر، وبدأت استعد لرحلة الانطلاق إلى رام الله، وكون الله منّ علينا نحن أهل السواحرة، بجدارين وحاجز، قررت أن أشرب شاي الصباح قبالة حاجز “الكونتينر” الذي لا يبعد عن منزلي سوى مئات الأمتار.”زمامير” السيارات، ومشهد الفلسطينيين المتكدسين بانتظار السماح لهم بالمرور، كفيل بإعطائي جرعة “النكد” اليومية، وخصوصا إذا تخلل المشهد بعض من “الطوش”، والتي تفتعل بين الحين والآخر لإضاعة بعض الوقت، ولأغراض “التنفيس”.خلال الطريق من المنزل إلى موقف السيارات المؤدي إلى مدينة رام الله، تمر عدد من “جيبات” حرس الحدود، والتي تؤكد للجميع بأننا شعبٌ محتل، وأن حياتنا بكل تفاصيلها الدقيقة، مرتبطة بهذا الاحتلال الجاثم على قلوبنا من عشريات السنين.صور الشهداء المعلقة على أبواب المحال التجارية، وجدار الفصل البغيض الذي يفصل بلداتنا في شرقي المدينة، عن أهلنا في المدينة المقدسة وبلداتها غربي الجدار، تؤكد أننا فعلا لم نتحرر بعد وأن الإسرائيليين على رأي ستي “مقرفينا عيشتنا”.ولكن ومع بدء بزوغ اللوحات الإعلانية على جنبات الطريق في بلدة العيزرية، اكتشفت أن أحدهم لديه رأي آخر، فركت عيناي كي أتأكد بأني أشاهد فعلا ولا أتخيل، وجزمت أنه هو، هذا هو “قرطوس كورنيتو”، “هو ما غيره”، إنتاج شركة “شترواس” الإسرائيلية.بدأت اتساءل ماذا يفعل “قرطوس” وآخرون يسمونه “زعموط” البوظه، على لوحات إعلان فلسطينية، وفي بلدة فلسطينية، وعُلق بأيدٍ فلسطينية، هذا ترويج واضح وصريح، لمنتوج إسرائيلي في وضح النهار، وعلى رأي المثل “لا حيا منها ولا حيا من رجالها”.اعتقدت أنه كوني في بلدة فلسطينية مقدسية، واقعة تحت السيطرة الإسرائيلية، ممكن أن يكون إعلان “بوظة الشتراوس” مبررا، هذا ما أخذت أقنع نفسي به، مشيرا لنفسي بأن غياب سيطرة السلطة “عندنا” قد يكون له أثره على الدعاية والإعلان أيضا، على قاعدة المثل “إلي مش بيدك بكيدك”.ظلت الأفكار تراوح مكانها في عقلي، حتى وصلنا إلى مدخل مدينة البيرة، هو ذات الإعلان، يبتسم لك وكأنه موحيا بأنك في تل أبيب أو في نتانيا ولست في رام الله، شاب مبتسم، وحبة البوظة “الكورنيتو”، منتصبة وشامخة على مدخل المدينة، وكأنها تستفز الجميع، وتستفزني شخصيا لأني لا أشتريها لأسباب سياسية وأخرى مادية !!.سرت في مدينة رام الله، متسائلا عن ما يحدث، ففي الوقت الذي تغلق إسرائيل كل ما هو فلسطيني، وتجبرنا على إزالة كل رموز العروبة في القدس، نعمل نحن على إقناع شعبنا بضرورة أن يساهموا في دعم الاحتلال، وهم مبتسمين ومستمتعين بطعم بوظة “شتراوس”.عند وصولي المكتب، فتحت جهاز الكمبيوتر، وأنا “دمي حامي”، وإذا بزميلي الفنان رمزي الطويل، يثير نفس الموضوع في إحدى زوايا الانترنت، وأخبرني أن الزميل الصحفي يوسف الشايب أثار الموضوع في صحيفة الحال، التي تصدر عن معهد الإعلام بجامعة بيرزيت.أرسل لي رمزي التحقيق، وأخذت أتصفحه، وإذا بشركة “سكاي” تقول أن المنتج ليس إسرائيليا، وكل ما تقدمت بالأسطر نحو الأسفل، ترتفع درجة حرارتك، ويرتفع الضغط أيضا، كيف لا ووزير اقتصاد وطني سابق، هو وكيل الشركة الإسرائيلية، التي قال أنها بالأصل أي “البوطة” منتوج إيطالي.وبغض النظر عن حبي لايطاليا، بس الأكيد أنه المنتوج إسرائيلي، بغض النظر أن الشركة الإسرائيلية قد أخذت الوكالة من شركة إسرائيلية أخذت شركة سنقرط وكالتها، وهو ما ذكر في تحقيق “الشايب” أي أن المنتوج صنع في “إسرائيل” وهو كفيلٌ بأن نصطف جميعا لمحاربته.وفي الوقت الذي لن نلتفت فيه لمن سيقول بأن بوظة شتراوس، ألذ طعما من البوظة الفلسطينية، لا بد أن أشير بإيجابية لموقف بلدية رام الله، التي طالبت بإزالة إعلانات “شتراوس” من شوارعها، ملوحةً بان طواقم البلدية ستقوم بإزالتها بنفسها إن لم تقم شركة الدعاية بذلك.وعلى أمل أن تخطو بلديات الوطن، ومجالسه المحلية على خطى بلدية رام الله، نتمنى أن تضبط الأمور في البلد، قبل أن نصل إلى فلتان “دعائي”، ونصحوا على إعلانات لسجائر “التايم”، تزين الجدران في محافظات الوطن من الجنوب المكلوم إلى الشمال المظلوم.