د/ نصار عبدالله
ما الذى يدفع بعض الأثرياء الجدد إلى أن يقيموا تجمعات سكنية تحيطها
ما الذى يدفع بعض الأثرياء الجدد إلى أن يقيموا تجمعات سكنية تحيطها أسوار عالية تعزلهم تماما عن جيرانهم ، كما تعزلهم أيضا عن أعين سائر المصريين الآخرين، مالذى يدفعهم إلى إقامة تلك الأسوار التى يقوم على حراستها رجال أمن خاص يقظون ومدربون.. ؟؟ الجواب على هذا السؤال لا يكمن بطبيعة الحال فى أنهم يقيمونها لمجرد تحصين أنفسهم من العين حتى لا يصيبهم الحسد!! ، فالواقع أن مثل تلك الأسوار تحقق لمن تحيط بهم أكثر من وظيفة : إنها أولا تشعرهم بقدر من الأمان النسبى ، خاصة وأن من بينهم من يشعرون بغير شك بأن مصادر ثرواتهم مشكوك في مشروعيتها من منظور الأغلبية الغالبة من أبناء الشعب المصرى ، إنهم يدركون جيدا أن أموالهم من وجهة النظر الشعبية: إما حرام أو سُـحْت ( السحت هو المال الذى يختلط فيه الحرام بالحلال) ، وعلى سبيل المثال ، تلك المبالغ التى جناها بعضهم نتيجة لتخصيص مساحات من الأراضى لهم بأسعار رمزية والتى قام بعضهم بتعميرها جزئيا ، بينما اكتفى البعض الآخر بالإنتظار إلى أن بلغت أثمانها أسعارا خرافية ، وحينئذ تصرفوا فى جزء منها بالبيع مستغلين ثمنه فى تعمير الجزء الآخر ومتملكين إياه مع الإحتفاظ فى الوقت ذاته بفائض نقدى مهول !!، .. وكل تلك التخصيصات للأراضى بأسعار رمزية قد تحققت لهم بمناسبة وجودهم فى السلطة أو بمناسبة قربهم منها ، ولم تتحقق من خلال منافسة عادلة تتاح فيها فرص متكافئة لسائر المواطنين !!!، وبعد ذلك فإن هذه الأسوار ـ ثانيا ـ تحقق لمن تحيط بهم قدرا أكبر من الحرية النسبية فى ممارسة أنماط جديدة من الحياة محاكية للنمط الغربى ، وبوجه أكثر تحديدا: للنمط الأمريكى القائم تاريخيا على فكرة الإستيطان، وهو النمط المسيطر حاليا على توجهات الأثرياء الجدد!!، أى أن هذه التجمعات السكنية المحاطة بالأسوار سوف تتحول بمضى الوقت فيما أتصور إلى معامل لإنتاج ثقافة مختلفة تتماهى مع الأسلوب الأمريكى فى العيش، ثم إن هذه الأسوار ـ ثالثا ـ تحقق لمن تحيط بهم أو لبعضهم على الأقل شعورا بالإستعلاء على من يجاورونهم ، ومثل هذا الشعور بالإستعلاء نلمسه لدى الكثيرين ممن كانوا ينتمون أصلا إلى قاع المجتمع ثم هيأت لهم ظروف معينة فرصة الصعود إلى السطح ، غير أن المشكلة النفسية الموجعة بالنسبة إلى مثل هؤلاء هى أن المجتمع المصرى ما زالت منظومته الثقافية تذكرهم بالرواسب الأليمة لماضيهم الذى ما زالوا يحملونه فى داخلهم على النحو الذى صوره لنا الروائى العبقرى نجيب محفوظ فى روايتيه الرائعتين : ” القاهرة الجديدة”، و:”حضرة المحترم “!!، ومن ثم فهم يمارسون من خلال ارتفاع أسوارهم نوعا من الإحساس بالعلو الذى افتقدوه طويلا !!!، والسؤال الآن هو : إلى أى حد سوف تنجح تلك الأسوار فى تحقيق ما يستهدفه منها أولئك الذين يحيطون أنفسهم بها ؟؟ ..وللإجابة على هذا التساؤل الأخير فإننى أعتقد أنها ربما تنجح إلى حد كبير فى تحقيق الوظيفتين الثانية والثالثة ، أما بالنسبة إلى الوظيفة الأولى المتمثلة فى محاولة التماس الأمان والطمئنينة من وراء تشييدها، فإنها ـ فيما أتصور ـ ربما أنتجت بالفعل إحساسا ما بالأمن النسبى لكنه إحساس خادع ومضلل لسببين : أولهما هو أن وجود مثل تلك الأسوار هو فى حد ذاته مبرر إضافى لزيادة معدلات النقمة ضد هذه الشريحة من الأثرياء الجدد من جانب سائر الشرائح الأخرى التى حرمت من فرصتها فى المنافسة العادلة وبوجه خاص من جانب الشرائح الكادحة ، وهو ما سوف يزيد من فرصة استهدافها لدى أية انتفاضة ترتبط أجندتها بمشكلات الجوع والفقر وارتفاع الأسعار، ولا شك أن شركات الأمن الخاصة التى سوف تكلف بحماية مثل تلك المستوطنات بالغة ما بلغت من الكفاءة والتدريب سوف تعجز عن تحقيق الحد الأدنى من الحماية فى مواجهة أية إنتفاضة حتى لو كانت محدودة مالم يكن الإحتياطى الإستراتيجى لها متمثلا فى الأجهزة الأمنية للدولة ذاتها ، وهو الأمر الذى لا يمكن ضمانه إلا إذا أصبحت تلك الشرائح على صلة وثيقة ومؤثرة بمن يمسكون بالخيوط الأساسية لصنع القرار فى مصر، وهو ما يبدو أن تلك الشرائح تستميت الآن من أجل تحقيقه .