يحتدم الصراع عندما يظن كل طرف من أطرافه أنه, لولا المعارضة, لأمكنه الوصول إلى ما يراه الخلاص, هذا إذا كانت الجدية هي المسيطرة, وله هنا ضوابط تفرضها طبيعة الطرفين المتصارعين, وطبيعة الصراع بينهما؛ هل هو صراع عداوة, أم صراع تنافس في تحقيق ما يراه كل طرف أنه الأفضل؟ ولكنه قد يستعر على نحو شديد السلبية, عندما يحاط بأجواء الانسداد, وتضاؤل الآمال بتحقيق البرامج السياسية, أو الأفكار. وفي حالتنا الفلسطينية؛ هل ترى السلطة أنها على وشك الوصول إلى الحقوق الفلسطينية, لولا تلك القوى التي لا ترى ما تراه السلطة وفريقُها المفاوض؟ قد يقول قائل: نعم, إن الانقسام بين شقي الوطن يضعف من موقف المفاوض والسلطة, حين لا يبدو ممثلا لفلسطينيي الداخل على الأقل. وهذا من الناحية الظاهرية صحيح, لكنه, جوهريا, غير دقيق؛ إذ إنه لا يعدو كونه ذريعة “إسرائيلية” , وقد صدر عن حماس موقف صريح يؤكد موافقتها على أي نتائج تسفر عنها المفاوضات التي تقودها سلطة عباس, ولو خالفت قناعات الحركة, بعد أن تحظى بموافقة الأغلبية الفلسطينية باستفتاء عام. وبالرغم من هذا يكثر الحديث عن حرص السلطة على إحراج “إسرائيل”, ولا يكون ذلك إلا بوفاء السلطة التام بكل المطالب, أو “الاستحقاقات” عليها ولعل أبرزها الأمنية التي يبدو أنها توسعت لتشمل حتى الكلمة والرأي. ولكن يغيب عن بال المفاوض, أو يُغيّب, أن تلك الدولة الغاصبة تمضي بوتائر متصاعدة في الاستيطان والتهويد للقدس, ومصادرة الأراضي؛ إذن هي لا تكتفي بوقف التقدم في السلام, ولكنها تستبق نتائجه, بحقائق على الأرض؛ إذ لو كان الانقسام هو الفاعل لكان أثره يقتصر على وقف التقدم الحقيقي. لكن المرئي أن الصهاينة ماضون في مشاريعهم التوسعية الإحلالية, ولا أثر عمليا هنا لشيء اسمه سلام منتظر !! قد يقول المفاوض الفلسطيني إن هذا طبيعي من دولة احتلال, وإننا نعمل على انتزاع حقوقنا منها بالشرعية الدولية, والضمانات التي تتعهد بها الإدارة الأمريكية, لكن يبقى السؤال: ما قيمة تلك التعهدات, وهذه الإدارة تلملم أوراقها؟! وحتى فيما تبقى من وقتها وطاقتها تستجيب لمتطلبات دورها العالمي الذي لا يمر اليوم بأحسن حالاته, وهي تهتم بمناطق أكثر أهمية لها, كالعراق وأفغانستان, وتحاول تعزيز علاقاتها مع بعض الدول الأوروبية؛ لإنجاز ما تستطيعه من الدرع الصاروخي. أما الإدارة القادمة؛ فلا تخلو من ماكين غير المختلف عن بوش, أو أوباما الذي يتوجب عليه أن يشغله إنقاذ أمريكا من مخلفات الأزمات المستعصية التي جلبها بوش ورفاقه المحافظون الجدد على الدولة الأولى في العالم, وهي لا تتوقف عند المستنقع العراقي المزمن, ولا التورط الأمريكي المتفاقم في أفغانستان, حتى تمر على أزمات داخلية ليس أقلها الأزمة الاقتصادية الحقيقية الناجمة, عن أزمة الرهن العقاري, والاستنزاف المالي الكبير جراء النفقات العسكرية في العراق وأفغانستان… فأوباما- كما يصرح- سيصب اهتمامه على أفغانستان, في الحرب على ما يسمونه الإرهاب, كما يتوقع أن يجتهد في ترميم صدقية أمريكا وتحسين وجهها والارتقاء بعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي, ودول أوروبا؛ لمواجهة التنامي الروسي, وللحد من تغلغله في القارة الأوروبية عبر اتفاقات اقتصادية باتت روسيا أقدر عليها بعد النمو الاقتصادي الذي ساعد بوتين على تحقيقه الارتفاعُ الكبير في أسعار النفط.ثم إن أوباما, إذا التفت إلى ملف السلام في فلسطين؛ فإنه سيصدم بتعنت “إسرائيل”, المتحكُّمة بما يجري على الأرض, والأغلب أنه سيسلم, كما فعل أسلافه, بضآلة أوراق الضغط الذي يستطيع ممارستها على ذلك الطفل المدلل, وحتى لو أراد ممارسة ضغوط؛ فإن أمامه عراقيل ليس أقلها طبيعة النظام السياسي في “إسرائيل” القوي بضعفه , فهم قادرون على التخلص من تلك الضغوط بحل الكنيست, والدعوة إلى انتخابات جديدة, أو إثارة أزمات للرئيس الذي يبدي قدرا من الاستعداد للتعاطي مع تلك الحلول التي لا يرتضيها الشعب اليهودي المتجه نحو اليمين , وما أولمرت, وأزمته القضائية عنا ببعيدة… ويرجح مراقبون أن يختار أوباما نوعا من الحلول غير الجذرية, ولا تتعدى التعديلات الشكلية والأمور المعيشية, ولا سيما في ظل انكفاء عربي وإسلامي عن القضية الفلسطينية, قد يهونون من سلبيته بما تشهده فلسطين من انقسام واقتتال وتناحر. أما التوجه تلقاء أوروبا, أو روسيا, وما أظن المفاوض الفلسطيني يراه جديا؛ فلا يتوقع منه أكثر مما يتوقع من أمريكا ذات الثقل الدولي الواضح التفوق, وذات العلاقة الخاصة مع الدولة الغاصبة؛ فما لا تستطيعه أمريكا؛ لا تفعله أوروبا وروسيا بمعزل عنها, وعلى كره من “إسرائيل” التي لا تسمح لأوروبا بالرغم من نشاطها الاقتصادي, لا تسمح لها باستثماره سياسيا, كما أجهضت من قبل مساعي بوتين في مشروع روسي للحل. هذا جانب مما يتعلق بأفق السلطة المفاوضة الذي يبدو مسدودا, وعديم الأمل؛ إذا ما روعي فيه حقا انتزاع الحقوق الفلسطينية من القدس إلى العودة إلى تفكيك المستوطنات وغيرها, باستراتيجية تقوم على التفاوض فقط. أما حماس فهي في مأزق في غزة نتيجة الحصار والعزلة الدولية والعربية التي لا يبدو أنها تسير نحو الانفراج بعد التقارب الأمريكي الإيراني, وكذلك التفاوض السوري “الإسرائيلي”, وقلة الفاعلية من الدول التي لا تطابق أمريكا في العلاقة بحماس مثل بعض الدول الأوروبية؛ فإلى متى تستطيع حماس الصمود والثبات في ظروف معيشية ظلت صعبة منذ شكلت حكومتها الأولى؟ وهي برغم التهد
ئة لم يطرأ عليها تحسن ملحوظ. وفي الأزمة الأخيرة التي تصاعدت بعد جريمة شاطىء غزة هددت حماس بحسم في الضفة على غرار حسمها في غزة؛ غير أنها ممنوعة منه بسبب وجود الاحتلال “الإسرائيلي”. والمشكلة الحقيقية ليست حتى في وجود الاحتلال الذي يمنع حماس من توسيع نموذجها, ولكنه على نحو أدق في وجود فلسطين كلها تحت الاحتلال الذي لا يزيله خروجه من كل التجمعات الفلسطينية في الضفة وغزة؛ فالسلطة التي ترغب في التشكل عليها أن تقبل أن تكون سلطة تحت احتلال؛ لا تملك جيشا, ولا اقتصادا ذاتيا, ولا سيادة. خلاصة القول أن الاقتتال والتناحر لا يعدو كونه تعبيرا عن تخبط, وأحيانا يأس؛ فلا تجمعوا على أنفسكم, وعلى الناس, ضيق الأفق, وضيقا تصطنعونه دون جدوى, مع عدم التغاضي عن أية جريمة, على أن لا تتوسع تلك الردود المشروعة لتتحول إلى حالة صراع مرير بين فلسطينيين, لا يزيدهم صراعهم واقتتالهم عند عدوهم إلا سخرية وازدراء, وإلا تجرؤا وعدوانا. [email protected]