القلق، والتوتر، وانتظار المجهول، هذا حال الفلسطينيين في الضفة الغربية، وقطاع غزة، فلم يسبق أن شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة، في عز الزمن العبري الجاثم على الأرض مثل هذه الحالة من القسوة الداخلية، والأحقاد الدفينة، والمواجهات العنيفة، لقد مثل العدو الخارجي نقطة التقاء لكل الفصائل المقاومة، وكانت تذوب الأحقاد إذا غطى لحى الرجال غبار البارود المقاوم، بل وكانت ساحة الأراضي المحتلة تتباهى على ساحة الأردن، وساحة لبنان بتماسكها،وعلو قامتها، ومقاومتها، ووحدتها الوطنية، ونأيها عن كل ما عاب تلك الساحات من معارك جانبية، وتصفيات داخلية، واقتتال بين أخوة السلاح، واحتلال مواقع، وتخوين، وتخويف، وما كان يجري بعد ذلك من لقاءات مصافحة، وطعن في الظهر، واتفاقات لوقف النار، كي تخرق في اللحظة نفسها، وكان الحسم العسكري أحياناً طريقاً لفض الخلاف بين الفصائل الفلسطينية، ومن ثم تعقد لقاءات وحوارات الفصائل، ويتم الاتفاق على قواسم سياسية مشتركة إلى حد ما، تسمح بالمصالحة الوطنية، قبل الولوج إلى تركيبة المجلس الوطني الفلسطيني، والمجلس المركزي، واللجنة التنفيذية، وكل ذلك وفقاً لانعكاس الواقع الميداني، وما أسفرت عنه معارك الحسم العسكري بين الفصائل. ودائماً كان الاقتتال الفلسطيني لخلافات سياسية، وتنظيمية، ظهرت إلى الوجود قبل ميلاد “حماس”، بل وقبل أن يلقي نطفتها في رحم الواقع الشيخ أحمد ياسين، إلا أن ما يقلق الفلسطينيون اليوم هو تجاوز المألوف في الاقتتال الأخوي، والإيغال في العداوة دون أفق، أو مؤشر للتراجع، والتمادي في التصلب، والتشنج على المواقف دون فسحة من الأمل، وهذا ما يخيف، وما يوحي أن الخلاف بين المواقف، والرؤى، والقناعات، والبرامج السياسية قد يتحول إلى صراع لا رجعة لطرف عنه قبل تصفية الآخر، والقضاء المبرم عليه، وهذا يستحيل في ساحتنا الفلسطينية لأسباب عديدة، وهنا مكمن الخطر، ومقتل القضية المركزية الفلسطينية التي قام من أجلها، وانطلق لتحريرها كل من “فتح” و”حماس”.إن عدم التقدم بخطوات جريئة، وصادقة إلى الحوار، وعدم السعي الجاد من كلا الطرفين إلى الصفح، والمصافحة السريعة، ومن ثم المصالحة، لكفيل بأن يواصل تعليق الفلسطينيين على مشانق العداوة، والقذف، وتنامي الأحقاد، وتعميق الانقسام الذي لا تختلف كل من “فتح” و”حماس” على آثاره السلبية، ووجوب الخروج منه لصالح القضية الفلسطينية، أصل البقاء، والتواجد، والنماء لكل من “فتح” و”حماس”، وما عدا ذلك، فمزيد من التآمر، وحركات الالتفاف، واستقطاب الحلفاء، واستقدام الغرباء، والاستعانة بالشيطان لتحقيق النصر الواهي، فمن استل سيفه فقد شرع بالقتل ولو طُعن في الظهر.كل يوم يمر دون حوار تتوسع فيه دائرة الشك بين “فتح”، و”حماس”، وتزداد دوائر العزلة بين الطرفين، فما كان يمكن تحقيقه بالحوار قبل عام، أصبح مستحيلاً اليوم، وما يمكن تحقيقه بالحوار اليوم سيصعب الوصول إليه بعد شهور، وهنا تقع المسئولية بالدرجة الأولى على النخبة الأكثر حرصاً، وإدراكاً من الطرفين، وثانياً على الدول العربية ولاسيما جمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية لما لهما من حضور، وتأثير، ولما لهما من مصلحة في إيجاد حل للمأزق الفلسطيني القابل للتصدير، والآخذ في الاتساع.وكي لا تتكرر دعوات الحوار بلا أصداء، فإن بدء الحوار ونجاحه رهن بالالتزام باستحقاقاته السياسية، والإدارية، والتنظيمية التي برزت في الميدان، وكل حوار لا يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الجديدة لن يكتب له النجاح، ولن يأخذ طريقة إلى التكوين، هذا ما تقوله “حماس”، وهذا ردها الضمني على دعوة القاهرة للحوار، فهي ترى قوة تنظيمها، وتماسك أنصارها، وصمودها العسكري الذي أوصل إلى تحقيق التهدئة مع إسرائيل، وترى قدرتها في تجاوز سنة من الحصار المجرم، ونجاحها في ترتيب البيت الداخلي في غزة، بالإضافة إلى عدم التقدم في المفاوضات السياسية مع إسرائيل، ترى حماس كل ذلك عناصر قوة في يدها. ولما كان الحوار شكل من أشكال التفاوض، ولكل مفاوض أوراق قوة، ووسائل ضغط، فإن الدعوة للحوار في حد ذاتها لن ترضي “حماس” ما لم تعالج أساس المشاكل التي تتوالد بين الطرفين، ومنها؛ بعث الحياة في منظمة التحرير الفلسطينية، بحيث تضم كل القوى الفلسطينية وفق حضورها الميداني، وترتيب البيت الفلسطيني، ومؤسساته، والاتفاق على قواسم سياسية مشتركة، وفي مقابل ذلك، فإن “فتح” لن ترضى بحوار لا يضمن عودة السلطة إلى غزة، والاتفاق على موعد مبكر للانتخابات الرئاسية والتشريعية، تعطي للفائز فيها مطلق الحق في تمثيل الفلسطينيين، و”فتح” تراهن على الشارع الفلسطيني، والتفافه حولها ـ وفق حساباتها ـ ولاسيما بعد تجربة “حماس” في السلطة، واحتكاكها المباشر مع الناس من موقع المسئولية، وما رافق ذلك من تضخيم لبعض الأخطاء التي وقعت فيها. إن الأصل في الحوار هو الاتفاق بين المتخاصمين، أو المتحاربين، وهذا يتطلب تنازل من المتحاورين عن كثير من المواقف المعلنة، والقناعات الراسخة، وإظهار حسن النوايا، والمسئولية العالية تجاه الطفل الذي ستحرص أمه الحقيقية على عدم تمزيقه إلى نصفين.