أصوات أبواق السيارات في الصباح الباكر تخترق الصمت، العصافير تولي هاربة وتترك مهمتها لرجال تكاد أصواتهم تخرق جدار الصوت، وأطفال يركضون هربا بعيدا عن المكان، وآخرون يركضون تجاهه لمشاهدة الحدث، وسيارات إسعاف تحضر بالمعية.هذا ليس مشهد لاجتياح، أو لمواجهات مع الاحتلال، وليس مشهد سئمنا مشاهدته لتناحر الإخوة في غزة، أو لقمع مسيرة في الضفة، إنما لمشهد اعتدنا على مشاهدته مرغمين في شوارع قرانا وبلداتنا إنه مشهد لـ “طوشة”.هذا المشهد بات مألوفا جدا لدينا، نفس المشهد مع تغير الأبطال والأماكن والمسببات، في ظل غياب أو تغييب للقانون، وسيادة لنظام الفزعة، المبني على “افزع لابن بلدك ظالما أو مظلوما”، وهي قاعدة صحيحة مشتقة من تفسير غير صحيح للحديث النبوي “انصر أخاك ظالما أو مظلوما”.ففي إحدى المشاهد يبدو الوضع عاديا في شارع رئيسي في إحدى القرى، فيرتكب سائق سيارة عمومية خطيئة كبرى، عندما يقوم بالاستجابة لنداء “راكب” سئم الانتظار على الشارع، وهنا يتداعى أقرب سائقي الفوردات المشطوبة قربا من سائق العمومي، وبعد لحظات “عينك ما تشوف إلا النور”، ينتهي صمت المكان، يعم الصراخ، وتستخدم الأسلحة المخبأة عادة أسفل مقعد السائق، وهي عبارة عن “قطعة من الحديد” تستخدم في الأوضاع العادية في نقل المياه إلى المنازل، إلا أن عبقرية شعبنا وجدت لها استخداماتٍ أخرى.مشهد آخر لفتية يشاهد أحدهم الآخر في اليوم أكثر مما يشاهد أمه وأبيه، كيف لا وهم زملاء دراسة وجيران في حي واحد، اعتاد سكانه على العيش في ترابط وسكينة لم تشهد لها الأحياء الأخرى مثيلا، لكنها لم تدم طويلا، فالفتية الأشقاء والزملاء اختاروا أن يلعبوا كرة القدم، وكون ابن فلان لا يمرر الكرة إلا لأبناء عمه فقط، تبدأ المشكلة صغيرة، فتكبر وتكبر وتنتهي بعدد من الجرحى وبخلافات لا تنتهي بانتهاء المشهد.أكثر تلك المشاهد إيلاما عندما يجتمع الأقارب على قطعة أرض، منظر الكوفيات المزينة بالـ “عقالات” السوداء، يبعث الطمأنينة في النفوس، كيف لا ووجود كبار السن يشير دوما للأمن والأمان، ولكن فجأة يبدو المشهد مختلفا، يبدأ بعبارت رنانة، وسرعان ما يبدأ كبار السن في الطلاق من “نسوانهم” و “شواربهم”، ومن ثم يكشر الشر عن أنيابه، فيعلوا صوت الرصاص، وينتهي “جمع” أبناء العمومة بعدد من القتلى.لم ينته المشهد بعد، جثمان القتلى يوارى الثرى، وفي الوقت ذاته يتولى فتية اصطلح الناس على تسميتهم “بالغاضبين” أو “أصحاب الدم الحامي” حرق منازل أقربائهم ممن ارتكبوا الجريمة، ولن يتوقف الأمر هنا حتى يكتمل المشهد بعائلة ثكلى، قتل أبنائها بعضا، فمات من مات وتشرد من تشرد واعتقل من اعتقل.أعداد القتلى والجرحى باتت تتصدر عناوين الصحف، تخرق العادة، وتخترق المألوف، حتى أننا احترنا عن نوع المشاعر التي يجب أن نشعر بها عند قراءتنا خبرا من هذا النوع، أنبكي أم نضحك أم نلطم أم نندب حظنا، أم نشمر عن ألسنتنا ونلعن اليوم الذي ولدنا فيه.وبما أننا شعبٌُ محتل وأصحاب قضية وطنية، لا زلنا نؤمن بأنها عادلة، ولدينا أهداف في التحرر والاستقلال، رغم محاولات البعض الالتفاف عليها، وحرف مسارها، اعتدنا على أخبار الشهادة، فكانت مشاعرنا مزيج من الفرح والحزن، بين الألم والفخر، لأننا نؤمن بأن من تصدرت أسمائهم عناوين الصحف سقطوا في سبيل قضية عادلة.رويدا بدأنا رغما عنا نتعود على عناوين جديدة، فبعد أن منحنا العالم شهادة الجودة والتميز في الفلتان، كوننا شعب أصبح منفلتا طوعيا، وبعد انفلات الألسن، انفلتت البنادق في جنوب البلاد، وضاق حال العباد، وصار الأخ جلادا، والإحساس جمادا، وأصابتنا حالة إدمان على عنوان جديد هو ضحايا الفلتان.وهنا نتساءل ماذا سنسمي ضحايا الطوش، ضحايا فلتان، أم ضحايا عصبوية، أم ضحايا فزعة، أم سنصدر قرارا باحتسابهم شهداءً عند الله، ومن سيتحمل مسؤولية سقوطهم، وكيف سنتعامل معهم عندما نذكرهم، ومن سيوقف رحلة الأخذ بثأرهم.في العناوين الأولى الاحتلال يتحمل المسؤولية الكاملة، فكوننا شعب محتل يجب أن نحمل الاحتلال المسؤولية، وفي العناوين التي نجمت عن الفلتان، يتحمل الاحتلال أيضا المسؤولية كيف لا وهو الذي يثير نار الفتنة بين الأخوة، وهو من يصدر الفتاوى ويؤجج المواقف، ويسقط العلم ذو الألوان الأربعة يرفع علما من لون واحد، وهو من يصادر الحريات ويقمع المسيرات.أما بالنسبة لضحايا الطوش، فلا يعقل أن نبقي شماعة الاحتلال فارغة، يجب أن يتحمل الاحتلال المسؤولية، وبما أننا شعبٌ محتل، يجوز لنا ما لا يجوز لغيرنا، لأننا مقهورون وغاضبون دوما، ومضطهدون و”دمنا حامي دائما”، وأسلحتنا صدأت بفعل التهدئة، فاستخدمناها في حصص تدريبية أوقعت عددا من القتلى، لن تجدوا أحدا يصدق هذا العذر في كل العالم.ولأن غاندي قال “احمل فأسك واتبعني”، فسار الثوريون على خطاه وقالوا “احمل بندقيتك واتبعني”، وبما أن البنادق نامت بفعل ما نحن فيه من سلام واستقرار ودعوات للتهدئة، وباتت مواجهة الاحتلال ضررا بالمصلحة الوطنية في جنوب البلاد وشمالها، بات شعار “احمل عصاتك واتبعني” هو الشعار الأمثل ليفرغ شعبنا طاقاته المهدورة.ومهما بحثنا فلا أحد يملك حلا سحريا لهذه الظاهرة، فلا حكومة العم سلام قادرة على فرض الأمن بفعل الاحتلال، ولا سلطة الشيخ أبو فلان الشعائرية قادرة على فرض الأمن، كون هيبة العشيرة أهم من كل شيء، ولا القوى الوطنية لديها الوقت لأمور هي من مسؤوليتها أصلا، لكن التكامل بين الجميع قد يكون الحل الأمثل، ع
لنا ننام طويلا ونصحوا دون أن يكون في الأفق “طوشة”.