كثيرة هي المعايير التي يتحدث عنها الباحثين حول درجة تحضر هذا المجتمع أو ذاك .. يقولون التكنولوجيا والعلم، الاستقرار السياسي ـ الاقتصادي، دور المرأة في الشأن العام، المال ومتوسط دخل الفرد، عدد الكتب التي تصدر سنوياً، عدد رياض الأطفال والمراكز الثقافية ودور السينما نسبة لعدد السكان .. وإلى آخر هذه المعايير التي يعتبر كل منها صحيح بمعنى ما، أو في إطاره الجدلي والتاريخي .لكنني أرى أن هناك معياراً أهم وأعم وأبعد .. ومن الصعب قياسه بالأرقام المباشرة، وربما هو المعيار الكامن في روح وجوهر المعايير السابقة، إن معيار الحضارة والتحضر الحقيقيان هو ثقافة الاختلاف .. ومدى قبول الآخر .. مهما بدا بعيداً ومختلفاً، معارضاً ومتعارضاً.. الآخر الإثني والعرقي والقومي والطائفي والمذهبي.. الآخر الماركسي والوجودي، الإسلامي والعلماني، المؤمن والملحد .. أن نقبل الآخر، يعني أن هناك مساحة جغرافية وقانونية ـ حقوقية، مساحة إنسانية مشتركة، داخل وطن أو أمة هي ملكية مشتركة لا يجوز احتكارها أو تسويرها أو الهيمنة عليها تحت أية حجة أيديولوجية أو شعاراتية، لا ثورة ولا تثوير ولا النص المطلق أو النص الوصي على مستقبل البلاد والعباد يبرر مصادرة الآخر ورأيه.في ثقافة الاختلاف نقرأ التاريخ العالمي بوصفه انقساماً ليس بين الرأسمالية والاشتراكية، وإنما بين الديمقراطية والاستبداد، وعليه لا فرق بين الإدارة الأميركية التي تتحدث عن (يد الله) في حروبها، وبين أسامة بن لادن الذي قسم العالم إلى دارين، إحداها للكفر والأخرى للإيمان .. فكلا الجهتين تنطلقان من عقيدة تحتكر الحق والحقيقة .. والآخر عبارة عن شيطان يجب القضاء عليه واقتلاعه من العالم.أليس مهماً على الصعيد الحضاري ، وبالمعيار الذي يحرص على الوطن والمواطنة أن نميز بين سياسة يضعها الفكر/النقد/ قوة النفي، الفكر الذي يعبر عن حركة النمو والتغير ، وبين سياسة تضعها الأيديولوجية/ العقيدة/ الدوغما، الأيديولوجية التي تعبر عن الثبات والسكون والتحجر.بمعنى الفكر الذي يقوم على الأنا والآخر بالمعنى الوطني والقومي، بخلاف وتعارض مع العقيدة التي تقوم على ثوابت مغلقة ورؤية ذاتوية إلى الأنا والآخر معاً.أعتقد هنا يكمن الخلل الكبير في حياتنا العربية والإسلامية، وربما يختصر حالة الاستعصاء التي نعاني منها حيال العصر والكون معاً ..ألم أقل أن المعيار الحقيقي والبعيد وربما الأزلي، لأية حضارة، هو مدى قبول الآخر .. وأن تعميم ثقافة الاختلاف هو الخطوة الأولى نحو بناء دولة وطنية لكل أبنائها؟!