نَشَأَت الأخلاق والآداب في المجتمعات القديمة استجابة لصيرورة الصراع المادي بين القوى المنتجة داخل تلك المجتمعات. وقد تعارف الناس على مجموعة من السلوكيات الحميدة لفترة مضطردة ومتواترة من الزمن، وألفوها حتى تكوّن لديهم اعتقاد بأنها ملزمة، وأطلقوا عليها مصطلح “العرف”. أما القانون فقد ارتبط بنشأة الدولة، وبمبدأ “العقد الاجتماعي” الذي شرحه المفكر جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau1712-1778. يرى روسو أن البشر لم يكن بمقدورهم خلق قوى جديدة تحمي أرواحهم من الهدر أو العوز، وتُحوِّل حيازاتهم لأدوات الإنتاج إلى ملكية جماعية، وتوحد جهودهم نحو العمل والبناء لصالح الجماعة، وتجعل المجتمع بأسره ضامناً لحقوق أفراده. لذا تنازل أفراد المجتمع الضعفاء للأقوياء عن شيء من حريتهم اللامحدودة لمنح الأقوياء سلطة “حكومة” تمثل الإرادة العاقلة القادرة على تدبير شؤون أبناء المجتمع وحمايتهم وتأمين حريّتهم، وقد عُرف التنظيم الجديد باسم “الدولة”. وهنا كانت الحاجة لسن قوانين توزع الحقوق والواجبات وتجرّم التعدي على مكتسبات الآخرين، وشُكّلت قوات الأمن والجيش لتطبيق القانون والحفاظ على السلم الاجتماعي.فقواعد الأخلاق والآداب الإنسانية لا تختلف كثيراً عن قواعد القانون، بل هي قانون غير مقنن يمثل أعمق طبقة في الحقيقة القانونية. ويجب القضاء على الوهم السائد بأن التطور التشريعي هو ثمرة تفكير الأفراد، لأن طبيعة الصراع المادي للقوى المنتجة على الأرض تولّد ضغطاً اجتماعياً يحرّك وجدان المشرعين بغية تنظيم المجتمع. وبذلك فالقانون يتصل عضوياً بضمير المجتمع، ويتعين أن يعبّر عن شعوره الجمعي، فيحقق مصالح الجماعة ويساوي بين الناس في تطبيق النصوص، ويواكب التطوّر الاجتماعي المرتبط بتطور علاقات الإنتاج.فإذا فقد المشرع ارتباطه العضوي بقاعدته الشعبية وإرادتها الجمعية، واتحد بإرادة سلطة مستبدة أو جماعات ضغط تمثل مصالح الأقلية أو قوى دولية استعمارية، فإن القانون بذلك يقوّي الأقوياء -وإن كانوا قلّة- ويضعف الضعفاء على كثرتهم، فيغدو إنتاج المشرّع آيلاً للزوال، لأن تدخله لا يستطيع مقاومة التيار الاجتماعي الجارف والمتجذر في الحتمية التاريخية، وهنا قد يقوم أشخاص نخبويون بأفعال من شأنها إعادة توجيه دفة العدالة، فيصطدمون بتجريم القانون (المنحرف) لأفعالهم، غير أنهم يتقوّون بتعاطف المجتمع مع تمردهم. وقد قال روسو: “إن الفرد المتحد مع الجميع يبقى حراً كما كان من قبل” كضمانة للتمرد على السلطة الظالمة اللاشعبية. ويؤكد المؤرخون أن روسو كان ضمن كوكبة من المفكرين الفرنسيين الذين غرسوا بذور النقمة على الطغيان في فرنسا القديمة، ومهدوا الطريق للثورة الفرنسية (1789 – 1799).وتطبيقاً لما سبق، “فجرائم إرساء العدالة” هي مجموعة من الجرائم التي يستهدف مرتكبها إحقاق ما يراه عادلاً ومشروعاً -أيديولوجياً – لا وضعياً، في إطار فهمه للعدالة، بعيداً عن تحقيق أي نفع ذاتي مباشر. ولذلك يطلق بعض الفقهاء المتعاطفين مع هذا النوع من الجناة مصطلح “المجرم الفاضل”. والمجرمون الفاضلون متحدون بأخلاق مجتمعاتهم، تحركهم بواعث شريفة، تشمل من جهة بعض الجرائم العاطفية التي يندفع إليها “المجرم الفاضل” تحت تأثير عاطفة جامحة كالحماسة والغيرة والشفقة والحب والكراهية، كما تشمل من جهة ثانية الجرائم السياسية والدينية التي يندفع إليها مرتكبها تحت تأثير عقيدة يرى فيها خلاصا لوطنه ولأسرته فينتصر لها ويحاول تغليبها بالقوة.يعتقد “المجرم الفاضل” الذي يسعى لإرساء العدالة أن الإشكال الحقيقي يكمن في الهياكل والبنى القانونية التي تسيطر على دوائر القرار في دولته، ويرى أن نصوص القانون لا تحمي موضوع الحق الذي اعتنقه، رغم اتصال جوهر الحق بالأخلاق والمصلحة العامة والدين وفق رؤيته. وبالتالي يرى أن القانون ببساطة لا يؤدي دوره في الدفاع عن قيم مجتمعه والحفاظ على الأمن والسلم، مما يعني أنه في حلٍّ من عقده الاجتماعي مع الدولة، وأنه أحد المخلّصين وحرّاس الفضيلة الذين أوكل الله والضمير الجمعي الشعبي لهم مهمة تطبيق العدالة بذواتهم، حتى لو تطلب الأمر التضحية بأمنهم وحياتهم الخاصة.”روبين هود” Robin Hoodعلى سبيل المثال فارس شجاع ينتمي إلى العصور الوسطى، عاش في غابات شيررود الإنجليزية وعمل كقاطع طريق وخارج عن القانون. وتقول الروايات أنه اعتاد وأتباعه المائة وأربعين الهجوم على الأغنياء وقتلهم وسلبهم، ليعتاش ومن معه من الرجال، وليطعم الفقراء ويعيد توزيع الثروة. آنذاك اُعتبر هود مجرماً مطلوباً للعدالة، أما الآن فهو بطل أسطوري حارب الظلم الطبقي والطغيان. وقد أَطلق الإنجليز اسمه على قلعة نوتنغهامNottingham Castle الشهيرة، التي يؤمها عشرات السياح يومياً لالتقاط الصور التذكارية إلى جانب تمثاله، ويبتاعوا التذكارات التي تحمل نقوش اسمه وصورته. القصص المعاصرة كثيرة وكلها تدور حول فشل العقد الاجتماعي في محاربة الفساد والتفاوت الطبقي في حوادث متكررة .. في مصر شاب يقتل ويسلب مخدوم فتاة أحبّها، لأن الأخير اعتاد تعذيب حبيبته والتحرش بها. شاب غيور يقتل شاباً ويجرح آخر لأنهما تحرشا بخطيبته وأهاناها. في ألمانيا شاب يساري يغري المثليين الجنسيين للخروج معه في نزهة ثم يقتلهم. في أمريكا رجل شرطة يطارد المجرمين الذين أفلتوا من الأحكام القضائية لنقص الأدلة ويقتلهم. في روسيا زوجة توافق زوجها على مساعدته في إنهاء حياته لإراحته من عذابات مرض السرطان “القتل الرحيم”
. في كولومبيا شاب يسطو على بيت قواد شهير ويسلبه ماله، لدفع مصاريف عملية جراحية لوالدته. آلاف المسلحين يقاتلون في مختلف بقاع الأرض لنيل حريتهم واستقلال أوطانهم أو الانتصار لأيديولوجياتهم. أعداد غفيرة من “المجرمين الفاضلين” في عالمنا المعاصر اعتقلوا بموجب قوانين محلية ودولية وحوكموا وأودعوا السجون لارتكابهم جرائم دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية. اليوم قد يطلق عليهم صفة “مجرمين”، لكن غداً، وبعد تكسير التحالفات التاريخية الشريرة بين الاستبداد السياسي ورأس المال المحتكَر، فربما يدعون بالشهداء والثوّار والأبطال ودعاة الفضيلة، وتشيّد لهم النصب التذكارية والصروح المجيدة.المجرمون الفاضلون سيطرت عليهم رؤى وجدانية جسّدت المكوّن الأخلاقي والتحريض الاجتماعي داخلهم، فحركتهم لتكسير قيود التخلف والظلم وصولا إلى الإنعتاق الأسطوري نحو الحرية. دكتوراة في القانون الدولي الإنساني /أمريكا [email protected]