سنة 334 قبل ميلاد السيد المسيح، احتشدت جيوش الفرس بقيادة ” داريوس” التي كانت تهيمن على العالم في ذلك الوقت، لمواجهة جيوش الإغريق الصاعدة بقيادة “الإسكندر المقدوني” ولكن قبل المعركة الفاصلة بين الجيشين، اقترح ” داريوس” إمبراطور الفرس على الإسكندر المقدوني: أن يتقاسما العالم، بأن يحكم الإسكندر الغرب، وأن يحتفظ داريوس بحكم الشرق، وبعد أن فكر الإسكندر بالأمر، استشار صديقة ” بارمينيو ” فما كان من الأخير إلا أن رحب بالفكرة، فهي أحقن للدم، وتضمن للإغريق نصف العالم.صمت الإسكندر دون تعليق، فما كان من صديقة أن سأله: وما رأيك أنت أيها الأمير؟فأجابه الإسكندر: لو كنت ” بارمينيو” لوافقت على تقاسم النفوذ، ولكنني الإسكندر المقدوني!!قد لا يعيد التاريخ نفسه على رقعة الجغرافيا نفسها، وقد يتكرر بشكل مغاير.قبل الميلاد كان الفرس هم الدولة المهيمنة على المنطقة، وكان اليهود حلفاءهم، وهم الذين أعادوهم من السبي إلى أرض فلسطين، وساعدوهم في بناء الهيكل الثاني كما يزعمون، اليوم تبدو الصورة مغايرة؛ الدولة العبرية صديقة أمريكا، القوة المهيمنة على المنطقة، وإيران قوة صاعدة، تعرض عليها أمريكا رزمة حوافز، وبدأت مباحثات مباشرة بين الدولتين حول برنامج إيران النووي، والاعتراف بمكانتها في المنطقة، لتقاسم النفوذ بين الطرفين، فهل يقبل الرئيس الإيراني المسلم أحمدي نجاد، عرض الإمبراطور “جورج بوش”؟ الدولة العبرية على عكس ” بارمينيو” لم يرق لها تقاسم النفوذ، إنها لا ترى إلا يد إسرائيل العليا، وقوتها العسكرية، والاقتصادية، ونفوذها السياسي الوحيد في المنطقة، مدعوماً من أمريكا، فراحت تعد نفسها، وتجهز قدراتها لضرب إيران عسكرياً، ومسح أي نفوذ سياسي لأي كان، ينافسها في الشرق، أو يخطف منها مكانتها، وهي تعرف أنها لن تقف وحيدة، وسيجبر حلفاؤها للوقوف إلى جانبها، وهذا ما يرتب له ” أهود باراك” في زيارته الراهنة لأمريكا التي أعقبت زيارة رئيس أركانه ”جابي أشكنازي” قبل أيام، وكان الأخير قد صرح بعد لقائه مع نظيره الأمريكي، ومع قادة الجيوش: أن إسرائيل جاهزة لجميع الخيارات.خطوة إسرائيلية إلى الوراء. وكي تكون الدولة العبرية جاهزة لكل الخيارات، كان لا بد من خطوة إلى الوراء على الحدود مع لبنان، وغزة، وسوريا، وهذا ليس بادرة حسن نية، وانفتاح الشهية الإسرائيلية فجأة للسلام الذي تنزل عليها مليكه من السماء، وإنما خطوة إلى الوراء، لتخطو الدولة العبرية مائة سنة إلى الأمام في عملية حسم تنامي الدور الإيراني في المنطقة، ومدى تأثيره على الدولة العبرية، كما قال “إفرام هاليفي” رئيس مؤسسة الاستخبارات العسكرية السابق، “بأن الهجوم على إيران سيؤثر على إسرائيل لمائة سنة قادمة، ورغم تأكيده لصحيفة “تايمز” بأن الهجوم على إيران يجب أن يكون المحاولة الأخيرة، ولا داعي للخوف من صواريخ إيران، وأن إسرائيل لا تنظر بارتياح إلى تغير العلاقة الأمريكية تجاه إيران.فهل بات الهجوم على إيران وشيكاً؟ ونافذة الفرص تقع في الفترة الممتدة من الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر، وحتى أداء الرئيس للقسم الدستوري في يناير، كما تقول مصادر إسرائيلية مسئولة؟ أم كل ذلك مجرد مناورات إسرائيلية تهدف إلى التأثير على القرار الأمريكي في حالة توجيه ضربة، أو تقاسم النفوذ؟بعيداً عن المناورات العسكرية التي تمت تغطيتها إعلامياً، أقدمت الدولة العبرية على استكمال الاستعدادات للهجوم على إيران بخطوات سياسية مدروسة، وميدانية مكشوفة، تتمثل بالفصل بين مصالح إيران، ومصالح كل من الأطراف المحيطة بإسرائيل، ومن ضمنها؛ محاولة تحييد حزب الله بالكامل، إن أمكن ذلك، وسحب كل الذرائع والحجج لئلا يكون شريكاً في المعركة ضد إسرائيل، ولعل صفقة تبادل الأسرى جزءاً من هذا التوجه، وما قيل عن بدء الاستعدادات الإسرائيلية للانسحاب من قرية الغجر، والتسليم بمزارع شبعا للأمم المتحدة إلى حين البت بأمرها بين سوريا ولبنان، ومن ثم تحريك الجبهة الداخلية في لبنان للضغط على حزب الله، لئلا يزج بمصالح اللبنانيين على مذبح الإيرانيين.ومع ذلك، فإن حرباً تشتعل بين إيران من ناحية، وبين إسرائيل وحلفائها من ناحية أخرى، ويشارك فيها حزب الله إلى جانب إيران، يبقى سهلاً على وسائل الإعلام تصوير الحرب على أنها حرب ضد دولة الفرس، وضد الشيعة، ولصالح العرب السنة، فأين هم العرب على مختلف أطيافهم، وطوائفهم، ومن يمثل مصالحهم في توازن القوى الدولي.غزة، رأس حربة القضية الفلسطينيةإن مكمن الخطر الذي يهدد المخطط الإسرائيلي لضرب إيران هو غزة، التي تمثل عسكرياً رأس حربة القضية الفلسطينية؛ وصمام الوجدان العربي، والإجماع العربي، وهذا ما أظهرته استطلاعات الرأي الأمريكية الأخيرة في عدد من الدول العربية تمتد من المغرب حتى الإمارات، مروراً بمصر والأردن، والسعودية، ولبنان، ونشرها مركز “سابان” لسياسة الشرق الأوسط” الذي يشرف عليه مارتن أنديك، ويظهر أن نسبة كبيرة جداً من العرب لا تزال تصنّف القضية الفلسطينية على رأس أولوياتها الشخصية والعامة، وأن الاتجاه المسيطر على الرأي العام العربي هو تقديم أكبر دعم لحماس، وحزب الله. هنا تكمن أهمية غزة، والضفة الغربية، وهنا تكمن أهمية حماس الإستراتيجية، وتداعيات المشاركة في العمليات الحربية إلى جانب إيران، وحزب الله ضد إسرائيل، لتصير الحرب عربية إسلامية، ضد أعداء الإسلام والعرب، ولا يمكن تسو
يقها على أنها حرب ضد الشيعة، كما تحاول وسائل الإعلام تمرير ذلك على الجماهير العربية، وليست حرباً ديمقراطية ضد الإمبراطورية الفارسية، كما تحاول بعض الأقلام العربية تصوير ذلك، إنها حرب المائة العام القادمة، التي حتماً ستحرج كل الأنظمة العربية، وتغير وجه المنطقة، وتحرك بلا أدنى شك الشارع العربي متعاطفاً، ومتضامناً، ضد الغرباء ولاسيما إذا طال أمد الحرب، وتعرضت إسرائيل للقصف الصاروخي الإيراني بعيد المدى، والقصف من لبنان، وغزة، لقد تنبه لذلك ” إيتان هابر” مدير مكتب ” اسحق رابين” سابقاً، وكتب في صحيفة “يديعوت أحرنوت” أن إسرائيل تواجه مخاطر وجود، ويطالب بحكومة طوارئ في إسرائيل، تواجه خطر لبنان، وسوريا، وغزة، والتي سيجد تعبيره فقط إذا ما استخدمت القوة ضد إيران، ويحتمل أن يكون كل خطر من هذه المخاطر يتحقق بمفرده، أو تتحقق مجتمعة، الأمر الذي وصفه “اسحق رابين” ذات مرة بـ “حالة الكُل” عندما ينهض كل العالم العربي ضد الدولة العبرية لإبادتها.
لقد حرصت الدولة العبرية على تحقيق التهدئة مع حماس في غزة، وتسكين الجبهة رغم أنها قليلة التأثير العسكري الموجع، والحاسم على إسرائيل، ولكنها كثيرة التأثير المعنوي والسياسي على مجمل المنطقة، فهل ستسكت غزة مع دوي أول صاروخ إيراني ينطلق إلى تل أبيب؟ وتنتظر في طابور التصفية، أو التسوية على الطريقة الإسرائيلية؟