مقولة كومفيسيوش الخالدة : بأن الإدارة العامة ، هي وسيلة الحكم الصالح ..! ربما تعيننا على تذكير وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، وجامعاتنا العراقية والمعاهد التعليمية ، بضرورة الاهتمام بفتح الأقسام العلمية ، ذات الأثر الصالح على سلوكيات خريجيها من الطلاب ، عندما ينخرطون في الحياة العملية ضمن مؤسسات الحكومة والمجتمع ، وقسم الإدارة العامة ، يمثل خير معين لها في ذلك ، لكونه من الأقسام النموذجية ، التي تعكس أخلاقيات العمل الوطني النبيل والأداء الإبداعي الرفيع لخدمة الوطن والمجتمع .
إذْ لا يخفى على أحد من الناس ، ما الدور الحيوي ، الذي تؤديه الجامعة في بناء أخلاقيات المواطنة الصحيحة والإصلاح ، وفي أداء الرسالة العلمية والمهنية المهمة لبناء المجتمع ، بما يعزز في السلوك الإنساني العلمي والسلوك الاجتماعي المحيط ، كلَّ قيم الأفعال الموضوعية والنزاهة الوطنية وغايات العمل الصالح والتلاحم من أجل التنمية .؟
أي أن الجامعة مؤسسة وطنية عامة ، لا ينبغي تجريدها من هذه الصفة الجوهرية ، المرتبطة بالأخلاق العلمية والقيم والإنسانية بغلق أو العمل على غلق ، أو تحجيم الروافد التي تبثُّ قيم الفعل الموضوعي والنزاهة الوطنية وغايات العمل الصالح فيها ، تماشياً مع الشعور التخلُّفي السائد الذي يبثه الفاشلون الإنتهازيون ، الذين يسعون إلى تقليد التقليعات الغريبة الحاصلة ، من غير وعيٍّ بمخاطرها ، ولا دراسة علمية تبيّن جدواها وفائدتها .
صحيح أنَّ التفكك العلمي أصبح مسيطراً على الأداء الجامعي العام ، ضمن جامعاتنا العراقية ، التي أصابها الاحتلال الأجنبي بانعكاساته المدمرة ، وحطم منهجيتها في تأدية أدوارها ، والحدّ من قدراتها نحو ازدهار الفكر ، ونحو تعميق الثقافة الأصيلة في البيئة العراقية ، والمحيط الاجتماعي للعراقيين ، لكن ليس مقبولا تماماً الاستسلام ، لكل من هب ودب ، أن يعمل حسب شهواته الخاصة ، على تهديم الصروح الكبيرة ، التي تهمُّ كلَّ الناس ، لمجرد أن واحداً ما – مسؤولاً ما – يرغب بذلك ، دون حجة ولا ذريعة ، عدا عن كونه يمارس تعسفاً في استغلال المنصب ، إرضاء لجهله ، أو إشباعاً لغليله الضالع ربما في الفساد ، لا أكثر ولا أقل .
فقد كتبنا سابقاً ، وتساءلنا ، فيما لو كانت جامعاتنا العراقية ، قد فقدت جذوتها العلمية ، ورسالتها التعليمية ، ومسؤولياتها الوطنية ، وتحولت حقاً إلى مقابر جامعية ، أسوة بالمقابر الجماعية ، وشخصّنا في حينها ، أسباب ذلك التحول وعزوناها ، إلى وجود الاحتلال ، واضطراب الأوضاع الأمنية ، وإلى وجود روؤساء فاشلين متقوقعين على أخطاء وخطايا وفساد ، أحدثوها ضمن جامعاتهم ، وإلى الاضطلاع ببرامج ونشاطات وهمية ، ليس لها جدوى ، غير ذلك المنحى الفرداني ، والانخراط فيما يسمى : الخريف الذهبي الكاذب ، الذي كان يتشدق به أميون جامعيون ، وأساتذة انتهازيون ، غلب عليهم طابع الحزبية والعشائرية والفئوية والجهوية ، لتتحول الجامعات إلى ثكنات مادية دون رمز أو مكانة معنوية ، رفيعة المستوى في العطاء والعدالة والحضور .
وكانت جامعة الأنبار واحدة من تلك الثكانات الفاقدة لخواصها العلمية والتعليمية ، بفعل همرات الاحتلال الداخلة إلى حرمها ، أو التي تبيت فيها ، فضلا عن الفساد والإحباط العلمي التام ، الذي لوث دماءها من الوريد إلى الوريد ، ونهش لحمها من جميع الأطراف والمواضع ، ومصمص عظامها وعكّازاتها ، فلم تعد قادرة على السير والجريان ، تحت جميع الأحوال والظروف ، فاختفى المنهج ، وشح البحث ، وتعثر الدرس ، ونام المسؤول ، ونافق المنافق ، وحورب الناصح .
واليوم ، مازالت الجامعات العراقية ، تعاني من غيبة المرتكزات العلمية ، ذات الأبعاد الإستراتيجية ، التي تجعل منها جامعات وطنية للإبداع والسلوك الصالح وبناء القيم العالية ، المترفعة على الأخطاء القائمة ، كما أن القناعة ينبغي أن تتزايد وتتدعم ، حول كون الجامعات هي الرافد الحقيقي الحيوي للوطن وللمناداة بتعميق روحية المصلحة الوطنية العامة ، والعمل على ما يخفف من معاناة الناس، من خلال شريحة المتعلمين من أجيال الشباب المدركين لمسؤولياتهم حيال المجتمع والوطن .
فالجامعة والمجتمع والوطن ، لا يحتملون وجود بعض المسؤولين الجامعيين ، الذين مازالوا يؤمنون ببزنزة الأخلاق ، ويحاولون فرض عوقهم الفكري ، وهم يميلون إلى سحق مفاهيم ( المجال العام – Public Realm ) و ( المصلحة العامة Public Interest - ) و ( المواطنة العامة –Citizenship Public ) ويعملون بالخفاء كمنظومة فاقدة لمسؤوليتها تجاه الجامعة والمجتمع وحتى الوطن ، دون صراحة علمية أو ضوابط علمية ، ولا حتى أخلاق علمية أو مهنية متعارف عليها على صعيد التعليمات الوزارية والسياقات القانونية ، في سبيل غلق أو تدمير القسم العلمي ، الموجود في بعض كليات الإدارة والاقتصاد ، والمعروف تحت مسمى قسم ( الإدارة العامة –Public Administration ) الذي هو طريق العلم إلى الإدارة العامة بوصفها وسيلة الحكم الصالح .
إنَّ أهمية وجود قسم متخصص للإدارة العامة في كل جامعة عراقية ، سيؤدي إلى عقلنة النوايا والتصرفات والحد من الطيش وتقليل الأخطاء ، سواء في سلوكيات الموظفين الإداريين ، أو عند شريحة مهمة من شرائح الخريجين العاملين في المجتمع ، بوصفهم مواطنين صالحين ، متهيئين للإتخراط في منظمات الدولة والحكومة والدوائر العامة وغيرها ، وهم عارفون بواجباتهم في تأدية الأمانة بعيداً عن الجشع الشخصي والربح الخاص ، وبعيداً عن نوازع الفساد ، التي شابت وما زالت تشوب الدوائر العامة والمؤسسات الحكومية القائمة .
وبالتالي فقسم الإدارة العامة ، بمثابة مصنع وطني متميز ، يرفد المجتمع بعناصر أكاديمية مؤهلة ، وبتخصصات علمية متزودة بثقافتها الإدارية العامة ، وبمعرفتها الأكيدة بفلسفة الإدارة العامة ، والعمل في خدمة المصلحة العامة لكل الناس دون تفرقة ولا عنصرية ولا تحزبية .
ولمن لا يعلم المفردات الدراسية لهذا القسم ، وأخص بالذكر منهم مع بعض الناس وروؤساء الجامعات ومساعديهم العلميين وحتى الإداريين وعمداء الكليات والأساتذة ، الذين يُطبّلون ( للخصخصة ) عن طريق أساليب غير علمية ، تقضي إطلاق النار على مفهوم ( العام ) جزافاً ، ويتغنَّون بضرورة إحلال ( آليات السوق والتنافسية ) بطرق غير مدروسة علمياً ، للإجهاز على ( صلاحيات الحكومة ) مجاراةَ لموضة العولمة لا أكثر ولا أقل ،
إنَّ قسم الإدارة العامة ، الموجود ضمن بعض الجامعات العراقية ، هو قسم علمي له نكهة وطنية ، كبيرة في معالمها وغزيرة في معانيها ، قسم يبحث في دور الدولة والحكومة والمجتمع والمواطن ، من رؤية مؤسسية نظامية رسمية ، تتعلق بضبط السلوك العام ، وجعله ملتزماً بالأطر القانونية السائدة في المجتمع وضمن مدعّمات أخلاقية واجبة ، فهذا القسم يُعنى على سبيل المثال بدراسة مادة : الإدارة الإسلامية ، ويقف من خلالها الدارسون عند تجارب القدوة النبوية للرسول عليه الصلاة والسلام والخلافة الراشدة في الإدارة والحزم والقرارات وإدارة الدولة وطريقة حكم العباد وتدبير مصالحه الشرعية ، بعيداً عن الرشوة والفساد والخلل ، ومادة : السياسات العامة : ومن خلالها يعرف الدارسون ، كيف تتم عملية صنع السياسة العامة ، وكيف يتم تنفيذها وتقويم مساراتها ، وتحليل آثارها ضمن المجتمع ، وتجعلهم في دراية لكل ما يختص بعمل السلطات الثلاث : البرلمان والحكومة والقضاء ومصادر الضغط والجماعات المؤثرة ، كما يُعنى بتدريس الطلاب مادة : التطوير الإداري ، ومختلف النظريات التي تدعو إلى بناء مؤسسات خالية من الظلم والفساد والتقصير والتخلف ، ويبين الأفكار السديدة والتجارب الناجحة ، في إدامة عملية التطوير التنظيمي والمؤسسي ، في حقل الإدارات الحكومية العامة ، وكذلك مادة : الإدارة الإستراتيجية ، لكي يستوعب الطالب بأن الإدارة تعتمد على عمق التخطيط ودراسة بيئة المنظمة والمعلومات التي تقتضيها عملية اتخاذ القرارات الإدارية ، في سبيل بلوغ الأهداف بكل ثقة وتفاعل صميمي بين جميع عناصر المنظمات الإدارية ، ثم مادة : العلاقات العامة ، لجعل الدارسين يعرفون فن الاتصال والتفاوض وأخلاقيات السلوك المطلوب ضمن المنظمات القائمة في المجتمع ، والروابط النظامية التي تجمعها مع الناس في نشر رسالة الحكومة والمؤسسات إليهم ، بطريقة شفافة ، وليس على طريقة رجال القمار ومديري الكازينوهات ومنتهزي الفرص ، ثم هناك مواد تخصصية وغير تخصصية أخرى كثيرة ، مثل : إدارة الموارد البشرية ، وإدارة العمليات ، ونظرية المنظمة ، والمحاسبة ، وإدارة المالية العامة ، بحوث العمليات ، والرياضيات ، والإحصاء ، ومبادئ السياسة ، والاقتصاد ، والقانون الإداري ، واللغة العربية ، وإدارة البيئة ، ونظم المعلومات ، وتطبيقات الحاسوب ، ومشروع البحث الميداني للتخرج ، وغير ذلك ، وهذه يدرسها طلاب هذا القسم ، لكي لا يكونوا منكفئين فقط على تخصصاتهم ، وإنما لفهم القيمة الترابطية بين العلوم الأخرى ، ويصبح بمقدورهم جعل معطياتها ضمن منظومة علمية – أخلاقية ، صالحة للتفعيل والتشغيل في الواقع العملي للمنظمات القائمة في المجتمع .
إن مفهوم الإدارة العامة ، هو ذلك المفهوم الذي يمثل صمام أمان الدولة أو الحكومة في علاقتها مع المجتمع ، خاصة في هذه الظروف العصيبة ، التي أثبت فيه القطاع الخاص ، بأن لا طاقة له في حل م
شكلات المجتمع ، وما يعانيه من بطالة ونقص في الحاجات والخدمات ، ومشاركته في هذا المجال ، باتت محدودة ، وتأتي بطرق تثقل كاهل المواطن ، لعدم قدرة هذا المجتمع على تحمل تكاليف الأرباح العالية ، التي يضعها القطاع الخاص تخطياَ على دخل ذلك المواطن المحدود .
شكلات المجتمع ، وما يعانيه من بطالة ونقص في الحاجات والخدمات ، ومشاركته في هذا المجال ، باتت محدودة ، وتأتي بطرق تثقل كاهل المواطن ، لعدم قدرة هذا المجتمع على تحمل تكاليف الأرباح العالية ، التي يضعها القطاع الخاص تخطياَ على دخل ذلك المواطن المحدود .
إنَّ الدوائر الحكومية ، وأبوابها المشرعة في رفد المواطن بالدخل الثابت ، باتت هي طريق الخلاص النسبي ، لما يعانيه المواطن العراقي من جفاء في التعيين ضمن القطاع الخاص ، وينبغي أن تعمل الجامعات العراقية ، التي ليس فيها أقسام علمية ( للإدارة العامة ) ، على وجه السرعة ، لفتح مثل هذه الأقسام الحيوية ، لكي تكون فاعلة التأثير : في إعداد التخصصات التعليمية ، والقيام بالدراسات والتدريب ، ونقل الرسالة الوطنية للموظف الإداري العام ، ونشر أخلاقيات السلوك الإداري النزيه للمجتمع ، والقضاء على الانحرافات والفساد والتعسف ، وتصبح بذلك جامعات حيوية لها قدرة على التفاعل مع المحيط والعمل على تطوير الموارد البشرية القائمة فيه .
إذ لا يصح أن تهمل الجامعات العراقية تلك الشريحة الكبرى من أبناء المجتمع المنخرطين في العمل الحكومي العام وأجهزته الإدارية الرسمية ، دون أن تكون بوصلتها العلمية المتخصصة ، محطَّ هداية واعتبار عندهم في حاضر أعمالهم وفرصهم المستقبلية في الارتقاء الوظيفي والتأهيل المتكامل ، بخصوص فلسفة الإدارة العامة والاهتمام بالشأن العام .
كما لا يصح أن تسعى الجامعات العراقية ، التي فيها أقسام للإدارة العامة ، على غلقها أو تدمير منجزاتها ، دون شفافية ودون متطلبات علمية مدروسة ، بقدر ما يكون ذلك السعي ممثلا لرغبات شخصية طارئة على الأرجح ، وينطلق منها أصحاب القرار الجامعي المتعسفين ، لما يخدم جهلهم ونظرتهم الأحادية الضيقة ، في تهديم مثل تلك الأقسام أو إخراجها عن رسالتها وغاياتها ، حتى وإن تذرعوا ، كما يحلوا للبعض أن يتذرع : من أنَّ ذلك يصب في رغبة الوزارة والمراجع الرسمية العليا ، وهنا نناشد وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، أن لا تكون مصادقاتها على مثل تلك المطالب والمقترحات نافذة ، لكونها قد تكون رُفعت إليها زوراً ، دون علم المعنيين والمختصين في الكليات والأقسام المعنية ، ودون جدوى حقيقية تذكر ، أو إنها مثلت تعسفاً من صاحب القرار الجامعي ، جعلته يفقد وعيه بالمضامين الوطنية ، التي لا يحق له التفريط بها .
لقد سأم المجتمع العراقي ، من حالة وجود مؤسسات علمية وخدمية ، تسيّرها عقلية اللصوص وغير المؤهلين والفاقدين لقدرة تحملهم على مسؤولية العمل من أجل الصالح العام والمجتمع ككل ، إذْ كيف يعقل وجود مسؤولين في بعض الجامعات ينادون عبر الإعلام بخدمة الناس وتقديم فرص التعليم الجادة والنزيهة لأبناء المجتمع ، وهم بذات الوقت يعملون طبق منطق بزنزة الأخلاق والإتيان بمشاريع مزاجية ، ليس لها مبررات علمية ، من اجل إلغاء قسم الإدارة العامة الموجود في جامعاتهم ، الذي يخدم المنحى العام وهو ناجح بكل المقاييس النسبية للنجاح ، وله دور خدمي مشهود له ، في تدريب موظفي الدوائر الحكومية على أخلاقيات العمل الصالح .؟ طبعا لا يعقل ذلك ، وإن كان موجوداً بالفعل ، خاصة عندما يكون أولئك المسؤولون غير مختصين ولا معنيين بالنجاح ، بقدر ما هم معنيون بمصالحهم الخاصة فقط .
وعليه فالدعوة الوطنية قائمة وموجهة إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وكافة الجامعات والمؤسسات العلمية والتعليمية ، لكي تهتم بحقل الإدارة العامة من خلال التأكيد على فتح الأقسام العلمية المعنية بهذا الحقل الإستراتيجي – التعليمي ، لكونه يُسهم مع منطلقات الوزارة ، وما رشح عن دعوة السيد وزير التعليم العالي الجديد لروؤساء الجامعات ، حول جعل الجامعات رمزاً للانتماء الوطني .
ذلك أن قسم الإدارة العامة في الجامعات ، سيكون بداية العمل على تحقيق تلك الدعوة المهمة ، وسيهم أيضاً في تعزيز روح الوطنية والمواطنة في نفوس مختلف شرائح المجتمع ، ويؤكد فيهم روح العدالة والنزاهة والفاعلية ، ويدفعهم إلى محاربة الفساد والرشوة ولصوص المال العام ، والحد من ظاهرة التخلف الإداري ، والحرص على بناء أجواء إدارية نظيفة ، وإقامة دوائر حكومية مبنية على علاقات إدارية خلاقة ، يسودها الحرص على المال العام ، ويحدوها الأمل بزوال الخلل .