الإطلالة الصيفية المعتادة للنجم المصري عادل إمام جاءت هذه المرة لمناقشة قضية قديمة متجددة: الوحدة الوطنية التي يفترض أن تكون هوية جمعية بغض النظر عن الدين.
التساؤل الذي لابد وأن يطرح نفسه هو عن سبب تأخّر إمام والمؤلف يوسف معاطي في طرق هذه القضية برغم استيفائهما جل الجوانب السياسية في أفلامهما السابقة. ولكن ما يبدو هو أن انخراط إمام في تكريس الصورة “الإخوانية- الإرهابية” عن بعض الشخصيات المسلمة في أفلامه السابقة قد أنساه مناقشة نواح أخرى فيما يخص التدين وعلاقته بالدولة والمواطنة.
وبرغم سعي إمام ومعاطي إلى الابتعاد عن التناول النمطي لقضية الدين والتدين في “حسن ومرقص”، إلا أن بعض المشاهد وقعت في المطبات السابقة ذاتها مثل تسطيح فكر الإخوان المسلمين ووضعه والفكر الإرهابي في سلة واحدة، وتسخيف قدرات “الإرهابيين” وتخطيطاتهم إلى حد يبعث على الضحك برغم اعتراف حتى أميركا والأنظمة العربية بمدى تعقيد تلك التخطيطات ودقتها.
كذلك الحال في عرض النصف الفارغ و”السلبي” من تدين الشعب، إذ لم ترد تقريبا في أفلام إمام السابقة صورة معتدلة وإيجابية واحدة عن المتدينين، برغم الإقرار بحالة التدين الجماعي التي اكتسحت الشعوب العربية جراء ظاهرة “الصحوة”، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن كل ذلك التدين “عشوائي وعلى البركة”!
ولتوضيح أكثر للتناول السطحي للتدين لا بد من التطرق بشكل عام لقصة الفيلم التي تعج بعدد غير قليل من الثغرات والهنات، فعادل إمام يلعب دور رجل دين مسيحي يتعرض لتهديدات من مسيحيين متطرفين بسبب مهاجمته لهم ودعوته للتسامح، وهو نفس ما يحصل مع الفنان عمر الشريف الذي يؤدي دور رجل دين مسلم يرفض الالتحاق بإحدى الجماعات المتطرفة التي تريد تنصيبه أميراً للجماعة بعد مقتل أخيه المتطرف في ملاحقات أمنية، وهذه الجزئية تعد ضرباً من المبالغة، إذ من المفترض أن اختيار أمير الجماعة في تلك التنظيمات المتطرفة يتم وفقا لاشتراطات وتاريخ طويل في التنظيم والتخطيط وليس “من الباب للطاقة”!
وبعد أن يتعرض رجلا الدين المسلم والمسيحي للتهديدات، يقترح الأمن تخفي كل منهما بهيئة دين الآخر كي لا يتعرضا للهجوم. ثمة هفوات عديدة هنا لابد من استعراضها، إحداها: اعتماد الأحداث على إمام فيما يخص تخفيه وتغيير هيئته وترك المشاهد ليستنبط تلقائيا أن ذات الأحداث تحصل مع عمر الشريف الذي اضطر هو الآخر لادّعاء دين غير دينه كي ينجو!
هفوة أخرى تمثلت في سطحية تصوير مشهد الإيذاء الذي تعرض له إمام والشريف والذي دفعهما للتخفي، وهو وضع قنبلة في سيارة إمام وحرق محل العطارة للشريف، وإن كان مشهد الأخير أكثر درامية.
هفوة ثالثة كانت عندما لجأ إمام وأسرته لـ “المنيا” للتخفي، وتصوير التدين لدى الطبقات الشعبية هناك بصورة كاريكاتيرية مبالغ بها، إذ برغم أن تلك الطبقات المتواضعة تربط رجل الدين بصورة الولي الصالح، إلا أن حجم الجهل والانفعال لم يكن مبرراً على الإطلاق، إذ تم تقديسه وطلب بركاته وإفتاءاته دونما التحقق من شخصه وملامحه التي من المفترض أنها معروفة على مستوى وطني كرجل دين مسيحي.
وبعد موقف المنيا الذي صوّر إمام بضحية الجهل الديني: الجهل المسيحي الذي أجبره على التخفي والمسلم الذي أجبره على احتمال سذاجة البسطاء، يضطر للسكن في شقة رجل مسيحي فاضل يعلم بأمر تخفّيه، ليتضح للمشاهد فجأة بأن عمر الشريف الذي يُخفي أمر إسلامه يسكن في الشقة المقابلة، وهو ما يثير الحيرة فيما إذا كان ذلك محض صدفة أم ترتيب أمني!
تتوالى الأحداث، حتى يضطر كلا الرجلين للعيش في شقة واحدة بعد أن تتوطد العلاقة بينهما كثيراً، غير أن ما يبعث على الضحك هو تنازل زوجة وابنة رجل الدين المسلم عن ارتداء الحجاب بكل سهولة، بل وعيشهما من دونه بمنتهى الأريحية وبعيدا عن أي تذمر! وهو ما لم يتسبب إطلاقا بأي عجب من قبول زوجة رجل الدين المسيحي ارتداء الحجاب، لأن الحال ستكون حينها أسهل! ولكن ما يثير عجباً أكبر هو ذلك المشهد الذي ينكشف فيه أمر العائلتين لبعضهما بعضا، فيعود كل منهما لطبيعته، وهنا كانت الكارثة التي وقع بها الفيلم: فالزوجة المسيحية تخلع الحجاب الوهمي وتظهر بقميص نوم فيما المسلمة ترتدي نقاباً أسود لا يظهر منه غير عينيها رغم أنها ظهرت قبل التخفي من دون نقاب!
مشاهد أخرى حُسِبت لمصلحة الفيلم، منها: استعراض الخطابات الدينية المتطرفة عند الجهتين، كذلك عنصرية كثير ممن يتشدقون ليلاً نهاراً بشعارات التسامح، والحديث الجريء الذي يُدلي به أتباع الديانتين عن بعضهما بعضا في حواراتهم الخاصة من قبيل: هم يكرهوننا، احذر منهم… أيضاً تصوير جزئية الزواج بالحد الفاصل الذي اصطدم فيه التسامح، ما يعد ربما دعوة صريحة من الفيلم للزواج المدني بعيداً عن الضوابط الدينية.
الأمر ذاته يرصده المشاهد في لقطات عدة، منها انشغال كلا الطرفين بعداء الآخر فيما القضايا المهمة مهملة، كذلك عندما يصل الفيلم بالمُشاهد إلى حل مقترح مفاده ضرورة علمنة الحياة لتجاوز الأزمات التي قد يسببها التدين، ولعل مشهد النهاية كان من أوضح اللقطات بخصوص ذلك، إذ تشابكت العائلتان في لحظات النهاية بعد أن أنقذ كل طرف الآخر من حريق المتطرفين، بينم
ا بدوا من غير أية مظاهر دينية سواء اللحية أو الحجاب أو الصليب أو حتى أية عبارات دينية كالتي دأب الطرفان على استعمالها طوال الفيلم.
مشاهد أخرى حملت قيمة رمزية وإن دخل بعضها في إطار المصادفات المفتعلة كاضطرار كلا الطرفين الصلاة في دار عبادة الآخر وبنفس التوقيت، ومشهد تبرع أحدهما بالدم للآخر، وكذلك في جعل المخبز الذي يرمز للأسس الإنسانية المشتركة بين الأطياف كافة تجارة بين كلا القطبين: المسيحي والمسلم.
ملاحظات أخرى متفرقة كان من بينها الصورة المهزوزة لرجل الأمن التي قدمها الفيلم، رغم دأب الأفلام المصرية مؤخراً على تشريحها وسلوكياتها التي كثيراً ما تصب في خانة اضطهاد المواطنين، كذلك في خبث معاطي الذي اعتاد المشاهد عليه في أفلام سابقة، إذ يكتفي بإيراد “أفيه” أو اثنين لانتقاد النظام فيما هو يصوّره بصمّام الأمان و”أصلح الموجود حالياً”، وهو ما ظهر في قول إمام لأحد أعضاء الحزب الوطني الذي يريد الترشح للانتخابات “هو إنت من الحزب الوطني وخايف ما تنجحش؟” في إشارة لحتمية فوزه، فيما هو يغيّب أزمة الديمقراطية في مصر والعالم العربي وكأن قضايا المجتمع المصري تنحصر فقط في زاوية المسلمين والأقباط.
كذلك بالنسبة لتصوير المسيحيين في الفيلم بالأكثر تقبلاً للآخر واحتواءً له، رغم أنه كان يجدر التدقيق أكثر على الطرح المتوازن بين القطبين كي لا تُثار أية حساسية من فيلم يفترض به رأب الصدع.
أيضاً كان هنالك تصوير سطحي لدور النساء في قضية شائكة كهذه، فالمرأة في “حسن ومرقص” هي الزوجة المسيحية والمسلمة المتفانية لأسرتها، والتي تنحصر كل نشاطاتها في الدعاء بالسلامة لأفراد عائلتها من كيد المتطرفين، وهي الفتاة التي أوقدت مزيدا من الفتنة عندما وقع في حبها الشاب المسيحي، كذلك هي التي ينحصر تدينها وممارستها للفهم الديني في إطار الحجاب والنقاب بالنسبة للمسلمة والتلفظ مراراً بعبارة “باسم الصليب” بالنسبة للمسيحية.
ويرصد المشاهد “الإعياء الفني” الذي وصل له إمام، فبالكاد يعيش أبعاد دوره التي اعتاد المشاهد عليه يعطيها أقصى ما لديه من طاقة، وهو ما ظهر جلياً في أفلامه الأخيرة التي اكتفى في معظمها بأداء شخصية البرجوازي الذي ما تزال الفتيات يتهافتن عليه برغم مضيه في العمر، إلا أنه وصل الذروة في فيلمه هذا، إذ برغم مساحة الدور الشاسعة التي أفسحتها له الأحداث إلا أنه بالكاد كان يترجم الانفعالات التي يقتضيها دوره، بعكس عمر الشريف الذي أثبت للمشاهد بأنه ما يزال في قمة قدراته ونشاطه من حيث الإمساك بأدق تلابيب الدور الذي يؤديه حتى على صعيد نبرة الصوت والنظرات.
يبقى أن يبث المشاهد العربي شجونه فيما يتعلق بالكوميديا التي وصل معها إلى درجة التخمة، إذ كانت الجماهير تترقب فيلماً جادا دقيقا وأكثر تركيزا في طرح شأن ديني سياسي عربي شائك كقضية التسامح الديني وظلالها التي تلقيها على المجتمع، بيد أن ما تفاجأ به هو مزيد من استدرار الضحك الذي لم يعد يعلم المشاهد العربي هل هو ضحك من شأنه التغطية على الضعف الفني العربي الركيك، أم هو ضحك هستيري على الواقع الأسود المرير الذي وصل إليه العالم العربي، بعد أن أخفق البكاء والعويل في تبديد ظلمته؟!