د. أحمد ثابت
ما يثير القلق في مواقف النظم العربية الحاكمة
د. أحمد ثابت
ما يثير القلق في مواقف النظم العربية الحاكمة ومنها حكومة السودان وأيضا الجامعة العربية من طلب مدعي المحكمة الجنائية الدولية توجيه الاتهام بالمسئولية الجنائية للرئيس السوداني عمر البشير عن الجرائم المرتكبة من قبل نظام الخرطوم ضد قبائل دارفور الإفريقية المسلمة والتي تتحدث اللغة العربية أيضا وكذلك اعتقال البشير هو الكيل بمكيالين الذي يظهر أن هذه النظم وبعض ممثلي الاتجاهات الإسلامية أدمنوا عليه، فقد كان هناك ترحيب كبير بمحاكمة الإرهابي شارون ورئيس صربيا الأسبق ميلوسيفيتش أمام نفس المحكمة. بينما يتم رفض ذلك بشدة في حالة الرئيس السوداني!. مع أن المحكمة شكلت أساسا في إطار مواجهة جرائم الإبادة والمذابح الجماعية والقتل الجماعي للمسلمين في أوروبا في جنوب البلقان في البوسنة والهرسك وكوسوفو وأساسا لملاحقة كبار مسئولي الصرب عن جرائمهم بحق المسلمين والمسيحيين الأرثوذكس من كرواتيا، حيث تعجز المحاكم الوطنية عن عمل ذلك، كما لا تختص محكمة العدل الدولية بمحاكمة الأفراد المسئولين عن ارتكاب هذه الجرائم. واستقر فقه المحكمة الجنائية الدولية علي أن المسئولية الجنائية لا يمكن أن تترتب علي الدول كأشخاص معنوية بل علي الأفراد القائمين علي شئون هذه الدول ويصدرون أوامر وتعليمات بالقتل والإبادة ضد جماعات مستهدفة بعينها من السكان.
وما يثير القلق أيضا هو ما صرنا نعانيه من تراجع كبير عن فهم ما يحدث في العالم، فالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مستمد من قاعدة رصينة ومهمة جدا في القانون الدولي وهى ضرورة إيلاء الأولوية لقواعد القانون الدولي علي التشريعات الوطنية الداخلية وخصوصا في مجال حماية المدنيين إبان الحرب وحماية المدنيين من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية. كذلك نبدو كعرب وكأننا نعيش في جزيرة منعزلة عن العالم عاجزين عن فهم التطورات العاصفة والمتوالية ليس فقط في التكنولوجيا بل الأهم في لغة الديمقراطية وحقوق الإنسان، فالقانون الدولي يلزم أي حاكم بأن يوفر الحماية لشعبه ولجماعات السكان الأخرى مثل المهاجرين واللاجئين.
معنى ذلك أن الحاكم السوداني مسئول عن توفير الأمن لجزء أصيل من شعبه في دارفور وهم من القبائل الإفريقية التي تتكلم العربية في مساحة تعادل مساحة فرنسا، وأن من حق الرئيس السوداني أن يستخدم القوة لقمع التمرد الذي قامت به حركات رفعت السلاح في مواجهة القوات النظامية، لكن ما حدث هو أن السلطات السودانية استخدمت القوات المسلحة وأطلقت زعماء عصابات الجنجويد ممن كانوا في السجون – أي سجنتهم حكومة الخرطوم ذاتها – لقيامهم بجرائم السلب والنهب، والجنجويد منهم عرب وأفارقة، ضد الرجال والنساء والأطفال وكبار السن من السكان المدنيين من قبائل بعينها هي الزغاوة والمساليت والفور ولم تكتف بضرب وقتل وحرق وتشريد هؤلاء في رقم مروع وصل لـ 200 إلي 300 ألف قتيل وتشريد من مليون إلي مليونين، بل قامت بالاعتداء علي من لجأ منهم إلي معسكرات لاجئين أقامتها وكالات الإغاثة الإنسانية والأمم المتحدة، وفي داخل هذه المعسكرات لم تقم بمهاجمة بعض من وقف مع الحكومة سواء كانوا من العرب أم الأفارقة، بل وقامت بملاحقة من نزحوا إلي الحدود مع تشاد بالهجمات.
وبالطبع لا يمكن أن ننكر التدخلات الأمريكية الغربية والإسرائيلية من أجل تدويل القضية وتوسيعها كعقاب للنظام السوداني، لكن هذا النظام هو الذي وفر الذريعة منذ البداية لهذه التدخلات بسياسته الانقلابية المعروفة في تصوير الأزمة – التي هي ليست سياسية بل أزمة إنسانية اجتماعية أساسا ناتجة عن حرمان أهالي دارفور كلهم ومناطقها من الخدمات الأساسية ومشروعات التنمية والبنية التحتية – علي أنها حرب بين “العرب” والأفارقة” أو من سماهم الرئيس البشير نفسه بـ”الزرقة”، ويبدو أنها مفهوم شائن أو معيب هناك.
والواقع أن عددا من العرب انضم إلي حركات التمرد مع الأفارقة. كما أن إدارة بوش الابن ذاتها ولأسباب تتعلق بضرورة حصول شركات النفط الأمريكية الكبرى علي عقود التنقيب عن البترول هناك، قررت رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورعت بنفسها مفاوضات التسوية السلمية للجنوب ولدارفور بل رفضت تقسيم السودان لتواجد النفط في مناطق متداخلة بين الشمال والجنوب والغرب!، فأين تدخل أمريكا في قضية تتعلق أساسا بحماية مدنيين من هجمات القوات المسلحة وجماعات الجنجويد أي بحقوق الإنسان، وهي لم تهتم
إلا نادرا بحقوق الإنسان.
إلا نادرا بحقوق الإنسان.
السبب الذي يتذرع به هؤلاء أن السودان مثل غيره من غالبية الحكومات العربية لم تصادق علي النظام الأساسي للمحكمة، وهذا ليس مبررا مقبولا أبدا لرفض طلب مدعي المحكمة، فإسرائيل لم تنضم ولم تصادق وكانت بلجيكا علي وشك تسليم شارون وهو رئيس وزراء العدو للمحكمة في لاهاي بهولندا، لولا ضغوط أمريكية وصلت لحد تعديل قانون تسليم المتهمين لديها بعدم تسليم مسئولين إبان فترة توليهم المسئولية، وتذرع محامو شارون بنفس الحجة لكن المحكمة الجنائية الدولية لم تقبل بها وهي فشلت فقط في ملاحقة شارون لتعذر ذلك. وفي ذلك الوقت هللت حكومات ووسائل إعلام عربية رسمية وغير رسمية ورحبنا كلنا بمحاكمة شارون والقبض عليه وهو في قمة السلطة. ورحب الكثير منا بنزاهة لجنة التحقيق الدولية المشكلة للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، عندما رفضت اتهام الحكومة السورية بالمسئولية عن الاغتيال!.
الحل المنطقي أن يتعاون السودان مع المحكمة في عدة صور أولها تسليم المتهمين الاثنين مع الدفاع عنهما كحق طبيعي لهما، وتقديم معلومات دقيقة ومحايدة عن ظروف التمرد والحرب هناك ووقف إطلاق النار فورا حتى من جانب واحد هو حكومة الخرطوم وتوفير الظروف الآمنة والمعيشية الملائمة لسرعة عودة اللاجئين والمشردين وأن تكف حكومة الخرطوم عن سياسة إبعاد الأنظار عن جوهر الأزمة بالتشكيك في مدى تمثيل حركات التمرد مثل العدل والمساواة لأهالي دارفور، وأن تسارع الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي بتطبيق اتفاقية أبوجا والتفاوض مع الحركات التي رفضت الانضمام إليها، والقيام بجهد دبلوماسي وإعلامي واسع ومكثف لوقف طلب مدعي المحكمة.
استاذ العلوم السياسية – جامعة القاهرة