من قرية الشجرة التي تقع بين الناصرة وطبريا، إلى شوارع عاصمة الضباب، مشى فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي خطوات مليئة بالإثارة تارة، وبالخطورة أحيانا الأخرى، ليلقى حتفه برصاصة أردته شهيدا.
حلت عليه نكبة العام 1948 ولم يكن يتجاوز العاشرة من عمره حينها، غير أنه استطاع بومضاته الإبداعية نفخ الروح في تفاصيل الرسم، ليخلد مأساة عاشها الفلسطينيون، وما يزالون يعيشون تبعاتها حتى اليوم.
واحد وعشرين عاماً مرت على الرصاصة القاتلة، غير أن الأصدقاء ما يزالون يستذكرونه ويشعرون بالفقد لرحيله.
بتنهيدة ألم غائر في العمق، تستذكره المناضلة ليلى خالد بصفته “الصديق والرفيق”. وتضيف “ناجي من الناس الذين لا يتكررون”، مبينة أنه استطاع التنبؤ بمستقبل القضية الفلسطينية منذ بدايتها، وأنه هو من بشّر بالانتفاضة الأولى، وهو من واكب اجتياح لبنان العام 1982 بكاريكاتيراته.
وتضيف: “برغم أنه رسم رسوماته تلك قبل أن يحدث الاجتياح، إلا أنه كان كمن يدله قلبه على مسار القضية لشدة التصاقه بها. وهو من عرّى ولخّص الأحداث السياسية من خلال ريشته”..
تصمت خالد للحظات قبل أن تكمل بنبرة أسى “لم يتسع العالم العربي لشخصية مبدعة كناجي، لذا ذهب إلى لندن، وهناك لم يتخذ احتياطاته الأمنية فباغتته رصاصة”. وتزيد “إنه خسارة لا تعوض”.
وكانت أزقة المخيم في لبنان هي الحضن اللاهب الذي أشعل فتيل إبداع ناجي، فهو من ترجم تنهيدات وبكاء وعويل اللاجئين المفجوعين باغتصاب وطنهم وتهجيرهم منه، فكان أن اختزن قلبه ووعيه الطفولي كل ذلك حتى بات يسجل كل ما يعتمل في صدره على جدران المخيم. وظل كذلك حتى أمسك الشهيد الروائي غسان كنفاني بيده عندما زار المخيم، ليدخله بعدما رأى رسوماته إلى عالم الصحافة.
يقول صديقه الشاعر رسمي أبو علي، مستذكراً تلك الحقبة وما تلاها من حياة اللاجئين الفلسطينيين “كانت بيروت هي مكان تعارفنا.. لقد كان مميزاً بصدق، إبداعياً وإنسانياً.. كنت أتابع رسوماته باهتمام”.
يردف أبو علي، بينما يستذكر آخر لقاء له مع ناجي في أحد أيام اجتياح بيروت “لم يكن هنالك مقهى مشرع الأبواب غير مقهى (مودكا) في شارع الحمرا. وكنت أجلس في المقهى عندما أقبل ناجي صدفة بينما كان يحمل معه صندوق الرسم ليرسم أحد كاريكاتيراته.. جلسنا وتحدثنا طويلاً، بيد أني لم أعلم بأن ذلك هو اللقاء الأخير لنا”.
ولطالما أكد ناجي في مقابلاته وفي كتبه الثلاثة، التي نشرت قبل استشهاده، أنه “مع المقاومة، والتي هي ليست بالضرورة مقاومة فلسطينية”، لأنه يؤمن بأن “أي بندقية تُوجه نحو العدو الإسرائيلي تمثلني”، وكذلك أن “فلسطين ليست الضفة الغربية أو غزة، بل هي بنظري تمتد من المحيط إلى الخليج”.
وكان العلي دائم الانتقاد للسلطة الفلسطينية، إذ يقول أحد أصدقائه والذي رفض إيراد اسمه “لقد أسهمت السلطة كثيراً في حشر ناجي في الزاوية، لأنه كان صريحاً في موقفه الوطني ولا يقبل ذرّة تنازل”.
وكان ناجي يرفض أية تسوية من شأنها التفريط في الحقوق الفلسطينية، بل لطالما كان يقول “هكذا أفهم الصراع وشروطه: أن نصلب قاماتنا كالرماح وألاّ نتعب”.
ويقول أصدقاؤه إن رده على تهديد واحد من أبرز الشخصيات الفلسطينية له بحرق أصابعه في الأسيد إن لم يكف عن الرسومات المنتقدة لسياسة السلطة، كان قوله “يا عمي لو قطعوا أصابع إيدي برسم بأصابع رجلي”.
وذهب العلي إلى ما هو أبعد من ذلك عندما صرح مراراً: “كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي. أنا أعرف خطاً أحمر واحد: وهو أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل”، وقوله “يقولون لنا: علينا أن نغلق ملف القضية الفلسطينية وأن نحلها كما يريدون لنا أن نحلها، وأقول لهم إن كنتم تعبتم ففارقونا”.
ويروي صديق ناجي الباحث عبدالله حمودة موقفاً آخر له مع السلطة الفلسطينية “عندما التقى القيادة ذات مرة، فقالوا له لماذا تنتقدنا؟، فردّ عليهم: لأنني أريد الشجرة (ويقصد بها قريته الشجرة)، ولما لم يعرفوها قال لهم: ماذا نريد من منظمة لا تعرف الشجرة؟”.
ويعود حمودة في لحظات لذكريات ناجي، قائلاً “كان شديد الإنسانية.. كان يعيش حياة المخيم أينما حل، وكان يحمل معه بؤس المخيم وتفاصيله أينما سافر”.
نبرة شجن تطل من صوت حمودة بينما يردف “من شدة وداعته وإنسانيته كان يكتب دوماً في بطاقات حفلات توقيع كتبه: الرجاء إحضار الأطفال.. وكان كلما أهدى أحد كتبه يُدرج العبارة التالية: الهدية لم تصل بعد.. وكان يقصد أن الهدية هي تحرير فلسطين”.
يكمل حمودة مستحضراً قوة ناجي في الحق، “لقد كان صارماً وحاسماً في رفضه أي سلطة تهادن وتساوم على فلسطين، فقد كانت فلسطين هي بوصلته الوحيدة”.
يضيف حمودة “كان لديه إلى جانب ذلك، استشراف ثاقب للمستقبل وهو ما تجلى في رسوماته، فقد تنبأ بإقامة الجدار العنصري قبل خمسة وعشرين عاماً من بنائه، كما حذر من الاستيطان منذ العام 1978”.
وكانت شخصية “حنظلة” هي الرئيسية في كاريكاتيرات العلي، والتي ما تزال حتى اليوم تجوب أصقاع العالم كرمز للنضال من أجل الحرية، وعنها كان يقول “وُلِدَ حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل في العاشرة لأن ذلك هو العمر الذي غادرتُ فيه الوطن.. و
لن يأخذ حنظلة في الكبر إلا عند عودته للوطن، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء”.
ورسم ناجي إلى جانب “حنظلة” شخصيات أخرى كفاطمة التي رمزت للمرأة الفلسطينية والتي أولاها ناجي أهمية كبيرة من خلال تسليط الضوء على نضالها، وكذلك شخصيات السلطة التي كان يرمز إليها بذوي الكروش والذين يشبهون الفقمة.
ولطالما وصف ناجي الكاريكاتير بأنه “صديق مشاكس لا يُؤمَن جانبه”، مصرحاً بأنه لم يكن يوماً ما راضياً عن عمله، بل إنه يشعر بـ “العجز”، لأن رسوماته لا تستطيع احتمال همه الذي وصفه بـ “الكبير”. بيد أنه اعتبر ذاته مراراً “محظوظاً”، لأن الفرصة أتيحت له للتنفيس عن همومه بعكس آخرين “قد يموتون كمداً من ذلك الهم الذي يختم على قلوبهم وينفث سمه اليومي فيهم”.
“سؤالي الدائم هو: لو كان ناجي ما يزال حيا يرى كل هذه الأوضاع الصعبة عربيا وفلسطينيا، ماذا كان سيرسم؟”، يتساءل الزميل عماد حجاج صاحب شخصية أبو محجوب الكاريكاتيرية.
بأسى يكمل “ولكن وبرغم حسرتي على مآل الكاريكاتير العربي بعد ناجي العلي، إلا أنني أحمد الله أنه غادر الحياة في زمن كانت ما تزال فيه بقايا للنقاء والمشاعر الوطنية الصافية.. المعركة السياسية كانت أوضح أيام ناجي، أما اليوم فالخطوط متشابكة والصورة غير واضحة”.
يردف حجاج بينما نبرة الأسف تملأ صوته “كان ناجي سيُصدم من حال الكاريكاتير حاليا، والذي لم يعد يملك التأثير السابق على الشارع العربي، فالكاريكاتير السياسي آيل للاندثار وبات متأثرا بشدة بالانقسامات العربية والطائفية، بل لقد تحول رسام الكاريكاتير إلى أداة سياسية في أيدي البعض”.
ويرى حجاج أن العصر الحالي هو “عصر العلاقات العامة، إذ بات رسامو الكاريكاتير يصلون إلى أية جريدة عربية مهمة بغض النظر عن مدى مقدرتهم وخبرتهم، بل عن طريق علاقاتهم وأجنداتهم السياسية”، كما باتوا “يقدمون لوحة فنية مشوهة تعج بالألوان وبصور الكمبيوتر بدلا من التفنن في الرسم.. كما أن معظم القائمين على الصحف العربية حاليا لا يولون القيمة الفنية للكاريكاتير اهتماما، إذ لا يعدو دورهم رقابيا على حرية الرسم والتعبير”.
غير أن من أكثر ما يؤلم حجاج هو “تسخير البعض لرمز حنظلة لتعزيز الانقسامات الفلسطينية، إذ صار هنالك حنظلة فتحاوي وآخر حمساوي”، ما يراه حجاج “تشويها سافرا لإرث ناجي الوحدوي النقي”.
ويختم حجاج بقوله “ذكرى استشهاد ناجي أليمة على كافة الأصعدة، فهو شخصية فذة لن تتكرر وإن كثر المقلدون، كما أن ذكراه تفتح جرح الكاريكاتير العربي الذي لم يصن إرث ناجي الإبداعي ولم يستطع حمل لوائه بجدارة، إذ إن مطربة إغراء واحدة باتت تملأ المدرجات بالجماهير أكثر من كل رسامي الكاريكاتير العرب الحاليين”.
وكان ناجي قال عن حنظلة في أحد كتبه “ماذا لو خالجني الإحساس بالهزيمة والتراجع وأغراني مجتمع الاستهلاك؟ حتى لو أردت فإنني لن أستطيع لأن ولدي حنظلة موجود في كل لوحة من لوحاتي يراقب ما أرسم. إنه رقيب لا تتصور مدى قسوته، إنه يعلم ما بداخلي ويراقبني كحد السكين، فإذا أردت أن أستريح لكزني وإذا فكرت في الرفاهية وحسابات البنوك ذكرني بنفسي وأصلي وناسي وشعبي”.
كما وعد العلي بأن لا يُصاب بـ “الحول السياسي” والذي فسره بالتسويق أو الدفاع عن فلان أو آخر، وبأن لا يكون كـ “رسامي نبات الظل” الذين لا بد من توافر عناصر لهم حتى ينموا وينتجوا، معتبرا أن الفنان الحقيقي هو الذي “ينمو وسط الحجارة وتحت الشمس التي تحرق رؤوس أمهاتنا المنتظرات على أبواب المخيم”.
وتتساءل المهندسة هناء الرملي مصممة موقع ناجي العلي “لا أذكر متى وكيف تعرفت على ناجي! فكيف يتذكر الواحد منا متى وكيف كان لقاؤه بأمه أو أبيه؟”.
تجيب بنبرة حزن دفين “في مراحل الطفولة والصبا حين يتشكل وعي الفلسطيني عن ملامح وطنه المفقود والذي كان من المفترض أن يكون له وبه، حينها يطلق أشرعة الخيال. وهنا كانت رسومات ناجي التي أعُدّها وشما لا يُمحى على مر السنوات”.
وعن إنشائها الموقع الذي بات مشهورا للباحثين عن إرث ناجي، تقول “مع دخول الإنترنت لعالمنا العربي لم أجد سوى محتوى بسيط ومتفرق من رسومات ناجي في بعض من المواقع المجانية فقررت أن آخذ هذا الدور على عاتقي وبمجهود فردي”.
تكمل الرملي “حققت في مدة قصيرة من تاريخ تأسيس الموقع العام 2002 أكثر مما كنت أتوقع وأحلم، إذ أصبح مرجعاً لكثير من الباحثين والكتّاب والصحافيين ومخرجي الأفلام الوثائقية وطلبة الدراسات العليا المعنيين بشخص ناجي وفنه”.
وفي ذكرى ناجي العلي العشرين العام الماضي، قررت الرملي أن تعد فيلما وثائقيا عنه بعنوان “الأيقونة”، تقول عنه “من خلال الفيلم سيدرك المشاهد كم هو ناجي عبقري بأيقونته حنظلة، والتي غدت بعد أكثر من عشرين عاماً على وفاته أيقونة لكثير من الشباب الذين لم يعاصروا ناجي وإنما عاصروا حنظلته التي ستبقى شاهدة على اغتصاب وطنهم”.
وتزوج ناجي، الذي عمل في صحف عربية عدة منها: السياسة الكويتية والسفير اللبنانية والقبس الكويتية والدولية، من وداد نصر والتي له منها أربعة أبناء هم: أسامة وليال وجودي وخالد الذي اكتفى بتذكر يوم استشهاد والده عندما هرع إلى المستشفى في لندن ليعلم أن رصاصة غدر أصابته، دخل على إثرها في غيبوبة لم تدم طويلا حتى فارق الحياة يوم 29/8/1987.
ويردف خالد “سيُنشر قريبا كتاب يضم رسومات والدي من العام 1985 إلى العام 1987، وسنعمل بعدها
على نشر كتب أخرى وتدشين موقع إلكتروني لضم إرثه الكامل”.
وكان خالد ووالدته تسلما بعد استشهاد ناجي جائزة “قلم الحرية الذهبي” العالمية والتي كان ناجي العربي الأول الذي يحوز عليها، إلى جانب وصف الاتحاد الدولي لناشري الصحف له بأنه من “أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر”، وواحد من أشهر عشرة رسامي كاريكاتير في العالم وفقا لاستطلاع أجرته مطبوعة “أساهي” اليابانية.