محمود كعوش
مذ امتهنت مهنة المتاعب واخترت الكتابة في مجال السياسة وأنا في سن مبكرة، حرصت على أن لا أفَوِتَ مناسبة عربية كبيرة دون تناولها بالبحث والتقييم الأمينين ومقارنتها بالماضي وقياسها عليه ومقارنة الحاضر بها وقياسه عليها، وتقديمها للقارئ الكريم بشكل يشبع نهمه السياسي ويرضي طموحاته الوطنية والقومية ويُحفز عنده تطلعاته المستقبلية. كما حرصت على أن أتطرق بشكل أمين وغير منحاز إلى فرسان وأبطال وقادة ورجالات كل مناسبة وتقديمهم للقارئ بشكل يخلو من المغالاة والمبالغة في وصفهم وتبيان فضائلهم وحسناتهم وخصالهم الحميدة ومدحها على حساب تجاهل رذائلهم وسيئاتهم وعيوبهم. ومن بداهة القول أن يكون لجمهورية مصر العربية وأكبر وأعظم فرسانها وأبطالها وقادتها ورجالاتها نصيب وافر من هذه المناسبات ومن اهتماماتي بها وبهم. كيف لا وقد كانت مصر وستبقى قلب العرب والعروبة، كما أراد لها الزعيم العربي التاريخي الراحل جمال عبد الناصر أن تكون وتبقى. ومن أهم هذه المناسبات ثلاثٌ هي: ثورة 23 يوليو/تموز 1952 وميلاد عبد الناصر في 15 يناير/كانون الأول 1918 ورحيله في 28 سبتمبر/أيلول 1970.
مما لا شك فيه أن ثورة23 يوليو/تموز 1952 التي فجرها نفر من الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر ضد نظام الحكم الاستبدادي في مصر بكل مامثلته من حالة ثورية مستجدة وطارئة على الأمة العربية في العصر الحديث وما أحدثته من تحولات وطنية وقومية لامست مختلفجوانبالحياة الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية العربية، قد ارتقت بالإنسانالعربيإلى مستوى المسؤولية التاريخية في صراعه الطويل والشاق مع الاستعمار والاستيطان التوسعي وجميع أشكالالتحالفاتالإقليمية والأحلاف الأجنبية. كما أنها أسهمت بشكل فاعل وملحوظ في تعزيز وتمتين مناعة وقدرة هذا الإنسان على مواجهة وتحدي الرجعية وقوى الردةوالتخاذلوالانحطاط والتخلف والاستبداد والرأسمالية والإقطاع في مصر والوطن العربي بشكل عام.
في رحابالثورة المجيدة وكنف زعيمها الخالد جمال عبد الناصر كبر الإنسان العربي وارتفعت هامته بقَدْرِما كِبَرت وارتفعت هامةالثورة التي أجمع المؤرخون عرباً وعجماً على اعتبارها واحدةً من أهم وأعظم الثوراتالمؤثرة في التاريخ المعاصر، لما أحدثته من تحولات، وما أفرزته من إيجابياتعلىصعيد مصر أولاً، والوطن العربي ثانياً، والعالم ثالثاً، وبالأخص على مستوى الدول النامية.
والآن وقد مضى ستة وخمسون عاماً على تفجر ثورة 23 يوليو/تموز 1952 وتسعون عاماً على ميلاد عبد الناصر وثمانية وثلاثونعاماًعلى رحيله،فإننا نرى أن من الحكمة وعين الصواب تجنب الخوض في قراءات تحليلية ونقدية تفصيلية ومعقدة لإنجازات هذه الثورةونتائجهاوإيجابياتها وسلبياتها، درءاً للسقوط في منزلقات عاطفية تجاه الثورةوفكرها وزعيمها،خاصة وأننا كعرب غالباً ما نُوصف “بالاستغراق المفرط والمبالغ به في التعبير عن عواطفنا الجياشةتجاهما ومن نحب أو نكره”!!
فمثلها مثل جميع الثورات التي عرفها التاريخ، اتسمت ثورة 23 يوليو/تموز بالإيجابياتوالسلبيات.وكقائد لهذه الثورة اتصف عبد الناصر مثله مثل جميع القادة الكبار بمزيج منالإيجابياتوالسلبيات. لكن إيجابيات الثورة كانت أكبر بكثير من سلبياتها، وكذا كانالحالمع زعيمها، أقلّه في نظر من اعتنقوا الفكر القومي العربي وثبتوا على إيمانهم به برغم كل ما أحدق به من مؤامرات دنيئة وما مورس ضده من ضغوط أكثر دناءة على المستويين العربي والأجنبي . ومما لا شك فيه أن إيجابياتالثورة الكبيرة جداً وازت إنجازاتها العظيمة جداً، وكذا كان الحال معسلبياتهاالتي وازت هي الأخرى أخطاءها.
والحق يُقال أن قراءة ثورة 23 يوليو/تموز بعين مجردة وبعيدة عن أي مؤثرات خاصة أو تأثر بالحملة المضادة لقوىالردةالعربية التي رهنت نفسها ومصيرها للولايات المتحدة الأميركية ومشروعهاالاستعماري ـ الاستيطاني في وطننا العربي، تحفزنا على القول دون أدنى تردد أنه إذا ما قارناها “بأعوامهاالثمانيةعشرة التي امتدت بين عام تفجرها وعام وفاة زعيمها” بكلالتجاربوالممارسات السياسية العربية الأخرى التي سبقتها وتبعتها فإنها تبقى المتميزة والمتفوقة، بسبب فضلها الكبير والحاسم في تحقيقالاستقلالالوطني لمصر والعديد من الأقطار العربية والدول النامية في جميعالقارات. هذا بالطبع إلى جانب ما أنجزته من تحولات اجتماعية وتنموية وخروج مندائرةالاستقطاب الدولي والتبعية، والتي كان لجمال عبدالناصر وإخوانه من الضباط الأحرار في مجلس قيادة الثورةشرف تحقيقها برغم شراسة قوى الأعداء في الداخل والخارج وتكالبها علىالثورة.فلولا قوى الظلام المضادة داخل مصر والوطن العربي عامة والاستعمار والصهيونية في الخارج، لكان قد قُدر للثورة بقيادة زعيمها أن تنجزالكثير من خططها ومشاريعها وبرامجها الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية، وكذلكالوحدوية.
يتفق المفكرون والكتاب القوميون على أن الأسبابالتيجعلت عبد الناصر يقوم بثورته في منتصف القرن الماضي م
ا تزال قائمة حتى يومنا هذا، معتصاعدفي حدّتها وتمدد في رقعة انتشارها افترضهما التبدل في الزمن. كما ويجمعون على أن الأفكارالتيطرحتها الثورة ما تزال تلقى صدى جماهيرياً إيجابياً واسعاً حتى يومنا هذا أيضاً، الأمر الذي يؤكدمصداقيتها ومصداقية زعيمها، ويمنحهما المشروعية الحقيقية والصادقة.
ا تزال قائمة حتى يومنا هذا، معتصاعدفي حدّتها وتمدد في رقعة انتشارها افترضهما التبدل في الزمن. كما ويجمعون على أن الأفكارالتيطرحتها الثورة ما تزال تلقى صدى جماهيرياً إيجابياً واسعاً حتى يومنا هذا أيضاً، الأمر الذي يؤكدمصداقيتها ومصداقية زعيمها، ويمنحهما المشروعية الحقيقية والصادقة.
فالأوضاعالعربية المتردية والمزرية التي كانت سائدة قبل الثورة عادت وتفاقمت من جديدبعدغياب عبد الناصر. ويُستدل على ذلك مما هو حاصل الآن في الأراضي الفلسطينية المحتلةوالعراق ولبنان والسودان والصومالبشكل مباشر، وما هو حاصل في أقطار عربية أخرى بشكل غير مباشر.ومنيدري فقد يكون الآتي أدهى وأمر!! هذا بالطبع إذا ما مضت الأنظمة العربية فيمعاداةشعوبها وأوغلت في انصياعها للإرادة الأميركية – “الإسرائيلية” المشتركة، في ظل غيابالكرامةوالإرادة العربيتين!!
لكن من حسن طالع الأمة أن فكرة النهوض الوحدوي التي لامست العواطفوتربّعتفي الوجدان العربي مع تفجر الثورة وانتصاب هامة زعيمها ما تزال تداعب هذه العواطف وتحتل هذاالوجدان،وبالأخص في المستوى الشعبي على مساحة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج،بمافي ذلك “ما هو محتل منه وما هو مهدد بالاحتلال” إذا ما استمر الوضع العربيعلىما هو عليه من انحطاطٍ وتردٍ في ظل قيادات عربية عاجزة ولا حول لها ولا قوة.
وعندما نُحيي ذكرى ثورة 23 يوليو/تموز فإن الوفاء يفترض أن نتوقف طويلاً عند شخص زعيمها جمال عبد الناصر لنستذكر تجربته ونستلهم العبر منها ونعمل على زرعها في ذاكرةأبنائنا،لأن الأسباب التي استدعت قيامها ما تزال تحاكيها، ولأن الأفكار التيطرحتهاما تزال تنتظر من يباشر في تطبيقها بشكل أمين ومخلص.
نتوقفعند جمال عبد الناصر لعله يكون في ذلك عبرة لمن رهنوا مستقبلبلادهم وشعوبهمبيد الولاياتالمتحدة وأطلقوا العنان للمخططات الأميركية – “الإسرائيلية” الجهنمية لتعيث فساداً في الوطن العربي، لقاء حفنات تافهة من الدولارات أو البقاء فوق كراسي الحكم في أنظمة فقدت شرعيةبقائهامع لحظة إسقاط مشروع الدفاع العربي المشترك.
نتوقفعنده من منطلق إيماننابعظمته وضرورة محاكاة تجربته وثورته واستخلاص الدروس والعبر. نعم، وربما قبل هذه منمنطلقإيمان راسخ بالقومية العربية التي رفع شعارها وتبّناها وقضى من أجلها، والتي يحوّلها نفرمنالكتاب والمفكرين والباحثين والإعلاميين من أهل الثقافة الضيقة هذه الأيام إلى “شماعةٍ”يعلقونعليها الأوضاع العربية المتردية خدمة لأهل السلطة والجاه وأسيادهم في الخارج، وتبريراً لتقاعسهمواستكانتهم، وحتى استسلامهم.
فالفكرالقومي الذي اعتنقه جمال عبد الناصر ما كان يوماً دعوةإلىتغييب الديمقراطية أو القفز من فوقها، ولا وجهاً للقمع والفاشية أورديفاًللدكتاتورية الفردية، بصرف النظر عما أُلصق بالتجربة الناصرية من تهم وافتراءات بهذاالخصوص، قد يكون بعضها القليل صحيحاً وقد يعود العذر فيها لِقصر عمر التجربة نفسهاوكثرة الإرهاصات والإفرازاتالسلبية والكبيرة التي ورثتها عن مراحل الاستعمار المتعددة ونظام الحكمالاستبداديالذي انقلبت عليه، إضافة إلى تكالب القوى المعاديةفيالداخل والخارج ضدها.
إنكل ما قيل وتم تداوله عن التجربة الناصرية والثورة والزعيم بهذاالخصوصصاغه المغرضون في إطار خطة شيطانية مدروسة وحملة ترويجشرسةللنزعات القطرية البحتة التي استشرت في الوطن العربي بعد رحيل عبد الناصر، تلكالنزعاتالتي حوّلت الأقطار العربية إلى إقطاعيات ومزارع لممارسة القمع والفاشيةوالدكتاتوريةتحت سمع وبصر العالم بما فيه الولايات المتحدة الأميركية “صاحبةالفضيلةوالحريصة على إرساء الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان في العالم”!!
نتوقفعند جمال عبد الناصر وثورته وتجربته وفي أذهاننا جميع أشكال القتل والفتك والبطش والإبادةوالإذلال والانتهاكات اليومية التي يمارسها “الإسرائيليون” في الأراضيالفلسطينيةالمقدسة والأميركيون فوق تراب بلاد الرافدين المباركة، والتي وللأسف يمارسها “الاخوة الأعداء” في حركتي “حماس” و”فتح” الفلسطينيتين في هذه الأيام “الغبراء” بحق بعضهم البعض من أجل الاستئثار بالسلطة “العرجاء” لا من أجل تحرير الأرض المحتلة.
نتوقفعند المناسبة العظيمة متشبثين بما تبقى عندنا من كرامة كانلجمال عبدالناصر الفضل الأكبر في إرساء دعائمها وزرعها في نفس وعقل وقلب كل إنسان عربيعلىمساحة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، نعم من المحيط إلى الخليج.
نتوقفعند المناسبة العظيمة لشعورنا الصادق والأمين بأننا أحوج مانكون في هذه الظروف الصعبة لأمثال هذا الرجل الكبير، الذي كبرت أمته به وكبر بها.
ألسنابحاجة إلى كرامة لطالما افتقدناها مع رحيله ومع تواليالتجاربالسياسية العربية التي تلت التجربة الناصرية على مدار العقود الأربعةالأخيرة، تلك التجارب التي قفزت فوق التجربة الناصرية وتنكرت لها وتعمدت عدممحاكاتهاوالبناء عليها، إلى أن آل الوضع العربي إلى ما هو عليه من تراجع وانحداروفقدانللكرامة والإرادة؟
ترىهل يداهمنا “إعصا
ر عودة الوعي” من حيث ندري أو لا ندري ومن حيث نحتسب أو لا نحتسب،ليوقظ قادة الأمة من سباتهم العميق ويخرجهم من غيبوبتهم الأعمق وينير بصيرتهم ويرشدهم للصلح والتصالح مع شعوبهم والتخلي عن نزعاتهمالقطريةالضّيقة ومصالحهم الذاتية الأضيق، ليحاكوا التجربة الناصرية بما لها وماعليها،ويبنوا فوقها، ويعيدوا الكرامة لأنفسهم وأقطارهم وأمتهم؟
ر عودة الوعي” من حيث ندري أو لا ندري ومن حيث نحتسب أو لا نحتسب،ليوقظ قادة الأمة من سباتهم العميق ويخرجهم من غيبوبتهم الأعمق وينير بصيرتهم ويرشدهم للصلح والتصالح مع شعوبهم والتخلي عن نزعاتهمالقطريةالضّيقة ومصالحهم الذاتية الأضيق، ليحاكوا التجربة الناصرية بما لها وماعليها،ويبنوا فوقها، ويعيدوا الكرامة لأنفسهم وأقطارهم وأمتهم؟
أنت منا ونحن منك يا جمال، وما أحوجنا إليك في هذه الأيام. إننا نحتاجك في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى. ويعلم الله أننا نفتقدك كما لم نفتقدك من قبل، وكما لم نفتقد زعيماً قبلك. نعم نفتقدك وأنت ما تزال حياً في قلوبنا وعقولنا. رحمك الله يا أبا خالد وأسكنك فسيح جنانه.
يوليو/تموز 2008
كاتب فلسطيني مقيم في الدانمارك