لا تنفك تلك العلاقة المأزومة بين أنظمة الحكم القائمة في البلاد العربية وشعوبها تسمح بمزيد من الإضرار بكليهما, لكن دون (إنصاف) في الضرر الذي ينال من مقدرات الشعوب, ومن إرادتها الحرة, وهذا الوضع إذ يصادر حق العرب والمسلمين في الشعور بالانتماء الحقيقي, فإنه يمنعهم بالضرورة من اعتماد حكام البلاد المفتقدين للشرعية رموزا للسيادة الوطنية, وكرامة الأوطان. وتتجلى الصورة المؤلمة حين يكون استهداف أولئك الحكام جسرا لاستهداف الأوطان؛ بالتقسيم, أو الاحتلال المباشر, واستباحة البلد أمام قوى استعمارية متعددة الجنسيات والمآرب. فهذا مؤلم؛ لأن المفترض في الحاكم أنه ممثل الأمة, وحامي قيمها, والمحافظ على شرفها وكرامتها؛ فوق حمايته لبلادها, وقد سلمته السلطان, وفوضته-بما حازه من مقدرات مادية, وقوى عسكرية- بصون ذلك. ربما يستيقظ الحاكم العربي, كما يحدث اليوم للبشير, عندما يقع في دائرة الاستهداف الدولي, ويبدأ الخناق يضيق عليه, ربما يتذكر تلك المقادير المتراكمة من الظلم والتهميش والإقصاء الذي لم يقتصر على أهل دارفور, وحسب, ولكنه يطال سائر المناطق والولايات في السودان, سواء كان ذلك في بعض منه, عن تعمد, أو كان في بعضه الآخر نتيجة إهمال, وسوء رعاية . ومن المؤشرات الواضحة على ضعف الارتباط بين شعب السودان وحكومته قلة الأعداد التي خرجت في المظاهرات المنددة بقرار يفترض فيه الاستفزاز, وحتى تلك المسيرات المتواضعة, إذا ما قيست بخطورة التهديد, لا يفترض فيها البراءة من الدفع من الحكومي, والحزب الحاكم. ربما يجادل البعض في الظروف غير العادية التي ظلت تحيط بالسودان, وهو من أغنى البلاد في الموارد تنوعا وكما, وقد يجادل البعض الآخر في حجم الاستهداف الدولي الذي يتعرض له السودان, وهذا لا ينكر. مع الانتباه إلى أن نظام البشير لم يكن بعيدا عن التقاطع مع المطالب الأمريكية, كما أنه سار في اتفاقات أفضت إلى منح الجنوبيين الحق في تقرير المصير والانفصال عن الشمال… ليس نظام الإنقاذ في السودان خارجا عن المنظومة العربية الرسمية, ولا هو بالنظام الثوري الذي يضر بالمصالح الأمريكية, ولا هو مرشح للإضرار بها, بل على العكس من ذلك أثبت تعاونه في محاربة” الإرهاب” وقدم خدمات لأمريكا وغيرها؛ طلبا لرضاها, ومن يلحظ الموقف الأمريكي لا يجده متشجعا على الدفع بتقديم البشير إلى المحاكمة الدولية, وإن كانت أمريكا لا تملك إلا أن تدين ممارسات النظام السوداني في دارفور. ما يجري, وهذا ما صرح به النظام السوداني, عملية ابتزاز سياسي, في ثوب قانوني جنائي, تحاول به دول أوروبية, مثل فرنسا وبريطانيا إجبار حكومة السودان على مطالب استعمارية تريدها في دارفور, وقد لحظت تلك الحماسة التي بدت على موقف الدولتين من طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية. لقد قطع الحكام العرب كل الصلات التي تربطهم بشعوبهم, ولم يبقوا حتى شعرة معاوية, وظنوا وهم يحفرون بينهم وبين شعوبهم خنادق يصعب جسرها, أنهم مكتفون بأجهزة المخابرات والجيش الموالي, والإعلام الرسمي المزيف عن التأييد الشعبي الحقيقي. لقد ألقوا كل بيضهم في سلة الأجنبي؛ فارتهن قرارهم السياسي, ولم يحسبوا حسابا للمصالح المتغيرة, والمساومات الدولية التي قد يذهبون ضحيتها, وقد أعوزهم أي سند شعبي. استطاعت غزة الصمود أمام حصار دولي تقوده أمريكا, وتعاونها فيه دول عربية مجاورة, استطاعت الصمود بالرغم من تراكم المعاناة المزمنة منذ بدأ الاحتلال, ولم يكن ذلك الإخفاق الذي تمنى به أكبر دولة في العالم إلا بسبب الالتفاف الشعبي الذي مثل تعانقا متينا بين المحاصرين من الحكومة والشعب. و لا تستطيع أنظمة ترتهن لها بلاد كالسودان أن تفعله إلا بمساومات وصفقات يكون السودان فيها الخاسر الأكبر!! فقد فتح الإهمال والتعسف الذي كان يتسبب به نظام البشير قضية دارفور على التدخل الدولي, وألجأت النزاعاتُ التي بدأت طبيعية, لكنها سيست فيما بعد حركات سودانية كحركة العدل والمساواة إلى الدول الأجنبية غير البريئة من الأطماع الاستعمارية. هذا مظهر من مظاهر الأزمة غير المقتصرة على السودان, طبعا. وحتى لا يظل العالم العربي والإسلامي مفتوحا على الأطماع الدولية, وحتى لا تظل الشعوب في حَيْرة من المشاعر والمواقف حين يتخذ تهديد حكامها توطئة ومعبرا لتفتيت البلاد, واستباحتها, لا بد من إصلاح هذه العلاقة البالغة التأثير, بين الحكام الذين استأثروا بمقدرات الأوطان, هم ومن لف لفهم, والغالبية المهمشة من المُفْقرين ومنقوصي الحقوق الذين قد يبطنون شعورا بالتخلص من الطغمة الحاكمة, ولو – وهذه جريمة- بالاستجارة من الرمضاء بالنار- وحتى يتحقق ذلك فإن الضحية الأوطان والمقدرات.