كان على أرسيني تاركوفسكي الأب أن يعيد قراءة قصيدته إحدى عشر مرّة أمام عدسة كاميرا ابنه المخرج العالميّ أندريه بالرغم من العلاقة القويّة التي كانت تربط بين الإثنين. أندريه تاركوفسكي لم يتنازل عن طريقته في الأداء والإخراج السينمائي المتميّز.كان قاسيّاً اتّجاه نفسه واتّجاه والده واتّجاه جميع الكادر الفنّي الذي يعمل معه. هذه قسوة الإبداع والرغبة بإعطاء الشعر الذي أبدعه والده مكانته بالظهور المميّز والتأثير. حوت المجلّة السوفييتيّة “اوغنيوك” في عددها الثالث لقاءً مع الشاعر أرسيني تاركوفسكي خلال العام 1985. وفي تلك الأثناء جاء خبر وفاة المخرج أندريه تاركوفسكي الإبن إثر مرضٍ عُضال لم يمهله طويلاً. ارتأت المجلّة أن تقدّم تعريفاً وعُجالة سريعة تتناول حياة مواطنها ومخرجها العالميّ الكبير أندريه تاركوفسكي. وهنا لا بدّ من التنويه الى أنّ أندريه قضى السنوات الأخيرة من حياته خارج الاتّحاد السوفييتي من أجل إنهاء مشاريعه الإبداعيّة وما أكثرها آنذاك. لكنّه ذات الوقت كان يعتبر من وجهة النظر الحزبيّة مواطناً متمرّداً لأنّ قراره جاء رغماً عن الإرادة الحزبيّة. وهذا ما جعل بعض القرّاء بعترضون على المقال المدرج عن حياة أندريه في المجلّة المذكورة. لماذا غادر أندريه روسيا وهو الذي كان يعتبر حياته بلا معنى بعيداً عن موطنه ومسقط رأسه؟ يقول تاركوفسكي الابن بأنّ إدارة الإنتاج السينمائي في موسكو جعلته يشعر بالبطالة عن العمل خلال سبعة عشر عاماً متتاليّة. حاولت وعبر مديرها الوقوف أمام تنفيذ أفكاره وأعماله المميّزة، حتّى أنّ هذه الإدارة وقفت حجر عثرة أمام تتويج فيلمه (الحنين) في مهرجان كان السينمائيّ وكانت الجوائز المستحقّة ثلاث جوائز كاملة. هذه هي الشرارة التي أشعلت نار التمرّد والتشرّد والانطلاق نحو العالم لتنفيذ ما يصبو إليه من نجاح وإبداع بعد ان أصبح غير ممكناً تحقيق ذلك في روسيا السوفييتيّة. وبالرغم من هذا لم ينطق أندريه كلمة واحدة تسيء من قريب أو بعيد لوطنه وللسلطة الحاكمة في الكرملين، كان مواطناً صالحاً بكلّ ما تحمل هذه الكلمة الكلاسيكيّة من معنى. لم يحاول أن يلغي مواطنيّته وكان انتمائه عميقاً للأمّة الروسيّة قدر فؤاده الكبير وكونيّة وعيه. كان أندريه يعتبر نفسه يتيماً ومكسور الجناح طالما بقي بعيداً عن وطنه الأمّ. يتوه الإنسان في محيط العالميّة إذا كان بعيداً عن مسقط رأسه .. يا إلهي! يصبح الإنسان ورقة في مهبّ الريح، مجرّد رقم في عواصم الدنيا. ربّما لهذا يعود الكتّاب والمبدعين الى أوطانهم بعد طول غياب، كما هو الحال مع محمود درويش ومؤنس الرزّاز ونزار قبّاني الذي فضّل أن يُدْفَنَ في دِمَشْق بعد أن قضى سنواته الأخيرة في لندن. سافر أندريه الى إيطاليا من اجل إخراج فيلم روسي إيطاليّ مشترك وكان العقد يسمح ببقاءه هناك ثلاث سنوات. بيد أنّ السنوات هذه كانت قليلة لتفي بحجم الإبداع الذي يعتمل في روح المخرج، جدّد العقد لسنة أخرى ولكنّ هذا النهج المتبّع في تحديد الحريّة الشخصيّة وكميّة الهواء المستنفذ خارج الحدود السوفييتيّة كان ثقيل الوطء وقاتلاً في الكثير من مناحي الحياة. الحريّة الفيزيائيّة التي كان يتمتّع بها المخرج كانت مؤقّتة خاصّة وأن المخرج كان يعيش وحيداً دون زوجته وعائلته في إيطاليا. حريّة مرهونة بالإرادة الحزبيّة أدّت في نهاية المطاف الى فشل المشروع السينمائي المشترك وصرّح المخرج من باريس بأنّه لا ينوي العودة الى روسيا. كان يرغب بإخراج أوبرا (أندريه غودونوف) على خشبة مسرح غوفرن غاردن في لندن وكذلك العمل على إخراج فيلم (هاملت) سينمائيّاً. تقدّم إثر ذلك بطلب الى السلطات السوفييتيّة لتمديد فترة وجوده خارج الوطن رغماً عن قراره في البقاء في أوروبا. كان هذا مجرّد محاولة للتواصل مع الوطن وعدم قطع الشعرة الأخيرة التي تربطه بروسيا. كان انتمائه الى روسيا عميقاً وحتى اللحظة الأخيرة من حياته وربّما كان هذا الاتباط هو السبب الرئيسي في نجاح أعماله وتميّزه. لم يسعَ لإرضاءِ أيّ مؤسّسة سينمائية سواءً في روسيا أو أوروبا، كان يسعى لتحقيق ذاته والتعبير عن رؤيته السينمائيّة بشكلٍ مستقلّ. هكذا تمكّن من إخراج روائعه التي ما تزال تلقى إقبالاً على مشاهدتها في الكثير من صالات العرض العالميّة مثل “ستالكِر” و “التضحيّة” وغيرها من الأفلام التي تركت أثرها في السينما العالميّة. يتضاعف وقع المأساة حين تصبح الموهبة مرهونة برئيس قسم أو جهاز، وقد يؤدي هذا الى إطفاء شمعة الأديب أو المبدع ليصبح قطرة في محيطات العالم الشاسعة. ولو كُتِبَ لتاركوفسكي أن يعيش سنوات قليلة أخرى لتمكّن من مشاهدة التغييرات الإيجابيّة التي طرأت في روسيا بما في ذلك الحريّات الشخصيّة وحقوق الإنسان. لم يعد تاركوفسكي الى موطنه حيّاً لكنّ أفلامه لا تفتأ تعرَض في معظم صالات العرض هناك. مأساة تاركوفسكي ليست مرتبطة بأشخاص محدّدين شغلوا مراكز إداريّة في مصانع السينما في روسيا ولكنّها مرتبطة بالنتائج المتمخّضة عن نظام شموليّ متكامل ترك وقع حضوره القاسي في كافّة قطاعات الحياة في الاتّحاد السوفييتي. ويشمل هذا الأدب والصناعة والتجارة والزراعة وجميع قطاعات الحياة. أذكر بأنّي قرأت عن مصنع للأحذية كان يتمكّن دائماً من تصنيع ما يزيد عن البرنامج المحدّد بما يعادل 15%. وكان الفائض من الإنتاج يعود لخزينة
الدولة دون تلاعب. كان هذا المصنع يصيب المسؤولين بالحيرة وكثيراً ما يتساءلون عن سبب هذا النجاح غير المسبوق للمصنع. كالوا المديح وقدّموا الجوائز للعمال والمسؤولين فيه، وتمكّنوا اخيراً من معرفة السبب وراء فائض الإنتاج. كان الموظّفون يعمدون الى مطّ المادة الخامّ من الجلود الطبيعيّة لبضعة أيام لتزداد كميّتها دون أن يؤثّر هذا على نوعيّة الإنتاج للجودة التي تتميّز بها تلك الجلود. كانوا يفعلون ذلك عن قناعة مطلقة وعقيدة فولاذيّة أثبتت فشلها لاحقاً لأنّها وفي نهاية المطاف عملت على تهميش الإنسان، وهو المنتوج الأهمّ في الوطن. الإنسان أكثر أهميّة من الجلود والأحدية والآلات والأجهزة، هذا ما غفلت عنه الأحزاب الشيوعيّة فترات طويلة من الزمن وهذا الذي ما تزال تجهله الأنظمة العربيّة للحظة كتابة هذه الدراسة. القضيّة متعلّقة بالنظام ولهذا جاء انهيارها مدوّياً وجذريّاً لتصبح ملكات الفكر والإبداع قادرة على إيجاد مداراتها الخاصّة. يصبو الإنسان بطبيعته نحو الحريّة وإلاّ فإنّ الروح ستبقى تصرخ وتعاني كما الطائر أسير قفصٍ لا يتّسع لزهو جناحيه. كلّ مبدع يصبو للعربدة في عالم حرّ وإلاّ أصبنا بحالة من الموت السريريّ المؤقّت والذي يجهض مشاريع الإبداع والتميّز على حين غفلة. تاركوفسكي ترك بصماته في عالم الإخراج السينمائي ويحاول الكثير من المخرجين الآن مجاراة أسلوبه العميق والذي يهزّ كيان المشاهد ويرغمه على التفكير في حالات الوجود والبقاء. يدفعه بيسر للتحليق في الوعي الكوني للإنسانيّة ويتركه أسير دفق الفكر الخلاّق.