هستيريا أصابت الإعلام الإسرائيلي منذ الهزيمة، والخضوع لشروط حزب الله، والقبول بتحرير سمير القنطار من الأسر، وراحت كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، والمكتوبة، تلصق بالرجل كل الصفات التي يختزنها الموروث التاريخي اليهودي، ويختصرون الوصف في النهاية بجملة: ” القاتل السافل” وكأن في ذلك تعويض لفظي عن صفقة الأسرى الخاسرة، والتي جاءت بمثابة صفعة للإسرائيليين ـ لقد ظل الإسرائيليون يأملون بوجود أحياء بين الأسرى حتى لحظة ظهور التابوت ـ فكانت الإساءة اللفظية، والتهديد بالقتل لسمير تعويضاً عن الفشل الميداني بشكل عام، وتأكيداً على الذات اليهودية التي تآكل ائتلافها، وانفرط عقد تجمعها مع الخسائر العسكرية المتلاحقة، وهذا بدا في مقال تعويضي عن النقص للكاتبة ” يعل باز ميلاميد” في صحيفة معاريف، وهي تقول: دولة إسرائيل أثبت بعودة جنودها أنها بالفعل ليست ككل الشعوب، وأن فيها مزايا شعب الله المختار. وبنفس المضمون، وبقلب ممزق، يوقع رئيس الدولة العبرية ” شمعون بيرس” على العفو، وبصوت متهدج، يتباكى في حفل تأبين الجنديين الإسرائيليين العائدين في توابيت على الأخلاق الإنسانية المفقودة لدى أعداء إسرائيل، ويتساءل باستهجان: أي شعب هذا الذي يفرح، ويرقص في الشوارع لعودة قاتل الطفلة ” عنات داني ” ابنه أربع سنوات.فمن الذي قتل الطفلة التي تتغنى في موتها الأخلاق الإسرائيلية؟لقد حدثني سمير القنطار في سجن نفحة بتفاصيل العملية الفدائية التي نفذها، ويؤكد أنه لم يقتل أي طفل، وظل يردد: نحن عشاق حرية، ولسنا قتلة أطفال، وهو صادق في ذلك؛ لأن صحيفة “يديعوت أحرنوت” قد نشرت في سنة 1992، ولأسباب لا داعي لذكرها الآن، تفاصيل العملية، مع صورة لعائلة ” داني” الذي قتل مع طفليه، وصورة ثانية تعود لسنة 1979 لأم الطفلين الثاكل وهي في حالة بؤس شديد، وصورة ثالثة لنفس المرأة مع زوجها الجديد وأطفالها الجدد سنة 1992، وتبدو فيها المرأة وقد استعادت شبابها، لقد تنبهت شخصياً للفارق بين الصورتين، وتأثير الموت والحياة على الإنسان بشكل عام، وأشرت لزملائي السجناء في حينه إلى الفرق الزمني بين الصورتين، وكيف بدت المرأة نفسها في سنة 1992، وقد شقت طريق حياتها من جديد، أكثر ازدهاراً، وشباباً، وحيوية، وتألقاً من صورتها سنة 1979 ، بعد فقدها لزوجها، ولأطفالها؟ ماذا قالت الرواية الإسرائيلية في حينه؟ مع بدء العملية الفدائية، واختطاف عدد من الرهائن بهدف تحرير الأسرى من السجون الإسرائيلية، اختبأت المرأة اليهودية مع طفلتها الصغيرة، وجارتها، تحت سلالم البيت، وظلت مختبئة طوال فترة الاختطاف، والتفاوض الكاذب، الهادف لكسب الوقت، وحشد القوات لمحاصرة المكان، وعندما اكتملت الاستعدادات، بادر الجنود الإسرائيليون بإطلاق النار على المجموعة الفدائية، وجرى تبادل إطلاق النار، حينئذٍ صرخت الطفلة الصغيرة من الخوف، فكان ردة فعل أمها؛ أن وضعت يدها على فم ابنتها لتكتم صوتها، وأنفاسها، وهذا تصرف غريزي للدفاع عن النفس، وظلت الأم مغلقة فم ابنتها طوال فترة تبادل إطلاق النار، دون أن تتنبه، أو تحس بخطورة ما تفعل، ولم ترفع يدها عن فم ابنتها إلا بعد أن فارقت الطفلة الحياة.فمن الذي قتل الطفلة الإسرائيلية “عنات”؟هل قتلها سمير القنطار الذي كان يتبادل إطلاق النار مع الجنود الإسرائيليين؟أم هل قتلها الجيش الإسرائيلي الذي بادر بإطلاق النار، ولم يستمع لمطالب الخاطفين بإطلاق سراح سجناء فلسطينيين؟أم هل قتلها الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967، والتصرف بقسوة، وبعنجهية، والتشدد في قتل الفلسطينيين بلا سبب، وبلا رحمه، بل والتطرف في القتل، والسجن، والتعذيب بلا حساب، وبلا وازع من ضمير إنساني، مما استوجب المقاومة، بما يشبه أساليب الاحتلال؟أم هل قتلت الطفلة “عنات” على يد أمها وهي في حالة من الفزع، والدفاع عن النفس، والبحث عن السلامة، والحياة بالاختباء؟في المحكمة الإسرائيلية أنكر سمير القنطار اتهام المرأة له بأنه قتل طفلتها، فهو لم ير أطفال، فقالت له وهي غاضبة: لو لم تأت إلى “نهاريا” بهدف تنفيذ العملية، لما قتلت طفلتي!لقد صدقت المرأة اليهودية في ذلك، لقد كان سمير القنطار سبب، ولكن هذا السبب في حد ذاته نتيجة لأسباب أخرى، أهمها، الصراع العربي الإسرائيلي، والأصل في الصراع هو: قدوم هذه المرأة وزوجها إلى “نهاريا” أرض الميعاد سنة 1948، لتحقيق وعد إلهي كما يزعم كتاب ” التناخ” ، وما نجم عن ذلك الوعد من اغتصاب هوية، وأرض، وتاريخ شعب بكاملة تم تشريده، وطرده، ونفيه في أصقاع الأرض، وبالتالي فإن كل ما جرى، ويجري من تفاعلات عسكرية، وسياسية في المنطقة، تعود إلى الأصل، وهذا ما أكده القنطار في كلمته في احتفال الترحيب. ورغم وجود الحقائق التاريخية الموثقة لدى الإسرائيليين، يصر الكاتب الإسرائيلي “درور زئيفي” في صحيفة يديعوت أحرنوت 17-7-2008، ويؤكد أن سمير القنطار قد قتل الطفلة البريئة “عنات” ابنه الأربع سنوات بعقب البندقية. إن الهدف من تكرار الاتهام الزائف لسمير القنطار هو إظهار وحشية العرب، وطهارة السلاح الإسرائيلي، وفي ذلك تنفيس عن غيظ يملأ صدر الإسرائيليين بعد الفشل، ومعالجة لإحباط أخذ طريقة إلى نفوس الإسرائيليين، فكان لا بد من رفع المعنوية المنهارة، وقد عبر عن ذلك الشاعر الإسرائيلي ” دان زمير” وراح يتغنى بصمود أمهات الجنود العائدين بالتوابيت من لبنان بقصيدة شعرية نشرتها صحيفة يدعوت
أحرنوت في 20-7-2008 يقول في مطلعها:يا “ميكي”، ويا “كارنيت”، أيتها الثاكلات الصهيونياترفعتن رأس ابنة صهيون المنحنيةوهي الآن تقف إلى جانبكن، تعاود البناء في اللياليلبقايا سفينتكن المرتبكةحقاً ستظل سفينة الدولة العبرية مرتبكة، لأنها قامت على حد السكين، واستسهلت قتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، وقطع الأشجار، وهدم البيوت على رأس سكانها الآمنين، وهذه جرائم لا يقترفها إلا من ولغ في الدم العربي، وطاب له، وتعود عليه، فكانت المجازر في دير ياسين، وقبية، وكفر قاسم. أما قاتل الأطفال الحقيقي فهو ” مناحم بيجن” الذي أشرف على مذابح ” صبرا، وشاتيلا”، ومثله رئيس الدولة شمعون بيرس؛ الذي أمر بتنفيذ مجزرة” قانا” في لبنان سنة 1996، عندما كان رئيساً للوزراء، والتي راح ضحيتها مئات الأبرياء، وقاتل الأطفال ” شارون” الذي أعطى أوامره بقتل من يشتبه فيه، ولو كان بريئاً، فكان مقتل الطفلة ” إيمان حجو” على بعد عشرة أمتار من مكان سكني في خان يونس، والقاتل “أهود أولمرت” الذي أعطى أوامره بقتل أطفال عائلة “غالي” على شاطئ بحر غزة، ومثله “أهود براك” الذي شارك في قتل أطفال مدرسة ” بحر البقر” في مصر، وأمثاله ” بنيامين نتان ياهو، و”بنيامين بن العيزر”، والقائمة الطويلة من قادة، وضباط، وجنود إسرائيليين.
إن إسرائيل دولة من قتلة الأطفال، والنساء، وجيش لا يعرف طهارة السلاح، وأجيال تربت على أنها شعب الله المختار، تتوارث الحقد والخوف، وتنمي البطش جيلاً بعد جيل، والكل ينادي بالعودة إلى أرض الميعاد، وقتل المزيد من أطفال العرب الأوغاد!