بقلم: م. زياد صيدم
تنوح ليل نهار .. لا تكتفي بحمرة في مقلتيها حتى تصبحا كالجمر ،فهي على هذا الحال ، منذ ذاك اليوم اللعين منذ لم تتلون المحرمة البيضاء !!.
جاءت أم سعيد إلى بيته بالبشرى تريد حلوان انجازاتها .. خرج هو من غرفته وقد استبشر خيرا وهو يقول لنفسه بصوت خافت وأخيرا وجدوها ؟.. دار حول نفسه وانطلق إلى مرآة خزانته الداخلية يتفرس في تقاسيم وجهه ، يستعرض قوامه ، يحرك شفتيه يتفحص أسنانه كم منها معطوب، وكم منها محشو .. يرفع بشعر رأسه إلى أعلى يريد استكشاف إلى أين وصلت صلعته المخفية بطول غرته .. ثم خرج مسرعا يرحب بأم سعيد تلك الخطابة المشهورة في الحي كله ، إن لم يكن قد وصل صيتها المدينة كلها .. خرج إليها بوجه يكاد يطير من الفرح .. قابلته وهى تفتح يدها قائله: وعربون حلاوة منك أيضا .. نظرت إليها أم حسين باستهجان وامتعاض واضح ولكنها كمدت غيظها في قلبها .. ما أطمعك يا أم سعيد لعنة الله عليك هكذا تمتمت إلى نفسها..فقد دفعت لها قبل دقائق فقط و أخذت نصيبها .. رمقها حسين بنظرة وهو يعطيها ما فيه النصيب متسائلا كيف هي العروس يا أم سعيد ؟ ، طويلة أم قصيرة ، بيضاء أم سمراء ، نحيفة أم سمينة ، اخبريني يا أم سعيد بسرعة وألحق تساؤلاته مردفا : متى نذهب لخطبتها غدا إن شاء الله فخير البر عاجله.. ضحكت والدته كما قهقهت أم سعيد بضحكتها الرنانة والمشهورة ! وهى تنظر إلى أم حسين بنظرات تعيد ذكريات مضت.. في خوالي الزمن ..
تمت الخطوبة واتفق الطرفان على الزواج بعد شهر فقط وهو مدة كافية لتجهيز العروس وفترة كافية لحسين بان يكون قد أتم استعداداته الأخيرة من حيث شراء غرفة نومه ، وإعادة تلميع ودهان البيت ، حيث سيجمعهم مع والدته فهو يسكن معها في بيت الأسرة التى تفرقت في البلاد، حيث توفى والده قبل سنوات ، وتزوجت شقيقتيه ، وسافر شقيقه الأصغر طلبا للعلم في بلاد أجنبية ، وقد مكث هناك بعد اقترانه بعروس شقراء كما ظهرت بالصور التى أرسلها لهم..
في اليوم الموعود كان الفرح متواضعا وعلى قدر الحال ، فحالهم كحال الجميع.. ومضى اليوم على اسعد حال مثلهم كباقي الأسر المستورة في مجتمعاتنا .. انتهت مراسم الفرح على خير وبهجة.. وعاد كل إلى بيته من المعازيم.. ورمق حسين عروسه بنظرات إعجاب ولهفة ، فاستحت خجلا وطأطأت برأسها وهى تسير جهة غرفة نوم العريسين .. وسار خلفها يحمل طرف بدلتها البيضاء وكانت آخر كلمات سمعها من والدته بأنها ستجهز لهم العشاء لاحقا .
دخلا الاثنين غرفتهما .. وأغلق الباب بالمفتاح ولم يكتف فأدار شنكلا داخليا كان قد وضعه بعد أن فقد المفتاح يوما قبل أن يجده في جيب بنطاله المعلق خلف الباب..
انطلق آذان الفجر وتبعه صياح ديك الجيران من السطح المجاور لهما .. وما تزال عينية شاخصتين لم ترى نوما، ولم تشعر بنعاس جراء تعب أو إرهاق ليلة من المفترض أن تكون بطقوسها الاعتيادية هكذا كما يتحدث عنها الجميع !..
انتبه حسين على دقات باب الغرفة ونداء والدته .. وقد حضرت أم العروسة ومعها فطور خاص من لحوم طير على اختلاف أنواعه، وصينية من الحلويات وهى عادات متبعة في مجتمعاتنا المستورة .. جاءت تسبق أهل بيتها ولتطمئن على ابنتها كعادة الأمهات في ذاك اليوم، ولتستقبل أهل بيتها وعلى الخصوص والدها ببشرى تلك المحرمة البيضاء التى كانت قد تركتها أم حسين على السرير وتفهمها العروس كما العريس جيدا عبر دروس وتوصيات سابقة .. وماذا تعنى للأسرتين ولهما شخصيا ، وماذا يتوجب عليهما فعله كطقوس لا جدال فيها ! وكعادات لا يختلفان حولها..
ولكن من هذا الشيء لم يكن.. فلا محرمة بيضاء تلونت بالأحمر، 
60;ولا وجوه فرحة مستبشرة للعروسين كانت ، ولا طقوس ليلة العمر قد حدثت !..
فعندما سألت أم حسين ابنها قبل أن يحضر أهل العروس ووالدتها ، فهمت الأمر فعبس وجهها وندبت حظ ولدها ، ولعنت أم سعيد على دلتها الخائبة.. فانضمت إلى جانب ولدها و أصبحت من طقوس الصمت إلى جوار ابنها حسين ، بلا حديث وبلا كلمات… انه الصمت والعبوس ونهاية العالم !.
عندما حضرت أم العروس لاستكشاف الوضع وكالمعتاد من تلك العادات المتوارثة وقبل وصول الأهل ، وعرفت ما عرفت من خلال الصمت والحزن المخيم داخل جدران المنزل .. نظرت بحدة وألم وحسرة إلى ابنتها فبادلتها بدموع وحش رجات بكاء ونحيب.. فسارعت بوضع ملاية سوداء لفت بها جسد ابنتها ورأسها واصطحبتها خارجة من البيت بلا حديث وبلا كلمات وبلا وداع ..
ومن ذاك الحين غيرت أسرتها عنوان سكنهم في الحي وابتعدوا بعيدا يهربون من عيون الناس وتساؤلاتهم التى لا تنتهي .. في بيت أم حسين لم تترك أثرا لذكرى اسمها فلم يحفظوه ولن يحفظوه فهي الآن بلا اسم و بلا عنوان لأنها في الزمان والمكان الخاطئ ! .
هكذا أصبح حالها تنوح ليل نهار .. لا تكتفي بحمرة في مقلتيها حتى تصبحا كالجمر ،فهي على هذا الحال ، منذ ذاك اليوم اللعين منذ لم تتلون المحرمة البيضاء !!.
إلى اللقاء.