د. مصطفى رجب
كنت ذات يوم عضوا – لا مؤاخذة – في لجنة من لجان التطوير ، وفي أول اجتماع حضرته وجدت أمام اللجنة كتبا عليها أن نراجعها ، وما كدنا نهم بتصفحها حتى نُهينا عن ذلك ، و دُعينا إلى تناول البسكويت والشاي . لمدة ساعة ، فلما عدنا فتحنا الكتب مرة ثانية وما كدنا نهم بتصفحها ، حتى دُعينا للاجتماع بمعالي الوزير الذي تحدث كثيرا عن أن ” التعليم قضية أمن قومي ” وأن التطوير شغل معاليه الشاغل ليل نهار ، وقد بلغ من ولعه بالتطوير أنه جعله شرطا من شروط صحة غشيان الزوج لزوجته ، ولو أن الأمر بيده – كما قال – لجعله شرطا من شروط دخول الحمامات ، بحيث يحرم دخولها مالم تكن متطورة .
فيما كانت عينا معاليه تدوران في محجريهما وتتقلبان تقلبا سريعا وهو يلاحق أفكاره التطويرية بفروسية نادرة كنت منشغلا بمتابعة حال سيدة أجلسوها أمام من يجاورني ، لا أشك في أنها عملت تحت رئاسة النحاس باشا أواخر العشرينيات ، فهي – باسم الله ما شاء الله !! – بيضاء الشعر مجعدته ، مكرمشة الوجه مغضَّنته ، محنية الظهر إلى حد الركوع الخاشع الشديد الخشوع !! وكنت أتابعها متسائلا في قرارة نفسي : لماذا جاؤوا بها وما علاقة مثل هذه ( الكائنات ) بالتطوير ؟ فلما أسررت بهواجسي هذه إلى جاري ، ضغط على يدي في قسوة هامسا : ” اسكت من فضلك . لا تعرضنا من البلاء لما لا نطيق . وسأنبئك بأخبارها بعد الاجتماع ” .
عدت إلى معاليه ، وكان قد دعا أحد المحتكرين ” للمداخلة !! ” فتداخل المحتكر معلنا أنه سيقوم بتعيين كل حملة الثانوية العامة في شركاته فور حصولهم عليها برواتب تندق لها أعناق أساتذة الجامعات ، بشرطين :
أولهما : أن تخلو الثانوية العامة التي سيحصلون عليها من دراسة اللغة العربية والتاريخ والجغرافية وأن يستبدل بهذه المقررات مقررات عصرية تتعلق بالحاسوب واستخداماته
وثانيهما : أن يتم تدريس بقية المقررات باللغة الانجليزية .
تهلل وجه صاحب المعالي ، و” زقطط ” و”انفشخ ” فم معاليه عن ضحكة عرضها القاعة بأكملها ، وأتبعها أتباعه وصبيانه بضحكات متقطّعة متعالية متقاطعة كهربيت جو القاعة فهلل من هلل وصفّق من صفّق ، ولمحنا وسط معاليه يتحرك يمنة ويسرة كأنه يرقص جالسا من شدة الطرب والانسجام من وجاهة ما قال المحتكر الشاذ .
عدنا إلى اجتماعات اللجنة في جلستها المسائية ، وكلنا حماس للتطوير ، وفتحنا الكتب وما كدنا نهم بتصفحها ، حتى دُعينا إلى اجتماع مع مقرر اللجنة في قاعة مجاورة ، فسعينا إليه ولبّينا وجلسنا نستمع إلى ” سعادته ” يكرر حرفيا ما قاله معاليه ظهيرة اليوم دون زيادة أو نقصان ، فلما انتهى صرفونا وبيد كل منا ظرف منتفخ به ألفان من الجنيهات . وطلوا منا الحضور غدا عند العاشرة صباحا .
فلما حضرنا تناولنا إفطارنا ثم عدنا إلى اجتماعات اللجنة في جلستها الصباحية ، وكلنا حماس للتطوير ، وفتحنا الكتب وما كدنا نهم بتصفحها ، حتى دُعينا إلى اجتماع مع مدير مكتب معاليه في قاعة مجاورة ، فسعينا ولبّينا ولبثنا ساعة ونصف ساعة محبوسين حتى أطل علينا ب(صلعته ) البهية ، فاتخذ مكانه على المنصة شاكرا لنا ما بذلناه من جهد طيلة الجلسات الثلاث الشاقة التي قضيناها أمس واليوم ، وأكّد لنا أن معالي الوزير ممتنٌّ أشد الامتنان لنا فردا فردا ، وأن معاليه متأثر غاية التأثر لأن ما سنحصل عليه – بعد قليل – من مكافآت لا يساوي شيئا بالقياس إلى ما أرهقونا به من عمل متصل عنيف ، وأقسم لنا مدير مكتب الوزير – بالطلاق – أنه ترك معاليه يبكي بالدموع في مكتبه من شدة تأثره مما بذلنا من جهود مضنية من أجل التطوير ..!!
حانت مني التفاتة إلى مكتب معاليه المجاور للقاعة وأرهفت سمعي لعلي أسمع نحيب معاليه ، فلم أسمع شيئا ولكني رأيت فتاة صغيرة تخرج من مكتب معاليه تسوي شعرها بيديها ، وتمسح وجناتها ووجهها شديد الاحمرار ، فأشرت لجاري فلما نظر إليها امتقع وجهه بشدة وضغط على يدي في قسوة هامسا : ” اسكت من فضلك . لا تعرضنا من البلاء لما لا نطيق . وسأنبئك بأخبارها بعد الاجتماع ” .
كان مدير المكتب ما يزال مسترسلا في حكاياته ، فيما كان مساعدوه يمرون علينا بين الصفوف يسلّمون كلا منا تقريرا به ملامح خطة التطوير التي أقررناها في اجتماعاتنا ، وعلى كل منا أن يوقعها بيمناه ، بينما يدس الموظف الذي يمسك بها في اليد اليسرى – على استحياء – ظرفاً به ألفان من الجنيهات .
وقعت وقبضت المبلغ وخرجت أنتظر جاري لينبئني ما لا أعلم عن السيدة العجوز وعن المحتكر الشاذ وعن الفتاة الخجول ، فجاءني بعد طول انتظار وانطلقنا إلى مقهى السعادة لأعلم منه ما لم أكن أعلم ..!!
وفيما هو يقص علي من أنباء ما قد سبق ، شعرت بسخونة شديدة جدا في رأسي ، سخونة تكاد تفتك برأسي ، فانتفضت ، فإذا أنا نائم في أحد اجتماعات التطوير !!