لتشرق شمس “جلعاد شليط”، هذا ما يقال في إسرائيل، فقد أوردت صحيفة هأرتس: أن عشرات النساء الإسرائيليات، اللائي رفعن شعار ” لتشرق شمس جلعاد شليط، وضعن شريطاً أصفر على السيارات، في طريقهن لمسيرة تضامنية مع الأسير الإسرائيلي حتى وصلن معبر ” إيرز”، كأقرب مكان لأسيرهن لدى الفلسطينيين، وهن يناشدن الحكومة الإسرائيلية لاستثمار فرصة التهدئة لإطلاق سراح الأسير. إحدى الأمهات الإسرائيليات المشاركة في المسيرة تقول لمراسل صحيفة يديعوت أحرنوت” : أتمنى على كل أم أن تغمض عينيها، وتتخيل أن أبنها مسجون في أي مكان تحت الأرض، هذا الإحساس المر يفرض على الإسرائيليات التحرك، والانضمام إلينا.إنها المشاعر الإنسانية، ولا يمكن التكذيب، أو التشكيك بالمشاعر، ولا أظن فلسطينياً واحداً يقف ضد إطلاق سراح الأسير الإسرائيلي، وبأسرع ما يمكن، ولا أظن فلسطينياً واحداً يتشكك في صدق مشاعر النسوة الإسرائيليات، ولا يتعاطف معهن، ولاسيما أن أم يحيى السنوار، أو أمثالها من النسوة الفلسطينيات يلتقين كل يوم أثنين لدى مؤسسة الصليب الأحمر الدولي في غزة، ويعتصمن والدموع في العيون؛ تحت شعار إطلاق سراح أبنائهن، وأزواجهن، وآبائهن، وآلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، مع الفارق في الزمن، فالأسير “جلعاد شليط” لم يمض عليه في الأسر سوى يومان في زمن السجن، بينما الأسير الفلسطيني “يحيى السنوار” يمكث في السجن الإسرائيلي من عشرات السنين، أي قبل أن يولد جلعاد شليط” وقبل أن يرى نور الحياة، ويكبر، ويصبح جندي، ويمسي شخصية عالمية تفوق بشهرتها رؤساء دول كثيرة، ويصبح رمزاً وطنياً لإسرائيل، كما أشار لذلك الكاتب الإسرائيلي “متي شموئلوف” في صحيفة يديعوت أحرنوت، وهو يستغرب كيف يتحول “جلعاد شليط” إلى رمز وطني في الوقت نفسه تتجاهل إسرائيل معانات ألاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، ويحمل الكاتب المسئولية للتشدد الإسرائيلي في ما لحق بالفلسطينيين من معاناة، ومن إعاقة الإفراج عن السجناء.لا فرق في عتمة السجن الإسرائيلي، أو الفلسطيني، ولا خلاف في تشابه المعاناة بين الأسير الإسرائيلي “جلعاد شليط” والأسير الفلسطيني ” يحيى السنوار، ولا فرق بين دمعة أم ” جلعاد” وأم ” يحيى” ولكن الفرق بين الأسيرين ليس في مدة الأسر فقط، وإنما في الأسباب التي أدت للأسر، ”جلعاد شليط” جندي إسرائيلي قادم مع والدية من فرنسا، يدافع عن البيت الذي قدم إليه، ويعتبره الوطن، وربما يسكن مع والدية الفرنسيين في مدينة ” أشكلون” جنوب إسرائيل، بينما ” يحيى السنوار” مجاهد فلسطيني طرد من بيته في مدينة المجدل، عسقلان، ـ اليوم تسمى ” أشكلون ” ـ وسكن مع عائلته في مخيم خان يونس للاجئين، ويفتش عن الوطن الذي طرد منه وصار ” لجلعاد شليط” ، كلاهما يقاتل ويؤسر للحفاظ أو لاسترجاع البيت ذاته، وهذا هو صلب الصراع في الشرق الأوسط.لتشرق شمس “جلعاد شليط” و”يحيى السنوار” ولتشرق شمس العدل في تحديد من هو صاحب البيت الذي حمل كل من الأسيرين السلاح لأجله، قبل أن يقعا في الأسر، وإلا سيظل القتال دائراً في الشرق الأوسط إلى حين إيجاد الحل العادل لملكية البيت.ولتكن قضية من هو صاحب البيت في مدينة “أشكلون”، هاجساً يؤرق المجتمع الإسرائيلي، ويحرص أن يفتش لها عن حل، مثلما قضية الأسرى. فبعد أن عجزت إسرائيل عن تحرير أسراها بالقوة، باتت قضية الأسر هاجساً يؤرق المجتمع الإسرائيلي، وباتت المرأة الإسرائيلية تقاسم المرأة الفلسطينية بعض الوجع، والانتظار، وهذا القاسم المشترك قد يكون هو الطريق لتفاهم سياسي في المستقبل يهدف إلى تحقيق مصالحة أنجع، وأدق من مفاوضات تجري حالياً تقوم على توجع طرف واحد فقط، وتشكيه، ونواحه دون طائل.لتشرق شمس ” جلعاد شليط” ما دامت معظم تصريحات القادة الإسرائيليين قد واكبت مزاج الشارع الإسرائيلي، وصارت واقعية، وراحت تتحول عن ثوابتها، وتغير مواقفها، وتؤكد على ضرورة إطلاق سراح الأسرى اليهود، بدءاً من وزير الدفاع الإسرائيلي “أهود براك” في صحيفة معاريف” يقول: كجندي، وكوزير، أنا أقرر أن علينا مسئولية وظيفية، وأخلاقية لإعادة الأبناء للبيت، أكانوا أحياء أو أموات” ثم شؤول موفاز” وزير الدفاع السابق، يقول: اليوم الذي تتخلى فيه الدولة عن أحد أبنائها، يتخلى أبناؤها عنها، وحتى رئيس المخابرات الإسرائيلية “يوفال ديسكن” الذي لطف مؤخرا من حدة موقفه بالنسبة للسجناء الفلسطينيين الذين يمكن تحريرهم في الصفقة مقابل تحرير الجندي المخطوف “جلعاد شليت”، ويوافق الآن على تحرير بعض من السجناء ممن “يوجد دم إسرائيلي على أيديهم”، شريطة أن لا يكونوا خطرين على أمن إسرائيل.فهل يمكن الاستنتاج أن أسر الجنود الإسرائيليين أحدث هذا التحول في الفكر الإسرائيلي تجاه أعدائهم؟ وهل لهذا التحول أساس في الواقع، أم هو مجرد ردة فعل آنية متعاطفة مع الأسرى الإسرائيليين؟ وهل هذا التحول يرتقي إلى تحول وجداني، وعقلي في نظرة الإسرائيليين للأخر؟ إن الإجابة تحتاج إلى بحث معمق في المجتمع الإسرائيلي، وأكتفي هنا بالإشارة إلى موقفين؛ الأول: إدعاء عدد من الجنود الإسرائيليين البطولة، وقد كتبوا قبل شهر لرئيس الوزراء الإسرائيلي رسالة موقعة منهم، تقول: إذا مات أحدنا، أو وقعنا في الأسر فلا تفاوضوا علينا، ولا تطلقوا سراح سجناء فلسطينيين.إن رسالة الجنود تحمل مضموناً مغايراً لظاهرها، وهو ما يمكن استنتاجه من الرسالة؛ فأين هو الجندي الإسرائيلي المتفوق، وأين ه
م النخبة، وأين الجيش الذي لا يقهر، إن جوهر الرسالة يقول: أن الجندي الإسرائيلي بدأ أخيراً يفكر بالموت، ويفكر بالوقوع في الأسر، وهذا ما لم يكن جزءاً من التفكير العسكري الإسرائيلي، الذي دأب على قطف الانتصار السريع، وكان في السابق يقول لحبيبته: أنا ذاهب للمعركة، وعائد إليك بعد يومين. الثاني: ما ورد في صحيفة هآرتس، عن مقابلة مع زملاء الجنود الأسرى لدى حزب الله، وهم يؤكدون أنهم لن يقوموا بواجبهم في المرة القادمة إذا تم استدعاؤهم، ما داموا غير واثقين من أن المجتمع الإسرائيلي سيفعل كل شيء لأعادتهم أحياء، أو أموات، وإن لم يتلقوا الدعم الكامل من الجيش والحكومة ومن الجمهور.لقد وقف الجمهور الإسرائيلي حتى الآن مع أسراه، وبدء يعطي إشارات التحول الوجداني، وهو يرفع شعارات منها: كونوا عقلاء وأعيدوا الأبناء، ولا تتخلوا عن الجنود في الميدان، انظروا لأولادكم بعيونكملقد اكتمل صوت العقل في إسرائيل مع افتتاحية صحيفة هآرتس ليوم الأحد 29-6-2008 وهي تنصح الحكومة بأن تكمل صفقة عودة الأسرى الإسرائيليين، وكي لا تتكرر عمليات خطف الجنود في مرات قادمة، تنصح الحكومة بأن تفتش عن حل سياسي، إذ لا يوجد ما يمنع من تكرار الخطف في المرات القادمة.لقد صمت صوت الغطرسة، والتبجح في إسرائيل، وعلا صوت العقل والمنطق، حيث لم يسلم المتشددون في إسرائيل من النقد، ولاسيما أولئك المسئولين الإسرائيليين الذين لم يدركوا التحول، وما زالوا أسرى أوهام النصر الخاطف، أمثال: رئيس الأركان السابق ” جابي يعلون” الذي قال: يجب التضحية بالأسير عندما يكون الثمن مرتفعاً. فقد ردت عليه الكاتبة الإسرائيلية “عنات ميدان”، وهي تقول له: الأسري واجب أخلاقي، ولا ثمن للأخلاق، إنه مطلق، لا يستطيع ” جابي يعلون” وأشباهه عرض مشهد أخلاقي عندما يريحهم الأمر، وتكميم الأخلاق في حالات أُخري. وفي غزة تقف احتراماً لمجتمع يذبح من الوريد إلى الوريد، يحاصر، يجوع، يعذب، ويصر على ضرورة أن تشرق شمس “جلعاد شليط” و” يحيى السنوار” وأمثاله من الأسرى الفلسطينيين في يوم واحد، مهما مارست إسرائيل من قتل وتصفية، وحصار. إن الفلسطينيين فخورون في هذه المرحلة وهم يخلقون حالة من التوازن النسبي مع الإسرائيليين، لا في مجال المواجهة فحسب، وإنما في تقدير قيمة الإنسان، لقد بات تحرير الأسرى الفلسطينيون واجب ديني، ووطني، وأخلاقي، وهذا مؤشر لصالح الفلسطينيين، في الوقت الراهن، لأن إسرائيل حافظت على تقدير قيمة الإسرائيلي من زمن، ولم تتخل عن جنودها في الميدان، وإن تأخرت عليهم سنتين.لقد أضحى معظم الفلسطينيين يدركون إن مزيداً من الصبر والتضحية في هذا المضمار، سيعطي لشعبنا الثمار التي طالما انتظرها، فما الإصرار على تحرير الأسرى، ولا سميا المحكومون بالمؤبد، بغض النظر عن مكان سكناه، إلا مؤشر على مستقبل العملية التفاوضية مع الإسرائيليين بكل أبعادها، رغم بعض الأصوات الفلسطينية التي تفكر على نقيض الكاتب الإسرائيلي ” متى شموئلوف” وعلى عكس صراحة المرأة الإسرائيلية، ولا يغمض عينه ويتخيل أن من في الأسر أخوه، أو أبوه، أو ابنه، ويردد كلمات ليست من قاموس المعاناة، ويلعن الساعة التي أسر فيها جلعاد شليط، وما نجم عن ذلك من حصار، وتدمير للحياة، ناسياً أن العقاب الإسرائيلي على شعبنا قد حل منذ سنة 1948، تاريخ النكبة، والتهجير من البيت، والوطن، قبل أسر جلعاد شليط” بسنوات. قد يكون مقالي قد طال، ولكنه ليس أطول من ليالي السجن التي قضاها الأسير يحيى السنوار خلف الأسوار.