يرتبط العدس والقمح بالوجدان الشعبي الأردني والفلسطيني على السواء ، وكان مخزون الحياة في حياة الفلاح القمح أولا ، وعندما كان يغيب يحتل الشعير مكانه ، ولكنه كان كالحمار (مأكول مذموم) والحمار كذلك (مركوب مذموم) ،وكانت الذرة البيضاء ، وهي بحجم العدس تُطحن وتخبز ويسمى خبزها (الكردوش) إذ مجرد ما يبرد يصبح يابسا كالحجر ، وشأنه كشأن خبز الشعير (مأكول مذموم) ، وكان البصل والزيت ، المخزون الإستراتيجي للأسرة .
وكان العدس سيد موائد الفقراء بلا منازع ، فهو الحاضر اليومي إلا في الأعياد ، أو مناسبة عرس ، أو قراءة مولد أو طهور صبي ، أو عشاء وأربعين ميت ، يدخل في مناسبات منها اللحم وأخرى قد ينفع الدجاج ، خصوصا إذا حل المفتول مكان (الفتيت) ويكون باللبن الجميد (الكشك) حينا وبمرق اللحم أحيانا ، أما العدس فكان يوما يطبخ صحيحا (فت) ، ويوما مجروشا(مرق- فت) ، ويوما جامدا (غموس) ، وأخر (مجدرة) ، مع برغل بالطبع ، لأن الأرز للمناسبات ، والشهوة ، وللوحامى ، حتى لا يأتي المولد (هوشي منه)!!!!!
وبعيدا عن هذه المقدمة الدراماتيكية ، حيث انتزعتكم من الحاضر إلى الماضي ، والماضي دائما أجمل ، لأننا كنا نعيش دون أن نعرف أشياء كثيرة لم تكن موجودة في حياتنا ، ولكننا بعد أن عرفناها وعشناها لم نعد نستطيع العيش دونها .
لكن للعدس خصوصية ، حيث بقي يعيش في وجداننا ، وكنا كثيرا ما نتناوله ، إن لم تكن وجبة رئيسية ، تكون وجبة فخرية كصحن شوربة في رمضان للصيّام ، وحتى في أفخم المطاعم والفنادق،وحسب معلوماتي أن العراقيين يتناولون شوربة العدس كوجبة رئيسية على الإفطار.
واحتل العدس أماكن أخرى في المثل الشعبي ، مثل الذي قتل عشيق زوجته عندما إقتلع أبيات من العدس ، فلامه الناس ، على أساس أن أبيات من ألعدس لا تستحق جريمة قتل من أجلها ، فقال قولته المشهورة و التي ذهبت مثلاً (اللي بدري بدري و اللي ما بدري بقول الكف عدس)!
وفي الحزازير كنا نقول (إشي مدّور عَ البيكار ، عدس ثور إفهم يا حمار) .
وفي إحدى تجلياتي وحزني على دور العدس الذي أحبه جدا ، ولا أتذمر من حضوره على مائدتي ، وتعبيرا عن حزني لحضور الوجبات السريعة مكانه قلت (حباب يا مرقة العدس حباب ، مين قال الهم برغر يدخل والعدس يوقف عَ الباب) ، وأذكر أنني كتبت هذه الصوره سنة 2000 وقد قرأتها في إحدى أمسياتي ، وكان بين الحضور رجلا سبعينيا غلبته الدمعة فبكى شوقا لزمان العدس ، ولا أنكر أن العدس أحتل الكثير الكثير من إبداعاتي التراثية لمكانته بين الناس آنذاك ، وهو سيد كل الموائد بلا منازع ، موائد الفقراء ،وكل الناس كانوا بسطاء كرماء فقراء!
اليوم (أتحدث عنا في الأردن) ومنذ استلم رئاسة الحكومة المهندس نادر الذهبي ، إجتاحت الأسواق موجة محمومة مسعورة من الغلاء غير المسبوق ، فقفز سعر الكيلو غرام من العدس من نصف دينار إلى دينارين (حتى كتابة هذه السطور وليس نشرها ، فأنا لا أستطيع أن أتنبأ) وصار العدس ذهبيا مثل أسم دولته .
قبل أيام كنت في زيارة صديق إعتاد أن يهديني أشياء عينية لأنه يعرف أني (مخزوّق) بالديون ، وأعيل عائلة تستهلك أكثر من دخلي ، وهو يعتبر هذا من نوع التكافل الاجتماعي في زمن مسعور ، لا يرحم .
ومن ضمن ما أعطاني كيلو عدس مجروش ،أخذته شاكرا مضمرا له الخبث ، فهو يظن أن سعر الكيلو بنصف دينار ، أما أنا فقد كنت أعلم أن زمن أول حوّل ، وأنه وصل إلى دينارين وأنه يواصل الصعود إلى درجات أعلى غير متنازل عن مقياس غينتس للأرقام القياسيةّّ!!!
وبعدها التقينا فسألني بدهشة إن كنت أعلم أن كيلو غرام العدس قد بلغ دينارين ، فأجبته بنعم كبيرة ، ومن يومها إكتشف الجانب الخبيث مني واهتزت سمعتي أمامه !!!
أقول : إن الفقير يتعرض لتطهير عرقي ولموت عاجل (إن شاء الله تعالى) فباطن الأرض خير له من ظهرها ، وإن خط الفقر في الأردن راتب(500) دينار ، وإن معلوماتي تقول إن (90%) من الشعب الأردني لا يتجاوز دخلهم (250) دينارا ، وأن هناك من لا يبلغ (100) دينار ، وهنالك (عَ باب الله) ، (كاحت معدم لو عصرته بالكابسة ما أخرجت منه نقطه) ، فكيف يعيش أولئك القوم ؟؟؟
عندما كان الفقر معقولاً وتستطيع الدولة مع أهل الخير إستيعابه ، كان يسمى (جيوب الفقر) كناية عن محدوديته ، أما اليوم فأصبح طوفان الفقر ، ولذلك أسباب أكبر مني ومنكم ، لعل منها مقطع من أغنية لفنان الأردن الكبير، بل شيخ المطربين يقول (درب الراتب واحد ، ودروب السرقة ميه . موت يا مواطن ، ويعيشوا الحراميه ) .
قدمنا لكم سيداتي وسادتي حلقة العدس من مسلسل : العصر الذهبي لنادر الذهبي ، ونلتقي على خير في المسلسل التقشفي الدائم شد الحزام يا فقير ، لأن الغني غير معني بهذه الثرثرة العبثية التي اقترفتها في هذا اللقاء !!!ّ!!