قرن بأكمله غيبت فيه شمس هذه الأمة العظيمة عن سماء الحضارة والقيادة والمجد , بعد أن أضاءت تلك الشمس سماء الدنيا لعقود طويلة , كان فيها المسلمين امة واحدة , ودولة واحدة , ومنهج رباني واحد, فأنقذوا البشرية من طغيان الجاهلية وعبوديتها ومفاسدها , فكفل لهم ذلك أحقية قيادة أمم الأرض جميعها , ولكن – وللأسف – , هاهي تلك الأمة الواحدة اليوم قد تفرقت الى طوائف وطرائق وملل ونحل , وانقسمت الدولة الواحدة الى دويلات صغيرة وضعيفة ومتفرقة ومتناحرة , وجزء المنهج الرباني الواحد الى أفكار أيديولوجية بشرية كثيرة , تنخر فيها المادية وثقافات الانحطاط والانحلال والتردي 0
وبالطبع فان هذا التراجع الحضاري الذي تعيشه هذه الأمة منذ ما يقارب المائة سنة , والذي حولها الى مجرد رقم تكميلي بين أمم الأرض الراهنة , يعود الى أسباب كثيرة ومختلفة , يقبع على رأسها عامل التدمير السياسي , والذي تمثل بالقضاء على وحدة الأمة وفكرة الدولة الإسلامية الواحدة , كذلك من خلال فقدان الإرادة السياسية والإدارة الذاتية للدولة ومواردها وثرواتها , كما كان للغزو الثقافي والأيديولوجي الغربي الأسود , والمتمثل في محاولات القضاء على أخلاق المسلمين وعقولهم , وصلتهم بالله وإطلاق شهواتهم وتشكيكهم في دينهم ونشر الانحراف والانحلال بين أبناءهم , دور لا يقل خطورة عن العامل السياسي سالف الذكر , وأخيرا وليس آخرا , كان الوهن الاقتصادي والعجز الصناعي الذي دب في كيانها , لأسباب عديدة ومختلفة , وهو العامل الذي ابعد المسلمين عن تحصيل القوة الصناعية والتكنولوجية المتقدمة , فأبقاهم ضعفاء مستهلكين لسلع الغرب , لدرجة الانقياد والتبعية العمياء , وليس اصدق في تمثيل ما نحن عليه اليوم من حالة ووهن وضعف , من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم ” لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً , حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله ، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ” , صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم , [رواه البخاري].
وبالطبع فإننا ومن خلال هذا الطرح الذاتي المختصر , لن نتناول تاريخ ودور الحضارة الإسلامية ومفاخرها وانجازاتها التي لعبتها على مدى عقودها الذهبية , فذلك موثق بالأدلة النقلية والعقلية من خلال الملايين من الكتب والدوريات الأجنبية والغربية , قبل العربية والشرقية , والتي تتحدث ولا زالت الى يومنا هذا , عن تلك الانجازات والمفاخر العظيمة الشاهدة على الحضارة الإسلامية وثقافتها , وفي مختلف دول العالم في الغرب والشرق , والحق ما شهدت به الأعداء , ( انظر مقالنا : المستقبل لهذه الأمة ) , وإنما سنحاول بقدر المستطاع اختصار واقعها المتأزم الذي عاشته ولا زالت تعيشه خلال القرن العشرين , وحتى يومنا هذا من القرن الحادي والعشرون , باحثين عن أسباب الخلل والانحطاط والتبعية والتردي الذي حولها من دور القيادة والريادة والسيادة والفاعلية , الى ما هي عليه اليوم من ترهل وتقزم وانحطاط وتبعية حضارية عمياء , سنسال عنها جميعا دون استثناء يوم القيامة 0
وبداية وقبل الدخول الى تفاصيل طرحنا هذا , كان من الحق والواجب أن نؤكد على بعض النقاط المهمة , وأولها أن هذا الوضع المحزن الذي تعيشه هذه الأمة اليوم , قد عاشته واسوا منه بكثير من قبل , ولكن – وللأسف - فان ذلك السوء لم يصل بأبنائها وقادتها ومن يتحملون مسئولية رفعتها وعزتها الى هذا الوضع المتخاذل المنحط , والذي يتحمل الجزء الأكبر من مسئوليته التاريخية والحضارية , من قدر لهم أن يكونوا أجيالها خلال القرن العشرون على وجه الخصوص , قادة وقياديين وعلماء ومثقفين وكتاب وشعراء 000 الخ , أما النقطة الثانية والتي نؤكد جازمين عليها , وهي استحالة بقاء هذه الأمة على هذا الوضع المتردي , فهي لم تعتد على ذلك كما يؤكد التاريخ , مؤكدين بكل ثقة بان الأجيال القادمة , ستعيش دورة الصحوة وعودة القوة الى هذه الأمة العظيمة خلال السنوات القليلة القادمة من عمر القرن الحادي والعشرون , فما نعيشه اليوم من ضعف وخنوع ونوم لن يتجاوز – بإذن الله – غفوة طال أمدها , ولابد للنائم أن يستيقظ في نهاية المطاف , – ومن يدري – فقد يظهر الرجل الذي يوجه خلافات المسلمين الى أعدائهم , كما أشار الى ذلك ديكتاتور البرتغال السابق سالازار , او يظهر في العالم العربي محمد جديد , كما قال ذلك رئيس وزراء إسرائيل بن غوريون 0
المهم في الأمر , هو ما أردنا توضيحه من خلال هذا الطرح الذاتي المختصر, وهو قضية المسؤولية الشخصية أمام الله عزوجل , ورسول العالمين محمد عليه أفضل الصلاة والسلام , وأمام التاريخ والأجيال القادمة , حيث سنقف جميعا كبارا وصغارا , قادة وشعوبا أمام الله عزوجل لنسال عن ضياع هذه الأمة وانحطاطها وتقزمها وتردي حالها وقوتها بين الأمم , قال تعالى { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } , كما يقول عزوجل { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } صدق الله العظيم , فماذا سيكون رد من سيقف أمام الله عزوجل فردا , كل في مجال عمله واختصاصه ومسؤولياته , قادة وقياديين وعلماء ومثقفين وكتاب وشعراء 000 الخ , عما تعانيه الأمة الإسلامية وأبناءها في مختلف أرجاء المعمورة ؟ كما أننا نتساءل هنا
- بكل حزن وأسئ – , عما سيكتبه التاريخ في سفره عن هذا الجيل ؟ بل ماذا ستقول الأجيال القادمة عنا , عندما تقرا ذلك ؟0
- بكل حزن وأسئ – , عما سيكتبه التاريخ في سفره عن هذا الجيل ؟ بل ماذا ستقول الأجيال القادمة عنا , عندما تقرا ذلك ؟0
حيث تعود المسؤولية هنا عما يحدث لامتنا خلال المائة سنة الماضية , من ضعف وقوة او تراجع وتقدم , الى ففقدان المسؤولية الفردية او تحملها لأبناء هذا الجيل من قادة وقياديين وعلماء ومثقفين وكتاب وشعراء 000 الخ , فقادة هذه الأمة وحكامها بشكل عام , وخصوصا العرب منهم , كون الرسالة السماوية قد نزلت في بلاد العرب , واختار الله رسولها عربيا , بل واختار اللغة العربية كسفير لبقية الأمم , ( انظر مقالنا – بلاد العُرب أوطاني ) , يتحملون الجزء الأكبر من تلك المسؤولية الحضارية والتاريخية والإنسانية
أمام الله عزوجل والأجيال القادمة , { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } , عما حدث ويحدث لهذه الأمة في كل من العراق وفلسطين وبلاد المسلمين جميعها , وكما قال المستشرق البريطاني مونتجومري وات في جريدة التايمز البريطانية في آذار من العام 1968م بأنه ( إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام , فان من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى ) 0
كما يتحمل المسؤولية كذلك , علماء هذه الأمة كل في مجال اختصاصه , فهم حراس العقيدة كما يفترض بهم , يقول الله عزوجل { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } , صدق الله العظيم , فإذا ( أردنا أن نستشرف الآفاق المستقبلية لمصير الأمة الإسلامية فإنها متقومة بالصحوةالإسلامية المعاصرة وتعاظمها وتناميها الحضاري , فلابد من التعرف على ما تعنيهالصحوة الإسلامية ودراسة أسبابها الداخلية والخارجية لكي يمكننا بالتالي تحديدمواضع أقدامنا والانطلاق نحو المستقبل برؤية واقعية ومخطط علمي مدروس ومن ثم تحديدالدور الكبير الذي يجب أن تنهض به الحوزات العلمية وعلماء الإسلام في هذا البناءالحضاري المستقبلي ) , لذا فانه لابد للعالم المسلم أن لا يغمض عينيه عما يقع ويجري حوله , بسبب يأسه من الإصلاح , او أن يقف حائد منعزلا منشغلا بخاصة نفسه بعيدا عن هموم هذه الأمة وتحدياتها ومشاكلها , او أن يقف مع طرفا على حساب دينه ومسؤولياته , ولكل ما نوى 0
كذلك فان لصفوة أبناء هذه الأمة من أدباء و شعراء ومثقفين وكتاب , – وخصوصا العرب منهم , – ولنفس السبب السابق – دور لا يقل مسؤولية عن حكامها وعلماءها , فلا يفترض بهم أن يعيشوا حياة نباتات الظل دون أن يتذوقوا معاناة نباتات الغابة – على حد تشبيه الدكتور شاكر النابلسي – , حيث يقول هذا الأخير , مؤكدا على قدرة المثقفين ودورهم الحضاري والنضالي والإنساني بشكل عام , والعرب على وجه الخصوص , متمثلا بما شهده النصف الأول من القرن العشرون على تلك القدرات والبطولات , بان على المثقفين العرب أن يبدأوا بتذوق قسوة الحياة مع قهوة صباحهم , ( فلقد شهد النصف الأول من هذا القرن حركة ثقافية مناضلة , استطاعت أن تخرج ألوانا شتى من الاستعمار من العالم العربي 000 ولكن فجأة , وبعد أن كانت هذه الثقافة ثقافة النضال والغابة , دخلت المكاتب الرسمية , وأصبحت ثقافة تنمو أوراقها على شكل سيف – كنبات الخنشار – ولكن أوراق هذا السيف لا تلبث أن تتهاوى بسرعة , فيما إذا ضعف النور الساطع الآتي من خلف الواجهات الزجاجية الرحبة ) , ( انظر مقالنا : رسالة الى ضمير الكتاب العرب ) 0
وختاما فان مسؤولية وضع الأمة اليوم , لا يتحمله فرد دون مشاركة البقية بشكل من الأشكال فيه , لذا فان ما يحدث اليوم لهذه الأمة العظيمة , من تقوقع حضاري وتراجع قيادي وأممي , هو مسؤولية الجميع بدون استثناء , فوربك ليسالون عن ذلك جميعا , كبارا وصغارا , حكاما ومحكومين , فلكل منهم دوره ومسؤوليته الملقاة على عاتقه , فماذا سيكون الرد ؟ وكيف سنجيب الله عزوجل عن ذلك يوم القيامة ؟ وماذا سيكتب التاريخ عن انكسارنا وتخاذلنا وتراجعنا هذا ؟ وماذا سيكون رد فعل وقول الأجيال القادمة ؟ حين تنقل لهم هذه الصورة المحزنة عن أمتهم العظيمة , وكما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم , ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، الرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في مال الزوج ومسئولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ، والإمام راع ومسئول عن رعيته ، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم 0
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية