حاورته: رانية مرجية
كيف يقدم لنا الشاعر محمد حلمي الريشة نفسه؟
أنا من مواليد مدينة نابلس. حصلت على درجة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم الإدارية (محاسبة وإدارة أعمال). عملت في عدة وظائف في مجال تخصصي حتى سنة (2000). شاركت وأشارك في عديد من الندوات والمؤتمرات المحلية والعربية والدولية. ترجمت لي عديد من النصوص الشعرية والنثرية إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والبلغارية والإيطالية والإسبانية. عملت نائب رئيس تحرير مجلة (الشعراء) التي تصدر عن (بيت الشعر الفلسطيني). أعمل رئيس تحرير السلاسل الشعرية التي تصدر عن (بيت الشعر الفلسطيني). صدر لي:
الأعمال الشعرية:
الخيل والأنثى (1980).
حالات في اتساع الروح (1992).
الوميض الأخير بعد التقاط الصورة (1994).
أنتِ وأنا والأبيض السيئ الذكر
لظلالها الأشجار ترفع شمسها (1996).
كلام مرايا على شرفتين (1997).
كتاب المنادَى (1998).
خلف قميص نافر (1999).
هاوياتٌ مخصَّبة (2003).
أطلس الغبار (2004).
معجمٌ بكِ (2007).
الأعمال النثرية:
زفرات الهوامش (2000).
الأعمال الأخرى:
معجم شعراء فلسطين (2003).
شعراء فلسطين في نصف قرن (1950–2000) توثيق أنطولوجي (2004).
الإشراقة المجنحة – لحظة البيت الأول من القصيدة – شهادات لشعراء وشاعرات/ بالاشتراك (2007).
إيقاعات برية- شعريات فلسطينية مختارة- جزءان/ بالاشتراك (2007).
نوارس من البحر البعيد البعيد القريب- المشهد الشعري الجديد في فلسطين المحتلة 1948/ بالاشتراك (2008).
الأعمال المترجمة:
لماذا همس العشب ثانية؟ مختارات شعرية من “مشاهدة النار” للشاعر كريستوفر ميريل (2007).
دراسات نقدية عن الشاعر:
علاء الدين كاتبة: مراتب النص - قراءة في سيرة محمد حلمي الريشة الشعرية (2001). مجموعة نقاد وكتّاب: ظلال الرقص – دراسات في شعر محمد حلمي الريشة (2004). د. خليل إبراهيم حسونة: ضفاف الأنثى – سطوة اللحظة وطقوس النص – مقاربات في شعر محمد حلمي الريشة (2005).
* أستاذ محمد حلمي الريشة.. أنت الآن في مدينة الرملة.. كيف تشعر بهذه الزيارة؟
– هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها هذه المدينة، وزيارتي هذه جاءت بعد انقطاعي عن زيارة البلاد لسنوات طويلة لا أحاول معرفة عددها. بالتأكيد هو شعور لا أستطيع الكلام عنه الآن. سأفعل ربما حين يهدأ أمواج مشاعري في هذه الزيارة.
* تم تكريمك هنا في المركز الجماهيري لتطوير الوسط العربي مع نخبة متنوعة من الشعراء الفلسطينيين. ما هو انطباعك؟
– أنا أشتغل في هدوء وشبه عزلة منذ سنوات طويلة، وقد أنتجت قرابة عشرين كتاباً في الشعر وغيره، ولم ألتفت لأي ثناء أو تقدير. هذا التكريم مفاجئ لي لأنه الأول (!) طوال مسيرتي الشعرية، والجميل فيه جاء مع زيارتي الأولى لهذه المدينة، توأم فرح دون شك. سأكتب عندما أصحو من رجفة ما لا أصدقه أنني هنا.
* هل لك أن تحدثنا عن مراحل معينة في تجربتك الشعرية؟
– مررت كتابةً بأشكال الشعر المختلفة؛ الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، والشعر النثري (قصيدة النثر). الشكل الشعري ليس مقياسًا للشعر. المهم كم من الشعرية في القصيدة بغض النظر عن شكل كتابتها.
* لمن تكتب أشعارك؟
– لست أحدد لمن أكتب. أشعاري طيوري المريضة بالحب أُطلقها من عزلة القلب إلى فضاء الفراغ. لا أريدها تعود إليّ خشية أن أفسدها بوحشة الحنين.
* هل كانت لديك معاناة محددة جعلت منك شاعرًا؟
– لا أدري إن كانت معاناةٌ ما جعلتني أكتب رسالةً عُدّتْ عليّ قصيدتي الأولى. عمومًا؛ لا أكتب من ألمٍ مهما كان حجم حفرته في داخلي. لا أحب تقديس الألم أو التغني به أو تخليده. أحب أن أكتب من أمل وحب وحنين وحياة أتشهّاها لغيري ولي.
* أي الشعراء والأدباء تأثرت بهم كثيرًا؟ وأين تجد نفسك بين شعراء فلسطين؟
– الأدب عمومًا حلقات تترابط فيما بينها. لا يمكن الانفصال عن الجذور، لكن المبدع الحقيقي يزهر ثمارًا ليست مستنسخة. الثمار بعد حين تنسج لها أجنحة وتطير بعيدًا في فضاء الحياة. هنا يظهر التفرد الشخصي للمبدع. هكذا أرى الإبداع، وهكذا أراني لم أزل تلميذًا يتعلم كل يوم من أي شيء.
* هل تأثرت بثقافات أخرى، وما هي مصادر ثقافتك؟
– الثقافات المختلفة تتماهى فيما بينها. لا أعتقد أن على المبدع أن يكتفي بقراءة نتاج أمّته أو قوميته. الثقافة نتاج حالة إنسانية. لذا أنا أقرأ في أي ثقافة غير عربية. هذا يثري ثقافتي ونتاجي. حين انفتح المبدعون العرب قديمًا على ثقافات العالم تعلّموا وعلّموا العالم، ثم كان ما كان من تدهور مريع للثقافة العربية بأسبابنا وأسباب غيرنا.
* متى تكتب شعرًا، بمعنى أي الأوقات أحب إليك للكتابة؟
– ما من وقت للحظة الشعر. هي التي تأتيني بإرادتها وعليّ أن أكون منتبهًا وحاضرًا لحضورها. لا مكان لها ولا زمان. القصيدة التي يذهب إليها الشاعر لا يأتي منها بشعر؛ ستكون عصبيّة ومفتعلة.
* من أين تستمد صورك الشعرية؟
– لا أستمد صوري الشعرية من أي شيء، بل أنا أُبدعها. أنا ألتقط أشياء الحياة من الحياة، والتي منها ما يبدو بسيطًا وعاديًّا ولا يلتفت إليها أحد. هي أشياء خارج الذات وأشياء الذات. معًا أشتغل عليها في مَخبري اللغوي لأخرج بصور جديدة غير مألوفة؛ تثير الدهشة والأسئلة معًا. الشعر الذي لا يفعل هذا ليس شعرًا.
* كيف تُحدث صراعًا بين الشاعر والقارئ والقصيدة من خلال قصائدك الشعرية؟ وما الفرق بين عنصري الصراع والدهشة في أشعارك؟
– ليس بمعنى الصراع الذي يؤدّي إلى الإرباك والتعب القاسي، بل التعب اللذيذ. هدف الشاعر بشعره الوصول إلى قارئه عبر لغته التي يبدعها. لذا فـ”إن علينا أن نصغي لهذه اللغة حتى نكتشف صورها وإشاراتها. اللغة تنادينا من على الحافة العالية..” (كما يقول الفيلسوف هيدجر). إذًا.. ثمة الدهشة، لا الصراع، التي تومضها القصيدة فينا حين نقرأها بكل حواسنا المعلومة والمجهولة. أنا كتب القصيدة بالحواس الكلية.
* في أيٍّ من مجموعاتك الشعرية تجد نفسك أكثر؟ وأي قصيدة أو قصائد ترى أنها تعبر عن الشاعر محمد حلمي الريشة؟
– لم أحاول البحث في هذا. كل مجموعة شعرية أو قصيدة جديدة ليست توأم سابقتها. هكذا أسعى بالوعي في لاوعي لحظات الكتابة. أي قصيدة جديدة لم تكن بنت نفسها أو نسيج وحدها، وكذلك المجموعة الشعرية بكليتها، أرفضها.
* من خلال متابعتي لبعض قصائدك في مجموعتك الشعرية “معجم بكِ” وجدت أن لديك تشكيلات مختلفة في إخراج النص الشعري؟
– الإخراج البصري للنص الشعري يولَد/ يولَّد مع القصيدة. هو توأم الشكل. أراه ضرورة جمالية أخرى للنص الشعري القرائي وليس السماعي. أنا أكتب شعرًا مقروءًا، لا مسموعًا. أنا هكذا منذ بداياتي دون أن أعي هذا مسبقًا.
* ما دلالة الألوان في قصيدة “بياض” عندما قلت: “حتى وإن كتبتك بأزرق السماء/ فوق أصفر الصدر/ ستستخلصين بياض صوتي بنحلة أذنك”؟
– الشعر تشكيل فنّي بالكلمات، والرسم ألوان حتى البياض على البياض فهو لون أيضًا. البياض يتحدّى الشاعر/ الورقة والرسام/ اللوحة. الشعر صور لغوية تنتجها حواسّ المبدع. “أزرق السماء” و”أصفر الصدر” و”بياض الصوت” تتماهى مع حاستَي البصر والسمع. لذا بالضرورة أن يستقبل النص الشعري الجديد قارئ تدرّب حتى على التماهي مع النص كأنه كاتبه.
* من أين تستمد لغتك الشعرية؟
– اللغة العربية ثريةٌ جدًا. كلّما تعمّقت فيها كلّما تعلّقت أكثر بقراءة القرآن الكريم، إذ ثمة فتوحات تتجدّد مع كل قراءة. القراءة الشاعرة تشدّني إلى تجويد لغتي الشعرية، والغوص في معجمها البحري العميق اللاينتهي. لغتي الشعرية نتاج هذا الغوص والتحليل والتركيب والمزج والخلط. اللغة كنز للإنسان لو عرف قيمته.
* ما هو سر الغموض في شعرك وما الذي تقصده من ورائه؟
– ليس غموضًا بمعنى الإبهام. اللغة الشعرية دائمًا تكون أعلى من لغة الواقع. لكن ثمة مفاتيح منثورة في النص منذ العنوان وحتى النقطة الأخيرة. المسألة/ المشكلة تتعلق بالمرور العابر والذي لا يكاد يلمس السطح. لا بدّ من الغوص مرات ومرات أعمق وأعمق في النص الشعري كي نحصد اللذة والدهشة ونشعر برجفة الإنسان الشاعر.
* كيف ترى تجربتك الشعرية من قبل المشهد النقدي؟
– منذ بضعة سنوات وجدت من يقرؤني نقدًا حين لم تتمّ قراءتي حتى بما يسمّى الانطباع. لا أريد أن ألوم أحدًا قبل ذلك. أنا سعيت للارتقاء بلغة القبيلة (كما علّمني الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث). ربما كان هذا سببًا لتأخر القراءة النقدية. أنا لم أكن أهتم بهذا ولم أزل حتى الآن. النقد الشعري ليس سهلاً إن لم يتوفر الناقد الشاعر.
* ما هي ملاحظاتك الخاصة حول تجربتك الشعرية؟
- أشعر بفرح كلما كتبت شيئاً جديدًا. ما زلت أسعى لإثراء تجربتي أكثر وأكثر. أشعرني قدمت شيئًا يستحق البقاء من وجهة نظري شاعرًا ناقدًا. أنا أتأمل تجربتي دائمًا لأعرف أين كنت وأين صرت لأغوص في مجهول جديد لا أعرف زمانه ومكانه.
* هل الشعر حقاً في أزمة كما يقال كثيراً؟
– لا أرى أن مصطلح “أزمة” يُغلّف الشعر العربي الآن، فهذا المصطلح يعني أن الشيء المتأزم/ المأزوم بات رهين عدة عوامل سلبية تؤطِّره وتحاصره وتشلُّ إرادته. الشعر، دون النظر إلى جنسيته فهو لا يعرفها ولا يعترف بها أصلاً على اعتبار أنه يعتنق الإنسان ويدور في فضاءاته الأرضية والسماوية، لا يُعاني من سوءات هذا المصطلح، والشعر العربي، كجزء من الشعر الكلِّي، له الظُّروف نفسها التي لأيِّ شعرٍ في العالم؛ ابتداءً من قلق الشَّاعر الفطريِّ، وليس انتهاءً بفتحه قفص إبداعه ليطيِّرَ نصوصَه حيث شاءَ وشاءت، ومَن يتابع حركة الشعر العالمي يَرى هذه الحقيقة منذ أزل الشعر وسيظل هكذا إلى أبده. طبعًا أشير هنا إلى الشِّعر الحقيقي الذي ينهض، بفعل الشَّاعر الحقِّ، من ركامات اللاشعر الكبيرة/ الكثيرة التي تحاول غزو عيوننا، والتي لا تتقن أكثر من هذا.
بنظرةٍ إلى التراث الشِّعري العربي منذ ما عرفنا، فإنني أرى أن كثيرًا منه هو في نطاق النَّظم، أي ليس بشعرٍ قياسًا لمفهوم الشَّاعرية والشِّعرية؛ هذا المفهوم يعني أن كل الناس شعراء من حيث الشَّاعرية، ولكن مَن يصل ويدخل فضاء الشِّعرية فهو شاعرٌ حقيقي ولا شكَّ. من هنا أرى أن حجم هذا التَّراث، بشاعرية شعرائه الكثر وشعرية شعرائه الأقلّ، كان، وما زال، له الأثر الأكبر في استجابة القارئ أو المتلقي العربيِّ للشعر؛ فحينما خرج الشاعر الحقيقيُّ المعاصر من شعريَّة أجداده، ومستمدًّا ومتشرِّبًا لشعريَّتهم وليس لشاعريَّتهم، وكذلك فعل مع ما أمكنه الوصول إليه من الشعريَّة العالميَّة، أحدث هذا الشاعر انفجارًا شعريًّا في النصِّ العربي، فتطايرت الذَّاتُ الخاصَّةُ خارجها حاملةً لغةً شعريةً مغايرةً لما أَلِفَ القارئ أو المتلقي وحتى النَّاقد؛ خرجتْ تبحثُ عن ذواتِ الآخرين تهزُّها من دواخلها، وتحاول الارتقاء بلغتها، حيث الشَّاعر يُشركُ القارئَ بنصِّهِ؛ فهو يُريده أن يكتبه من جديدٍ حين يقرؤهُ، فـ”القارئ خلاَّقُ آخر”.
إنَّنا أصبحنا نرى نصوصًا لها لغة الحواسِّ التي تُكتب بها، لكن قارئها الأُصيبَ بالصَّدمة ولم يُصبْ بالدَّهشة بعدُ إلاَّ ما ندرَ، ما يزال يقرؤها بالطريقة واللغة الخارجية؛ أي لا يستعمل لغة حواسِّه كما استعملها الشَّاعر، وهنا سبب الفجوة الواسعة والعميقة بين الشِّعر والقارئ (لا أتمنى متلقّيًا بعد الآن فأنا أتخيله كمَن يحمل إناءً).
إذًا.. الشِّعر العربيُّ ليس في أزمة، بل في ثورة لُغويَّة وتشكيليَّة وإنسانيَّة وتغييريَّة… إنه يحاول أن ينهضَ بإنسانهِ القارئ من ركامات ضخمة من التَّلقِّي الأجوف ليصل بهِ نحو عتبة البيت الشِّعريِّ؛ ثم يتركه يدخل وحدَه، دون محمولاته أيًّا كانت، ليبدأ السباحةَ غوصًا والطَّيرانَ تحليقًا داخل البيت بكل بكورةٍ وشهوة حتى عناق الدَّهشة.