ان الزيارة الفلسطينية التي قام بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي من 22 الى 24 حزيران / يونيو الجاري في اسبابها واهدافها ونتائجها وحيثياتها لم تملك الحد الادنى من الانحياز لعدالة الحق الفلسطيني ضد الاحتلال لكي يستحق صاحبها وصف “الصديق” للشعب الفلسطيني الذي اطلقه عليه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في بيت لحم يوم الثلاثاء الماضي لا بل انها افتقدت الحد الادنى من التوازن بين طرفي الصراع الذي يؤهل باريس للقيام بدور الوسيط النزيه في الصراع المحتدم بين اصحاب الارض وغاصبيها منذ ما يزيد على قرن من الزمان .
والمراقب المدقق سيكتشف سريعا ان تصريحات ساركوزي الفلسطينية كانت ساترا دخانيا نجح في خداع الراي العام الفلسطيني بحجب حقيقة ان زيارته جاءت اساسا للاحتفال بالذكرى السنوية الستين لتاسيس دولة الاحتلال ، كما اكد رئيس هذه الدولة شمعون بيريس ورئيس وزرائها ايهود اولمرت في بيانين رسميين نشرهما الموقع الالكتروني لوزارة خارجيتهما ، ساترا جنبه الحاجة الى أي اشارة الى النكبة الفلسطينية التي رافقت تاسيسها ، وهو عدم توازن وقع فيه الرئيس الاميركي جورج دبليو. بوش والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل خلال زيارتين مماثلتين قاما بهما لدولة الاحتلال قبله واستحقا عليه التعبير عن “الغضب” الفلسطيني على مستوى الرئاسة .
ودون اجحاف باهمية تصريحات ساركوزي التي اطلقها داخل الكنيست ، اهم منبر سياسي في دولة الاحتلال ، والتي حدد فيها اربعة شروط لا يمكن للسلام ان يتحقق دونها وهي اقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس ، والاعتراف بالقدس عاصمة لدولتين ، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين ، ووقف الاستيطان في الضفة الغربية والقدس معا وتشجيع المستوطنين على الرحيل عنهما ، فان الرئيس ساركوزي لم يضف بهذه التصريحات جديدا على المواقف التقليدية لفرنسا الملتزمة بدورها بمواقف الاتحاد الاوروبي المعلنة التي لا تخرج في جوهرها عما اعلنه ساركوزي . وربما تكمن اهميتها فقط في كونها عوضت على الفلسطينيين بعض خيبة الامل الكبيرة التي اصابتهم بعد زيارتي بوش وميركل اللذبن لم يظهرا ادنى اهتمام بالموازنة بين التزامهما بضمان امن دولة الاحتلال وبين حرصهما على احترام برنامج الحد الادنى للرئاسة الفلسطينية الذي لا يخرج في جوهره ايضا عما اعلنه ساركوزي .
فساركوزي المفوه الذي لا تعوزه الكلمات ولا المعلومات كانت تطغى فكرة ضمان امن اسرائيل على كل ما عداها لديه ومقياسا باطنيا وعلنيا يحدد على اساسه ما هو على استعداد لمنحه للفلسطينيين ، فاسرائيل التي تعهد بضمان امنها دولة لا حدود لها ، والدويلة الفلسطينية دعا لها لانها افضل ضمان لامن اسرائيل على حد قوله ، ولم يذكر مرة واحدة انها في حدود عام 1967 ، مما يضع علامة سؤال كبيره حول تصريحاته “الايجابية” عن المستعمرات الاستيطانية اليهودية ، وهذا غموض ينسحب على مستعمرات القدس التي اعلن انه يريدها عاصمة لدولتين دون ان يوضح ما اذا كانت هذه العاصمة “المشتركة” تشمل او لا تشمل استمرار مكاسب الاحتلال فيها . وحتى اشارته الغامضة بصورة مماثلة الى جدار الضم والتوسع الذي يبنيه الاحتلال في القدس والضفة الغربية كانت مرتبطة في ذهنه بامن دولة الاحتلال عندما قال انه لا يمكن ان يضمن امنها الى الابد . اما دعوته الى “حل” قضية اللاجئين فقد خلت من أي اشارة الى الاساس التي يريد حلها عليه او في أي مكان وزمان .
وربما بسبب هذا “الغموض” المدروس لم تنعكس تصريحاته الفلسطينية سلبا على حرارة الترحيب به في دولة الاحتلال ، حيث يعرف باسم “ساركو الاسرائيلي” تحببا ، وحيث وصف اولمرت العلاقات الثنائية في عهد ساركوزي بانها “ليست مجرد شهر عسل بل انها قصة حب حقيقية” !
ان مواقف ساركوزي المعلنة مثل مواقف الاتحاد الاوروبي ومثل العشرات من قرارات الامم المتحدة سوف تظل حبرا على ورق وكلمات جوفاء كما كانت مثيلاتها طوال الستين عاما المنصرمة لان المجتمع الدولي ما زال يرفض أي ترجمة ملموسة لها على الارض ويرفض استخدام نفوذه لفرضها على دولة الاحتلال بينما لم ولا يتردد هذا المجتمع في دعمه الملموس العسكري والمالي والاقتصادي والدبلوماسي والسياسي لدولة الاحتلال دون كلمات .
لقد تعرض الشعب الفلسطيني لعملية خداع كبرى من القيادة الاميركية الاوروبية للمجتمع الدولي ، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، عندما صدقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وعود هذا المجتمع بدعمها في تحقيق برنامجها لحل الدولتين فقدمت اعترافا مجانيا بدولة الاحتلال دون أي اعتراف مقابل بدولة فلسطين ووافقت على تجريدها من سلاح المقاومة المشروعة مقابل وعدها بتعويضه بثقل المجتمع الدولي في دعمها ليكتشف الشعب الفلسطيني بعد سبعة عشر عاما منذ مؤتمر مدريد ان دويلته الموعودة سراب وانه لم يكسب المجتمع الدولي ولكنه خسر المقاومة او يكاد كما يكاد يخسر أي قيادة موحدة له .
ولا تخرج تصريحات ساركوزي عن هذا السياق للتناقض الفاضح بين الاقوال والافعال تجاه الفلسطينيين والتطابق الكامل بين القول والفعل تجاه دولة الاحتلال وليس هناك ما يشير لا فيما سبق زيارته ولا فيما سيعقبها الى أي تغيير . فقد تطابقت افعاله داخليا (في محاربة العداء للسامية) واوروبيا (في دعم رفع مستوى علاقات دولة الاحتلال مع الاتحاد الاوروبي) وعلى مستوى العلاقات الثنائية (في فتح صفحة جديدة في العلاقات الفرنسية الاسرائيلية) مع وعوده لشمعون بيريس الذي كان اول رئيس دولة اجنبي يستقبله ساركوزي بعد انتخابه . اما في اعقاب زيارته فان تسلم فرنسا للرئاسة الدورية للاتحاد الاوروبي في الاول من تموز / يوليو لا يتوقع ان يكون الا استمرارا لتناقض سياسة ساركوزي غير المتوازنة بين طرفي الصراع على ارض فلسطين وستكون على الارجح اختبارا قريبا لتصريحاته الفلسطينية يكشف ان اطلاق وصف “الصديق” عليه كان متسرعا .
لقد انعكس عدم التوازن الفرنسي اولا في برنامج زيارة ساركوزي ، الذي انكر على الرئاسة الفلسطينية تكريمها بزيارة في مقرها المؤقت برام الله ، اذ خصص برنامج زيارته لدولة الاحتلال ثلاثة ايام اقتطع اربع ساعات فقط لفلسطين من ساعاتها الثماني وسبعين التي قضى معظمها في القدس التي اعلنها الاحتلال من جانب واحد ، دون أي اعتراف دولي ، عاصمة ابدية لدولته ، ولو كان ساركوزي يسعى عمليا الى ما قاله اثناء زيارته عن ضرورة اقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس لضمن برنامج زيارته لقاء ولو لربع ساعة مع عباس في القدس الشريف او في الاقل ضمنه وقتا للقيام بزيارة مهما قصرت لها كما فعل سلفه جاك شيراك قبل اثنتي عشر سنة ليطلع “عيانا” على ما نجا منها من التهويد ليقرر ما اذا كان ما تبقى منها بوضعه الراهن يصلح عاصمة “متصلة” باي دولة فلسطينية مرجوة .
ثم انعكس عدم التوازن الفاضح في برنامج ساركوزي في زيارته لاسرة جندي الاحتلال الاسير في قطاع غزة جلعاد شاليط ومطالبته بانه “يجب الافراج عنه” دون أي اشارة الى (12) الف اسير فلسطيني ، ناهيك عن زيارة اسرة من اسرهم ، او في الاقل الاشارة الى اكثر من ثلث النواب الفلسطينيين الذين اختطفهم الاحتلال كرهائن منذ عامين من الممثلين المنتخبين للديموقراطية التي يشترطها لاقامة دولة فلسطينية . ان زيارة ساركوزي هذه تنطوي على استفزاز بالغ للشعب الفلسطيني لانها تعتبر تشجيعا للاحتلال من ناحية وتكريما لمواطن فرنسي يحمل الجنسية الفرنسية ولا يخدم في جيش دولة الاحتلال فقط بل يؤدي خدمته في الاراضي الفلسطينية المحتلة ويساهم في العقوبة الجماعية التي يفرضها هذا الجيش على مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة مما يعتبر تشجيعا لغيره من المواطنين الفرنسيين الذين يحملون جنسية مزدوجة مثله على الاقتداء به .
لكن ذروة عدم التوازن الساركوزي بانت ب”احترامه” لعدم التدخل في الشان الداخلي الاسرائيلي حتى عندما بادر صديقه بنيامين نتنياهو واولمرت وبيريس فورا وعلنا الى معارضة تصريحاته الفلسطينية دون ان يوازن ذلك باحترام مماثل لعدم التدخل في الشان الداخلي الفلسطيني ليصنف الشعب الفلسطيني الى “محبين للسلام” في رام الله يدعمهم و”ارهابيين” في غزة يحاربهم متبنيا تصنيفات الاحتلال الاسرائيلي نفسها لهم ، في انحياز فاضح لم يمنعه مع ذلك من اعلان طموحه الى القيام بدور وسيط بين الجانبين ، دور لم يؤهل نفسه له مثلما تفعل روسيا وتركيا والنرويج المحرومة اميركيا واسرائيليا من أي دور وساطة بسبب احترامها للاجتهادات الوطنية الفلسطينية كافة باعتبارها شانا داخليا .
* كاتب عربي من فلسطين