وليد رباح
ألم اقل لكم ان كل شىء غدا مقلوبا :
فالقرش في زماننا ليس له من رائحه .. حتى ولا الدولار او الاسترليني او الين او ما شابه .. فسواء أتاك من امريكا أم من سرقات النفط فاطمئن.. ليس للقرش من رائحه .. في سالف الزمان كانت رائحته مضمخة بالرياحين عندما يأتيك حلالا زلالا دون ان تبيع قلمك او جسدك او ضميرك او حتى فكرتك .. لكن الروائح الكريهة قد تفوح منه عندما يكون ثمنا للخيانه ..اية خيانة .. سواء كانت زوجية او وطنية أوحتى كلمة اذ لا مبررات لها . ونقرأ ان كثيرا من الناس ممن حافظوا على مواقفهم رفضوا ( القرش) واختاروا اسلوب الممانعة حفاظا على تلك المواقف .. هكذا خلق الناس .. منهم من يريد القرش حتى لو اتى من السماء السابعة .. لا يهمهم في ذلك ان اتى حلالا ام حراما.. وآخرون لا يريدونه الا لسد احتياجاتهم الحياتية .. وتعنيهم في المقام الاول مصادره .. ولا دخل للتدين في ذلك !!
ولما كانت هذه الكلمة تعني الكتاب الافاضل في المقام الاول .. فان كثيرا من اولئك الذين يحملون في عقولهم آيات ليست شيطانية ..قد ولدوا وعاشوا وماتوا دون ان يستطيعوا توفير الطعام لاطفالهم.. لكن معظمهم بعد الموت يكرمون .. ومنهم من يحمل في مخه آيات شيطانية قد عاشوا حياة مرفهة لانهم باعوا.. وليس مهما ماذاباعوا .. لكن الناس بصقوا على قبورهم ولم يمش في جنازاتهم الا من هو علىشاكلتهم .. واني لاعرف كتابايعيشون في هذاالزمان على الكفاف .. وأعرف بعضهم وقد تدلت طيان اللحم من كروشهم نتيجة التخمه كأنها مخدة جدتي التي كانت تجمع النقود فيها خيفة ان يخرج البنك مفلسا فتضيع الدنيا ..
ولكن الذي يعنيني في هذا المقام واغار منه حد الموت ان الدول التي نراها فاجرة .. تكرم كتابها في حياتهم وبعد موتهم .. ويكفي ان نقول لك ان مقالا واحدا في جريدة امريكية مثلا .. قد يقبض محرره او كاتبه من الجريدة نفسها ( وليس من الدولة ) ما يمكن ان يكسبه كاتب عربي طيلة حياته .. أما كتابنا ممن تعمى عيونهم امام شاشة الكمبيوتر ان كانت لديهم تلك الالة الجنمية .. فانهم يقبضون الهواء .. فهم ينشرون بالمجان .. ويكتبون بالمجان .. ويعيشون بالمجان .. وكذا موتهم ايضا فانه بالمجان .
ولا ألوم في ذلك المؤسسات الاعلامية .. سواء كانت مكتوبة او مرئية ، ولو أن المرئي في هذا الزمان افضل من المكتوب .. فهو يفرض عليك ان تشاهده سواء كان غثا او سمينا .. ولكن اللوم يقع على الانسان العربي الذي لا يقرأ .. ويرى في الكتاب ترفيها زائدا عن الحاجه .. ويستخدم الجرائد والمجلات عادة تحت طبق الفول في الصباح خيفة ان(تتدلى)نقط من الزيت على مفرش المائدة فيضطر لشراء بعض المنظفات لتلميعه.. هذا ان لم تستخدمه ربة البيت في تلميع زجاج النوافذ عندما يتكاثف الغبار عليها.. ولقد رأيت في صباي رجلا في بقالة يبيع ( الترمس) يلف بعضه في اقماع اوراقه من كتاب ( الاغاني لابي فرج الاصبهاني) فذعرت .. ولما عدت لنهيه عن ذلك قال لي : هل جنابك ( مثقف) قلت : ربما .. قال : اغرب عن وجهي والا ضربتك بعيار الميزان فتفقد عينك التي تقرأ بها .. ومن الطبيعي ان اهرب .. فقد كان شكله يدل على صدق قوله . وفضلت ان اتناول حبيبات الترمس مضمخة بعطر ابي فرج الاصبهاني خيفة ان افقد عيني ..
في الدول التي نراها فاجرة تتكفل بان يعيش الكاتب حياة معقولة ان لم يجد وظيفة يركن اليها .. وانك لترى العديد من الجرائد والمجلات التي تختلف اطيافها وخطوطها السياسية والاجتماعية تتلقف اولئك الذين يتركون وظائفهم او يرغبون في حياة افضل في مطبوعة أخرى .. وتخصص تلك الدول مبالغ سنوية ان كان ( العطب ) المادي قد اصاب تلك المطبوعة ..فان لم تجد المال السائل لهذا تخصص اعلانات سنوية يبلغ رصيدها الالوف من الدولارات كي تقف الصحيفة على قدميها .. وهي مساعدات لا تحوي شروطا بتغيير الخط السياسي او النهج الاداري او ما شابه .. أما في الوطن العربي الذي نحبه قسرا .. فان المطبوعة التي تناوىء الدولة قد تخرج مفلسة لان النظام الشمولي العربي لا يريد ان يرى من يعارضه .. ويعتبر الكلمة الحرة خيانة بائنة بينونة كبرى .. والرأي مفتاح لجهنم والسجون.. أما التصفيق ففي ادنى درجات التأييدللدولة لان المعارضين والموالين يصفقون معا عندما يطيب للدولة ان تفتتح جسرا مثلا انفق عليه عدة الاف من الدولارات .
وفي الدول التي ننعتها بالفجور ايضا .. يتخصص الكاتب في أمر ما في صحيفته .. ويتفرغ لتنمية موهبته وايقاظها ان كانت في مرحلة النوم .. ويطلقون له المحفزات التي تساعده على تكوين نفسه اولا .. أما في الوطن الذي نحبه رعبا وقسرا .. فان الكاتب يعمل الى جانب قلمه اما حدادا او نجارا او خائطا للملابس او حتى زبالا كي يطعم عائلته خبزا دون غموس .. وكم من مبدع له في صناعة القلم باعا طويلا قد اضطر لبيع اثاث بيته او وقف على قارعة الطريق يحمل بعضا من بضاعة كاسدة كيما يعيش .. ولقد رأيت احدهم في بلد عربي يكتب اجمل المسرحيات قد اصابه مرض فلم يستطع اكمال مسيرته … ووجدته يقف على زاوية من الشارع يبيع ( الفول النابت ) للمارة ويصرخ باعلى صوته على بضاعته ويلتقط المليم فوق الاخر كي يظل حيا .
عزيزي الكاتب : ايا كانت هويتك .. وايا كان رأيك .. وايا كنت جنيا او انسيا .. انت في الوطن مهان .. ولكنك ترى احد امرين .. اما ان تبيع قلمك فانت خائن .. واما ان تظل على مواقفك المناوئة للصوص الذين يسرقون قوتك فانت سائر الى الموت .. وكثير من اولئك يفضلون الموت على ان يوصموا ببيع اقلامهم .. واني انصحك بان تخبىء قرشك الاسود في أيام سعادتك ان كان هناك بعض سعادة .. ليومك الابيض الذي تحشر فيه نفسك او يحشرونك في زنزانة يعلم الله مدى اتساعها ..
وانك لميت ..وانهم لميتون .. ولايبقى غير وجه الله .. والقلم .