بادئ ذي بدء لا بد من طرح سؤال كبير على القارئ الكريم، هو هل حققت خطوة حماس بالسيطرة على قطاع غزة النتائج المطلوبة ؟
وإذا ما أردنا الإجابة على هذا السؤال، يجب علينا أولاً الابتعاد عن التقييمات الحزبية، وعدم الخوض في أمور سياسية عقيمة تراوح مكانها. فحماس حققت بالفعل ما تصبو إليه، فهي تخلصت من خصومها الألداء في حركة فتح، وقد جرى بالفعل تهميشهم فيما بعد بعدما ابتعدوا عن مسرح الأحداث الفلسطيني، ولا يستطيع أحد أن يزاود في هذه الجزئية. كما وقضت تماماًُ على أهم جهاز أمني في قطاع غزة، وهو الأمن الوقائي، ولا اعتقد أنه في حالة حدوث مصالحة تاريخية بين حركتي فتح وحماس – إن حدثت – أن يعود هذا الجهاز إلى ما كان عليه في السابق. يُضاف إلى ذلك أن حركة حماس تمكنت من فرض أمر واقع في القطاع ليس من السهل التراجع عنه تحت أي صورة من الصور، أو أي مسمى من المسميات. لقد أصبحت رقماً صعباً في القطاع لا يمكن بحالٍ من الأحوال تجاهله لا من حركة فتح ولا حتى من الأطراف الإقليمية كمصر وإسرائيل، ولا الأطراف الدولية. ومن يقرأ خطاب الرئيس محمود عباس في 5/6/2008م، يخرج بنتيجة محددة هي أن الرجل بات على قناعة تامة بأنه لا مخرج من الأزمة إلاَّ بالعودة إلى الحوار مع غريمته اللدود. فالرجل لم يضع شروطاً مسبقة كالسابق، مثل العودة عن الانقلاب كما كان يجيء في أدبياته السابقة، والاعتذار للشعب، ولم يشترط إجراء انتخابات مبكرة. وكل هذا من وجهة نظر أي متفحص في الشأن الفلسطيني، يعني أن الرجل رضخ للأمر الواقع بذكاء سواء عن حس وطني أم عن قناعة بقوة خصمه. لكن المحصلة أنه طرح مشروعه في وقتٍ شعر به الرجل أن أجواء التهدئة باتت جاهزة للتنفيذ، دون المرور ببابه أو حتى بدون الاستئذان منه بوصفه رئيساً للسلطة. أي أنه شعر بأنه سيصبح في المرتبة الثانية، وقد يتمَّ تجاهله إن لم يستبق الأحداث.
وأكاد أجزم بأن هذا التراجع من جانب الرئيس عباس يعود لأحد أمرين لا ثالث لهما: إما إنه اقتنع أخيراً بفشل رهانه السلمي مع إسرائيل، فأراد أن يٌحرج إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، بعودته إلى حضن إخوته في حركة حماس، كنوعٍ من الضغط السياسي عليهما لتحسين شروط التفاوض. أو الأمر الثاني، وهو أنه قد توصل بالفعل لصيغة حل مع إسرائيل، لكنه لا يستطيع فرضها على الشعب الفلسطيني وهو منقسم على نفسه، فأراد المصالحة لعل هذه الخطوة تجذب حماس إلى صفه، وإن كنت أشك بأن حماس قد تقبل بمثل هكذا مناورة.
صحيح أن حركة حماس لم تستطع أن تحقق الكثير من برنامجها خلال فترة العام من سيطرتها على قطاع غزة، بسبب حالة الحصار الخانقة المفروضة على القطاع، لكن بالمجمل حركة حماس أخطأت خطأً جسيماً بدخولها المعترك السياسي، وهي تعلم مسبقاً أنها غير مقبولة إقليمياً ودولياً.
أما المطلوب من وجهة نظري لإعادة الأمور إلى سابق عهدها من توحّد ولو ظاهري، فهو إعادة اللُحمة الوطنية بين كافة أطياف التنظيمات الفلسطينية، وإن كنت أشك كثيراً في عودة الأمور إلى ما كانت عليه، وذلك لسببٍ بسيط هو إن علة الفلسطينيين كشعب تكمن في تلك التنظيمات التي عفا عنها الزمن لكثرة خلافاتها وانشقاقاتها واختلاف أيديولوجياتها. ونحن قليل من كثير بات مؤمناً ومقتنعاً بمشاكل التنظيمات، وحِيدها عن الصراط المستقيم، الذي يمكن له أن يحقق الحد الأدنى لرفعة شأن الشعب الفلسطيني، والذي بات مغلوباً على أمره بين سندان كثرة الآلهة (التنظيمات) التي تتحكم في رقابه، وأضحت أفعالها سيفاً مسلطاً عليه، لا فكاك منها إلاَّ بمشيئة الرحمن. وبين مطرقة سلطة حاكمة لا حول لها ولا قوة، لأنها وُلدت كجنين مشوه في رحم القضية الفلسطينية العسيرة الحظ. وبالتالي لم تعمل منذ ولادتها على أن تكون مخلوقاً طبيعياً له كافة مقومات الحياة كالمخلوقات الأخرى، مما أدّى إلى وضع العثرات أمام أقدام هذا الشعب، ودخوله في نفق مظلم لا نهاية له، ولا مخرج منه.
أما عن إعلان اتفاق التهدئة مؤخراً وانعكاساته سواء على الساحة الفلسطينية أم عربياً ودولياً. فحركة حماس أول المستفيدين منه لأنها من خلاله تحقق عدة نقاط. الأولى: أنها اكتسبت من خلاله شرعية إقليمية ودولية قبل الشرعية الفلسطينية، حتى ولو كان هذا الاتفاق شفوياً وليس مكتوباً. فإسرائيل ذات الذراع الطويل في المنطقة كانت مضطرة بطريق أو بآخر للتفاوض غير المباشر مع غريمتها، ومجرد حدوث هذا التفاوض في حد ذاته مكسب لحماس لأنها تمكنت من فرض شروطها على الطرف الذي لا يعترف بها. وإذا كانت إسرائيل صاحبة الشأن الأول في الملف الفلسطيني قد اضطرت لذلك، فهذا الأمر سينطبق فيما بعد على أطراف أمريكية وأوروبية. وواقع الأمر فإن حماس ليست محاصرة دولياً بالكامل، فثمة اتصالات تجري معها من قوى دولية، لأنه من وجهة نظر هذه القوى أن وجود هذه الاتصالات يعني تسريع فرض الحل السياسي أياً كان، ولأن أي حل سيتم فرضه دون موافقة حماس لا قيمة له، حتى لو قاموا بمائة استفتاء عليه. والولايات المتحدة تفهم وتدرك قيمة حماس في المنطقة، مهما حاولت التقليل من شأنها. أما عربياً فمصر ستكون أول المستفيدين من التهدئة لأنها بذلك تضمن هدوء حدودها. والثانية: إذا ما سمحت إسرائيل بفتح المعابر كلها بما في ذلك معبر رفح وإدخال المواد الأساسية، فهذا يعني أن حماس نجحت بالفعل في ترسيخ وجودها على أرض غزة، وبالتالي فستكون الرئاسة الفلسطينية مضطرة لمحاورتها والخضوع لطلباتها، المتجسدة في إصلاح الأجهزة الأمنية، وإعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية … الخ. والثالثة: أن المعادلة التي تلعب وتناور من خلالها حماس من تحالفها مع قوى إقليمية سواء أكانت عربية أم إسلامية، هي في واقع الأمر ورقة رابحة بيدها، والولايات المتحدة والدول الإقليمية تدرك ذلك تماماً ولا تتجاهله. وما موقف الرئاسة الفلسطينية الذكي من محاولة إعادة الحوار مع حماس إلاَّ جزء من هذا الإدراك، بعدما أدركت أنها لا تستطيع تجاهل حماس إلى ما لا نهاية.
والحقيقة أنه إذا ما تمَّت التهدئة ونجحوا في تطبيقها – وإن كنت أشك في ذلك – وتمَّ إطلاق الجندي جلعاد شاليط، فلا مناص أمام السلطة في رام الله سوى إعادة ترتيب أوراقها من جديد والعودة مرة أخرى لمحاورة حماس. ولكم كان بودي لو تمَّ ذلك من قبل حتى لا يُفرض عليها. إن كلامي صعب ومر، لكنه الواقع لمن يدرك الحقيقة والواقع ولا ينظر للأمور بمقياس حزبي أو سطحي.
إن حماس تعاملت مع دعوة الرئيس للحوار بذكاء، فقبلتها دون تردد حتى لا تظهر أمام الرأي العام بموقف الذي يريد أن يستمر الانشقاق إلى الأبد. ويبدو أن هذا الموقف لم يرق للآخرين، الذين اعتقدوا أنها سوف تناور ولا تقبل الدعوة على الفور. ومهما يكن من أمر، فإن الساحة الفلسطينية لا زالت حُبلى بالتناقضات ولا زال الجدل البيزنطي بين الفرقاء الفلسطينيين على ما هو عليه عقيماً لا طائل من وراءه. ويبقى التشكك في إمكانية التلاقي بين هؤلاء الفرقاء سيد الموقف، ليس عن تشاؤم، ولكن لأن العلاقة التي تربط هؤلاء الرهط من الناس كالعلاقة قديماً في العصور الوسطى بين الكنيستين الشرقية والغربية في كلٍّ من القسطنطينية وروما، اللتين بقيتا على ما هما فيه من تناحر بينما القوات العثمانية تداهم القسطنطينية وتستولي عليها. فهل حالنا سينطبق عليه ما حدث للقسطنطينية.