د. مصطفى رجب
حدثنا أبو دجاجة بن ديك بن فروجة الرومي عن أبي البصل بن صلصة بن قوطة المعروف بالذبيح قال : زرت أصبهان عام ست وستمائة لآخذ العلم عن مشاهير علمائها وأتلقى الإجازات عن جِلَّة من كبار مشيختها ، فلقيت هناك أبا الفرج البيلاوي المعروف بظرفه ولطفه ، وأقمنا مع عدد من طلاب العلم في خان نظيف يقال له (هوليداي إن ) قريب من مساكن الجن ، في واد من وديان أصبهان البديعة ، لم يجدوا له اسما فلقبوه بـ ” شرق التفريعة ” .!!
وطاب لنا هناك المقام ، نتلقى النحو والصرف واللغة والعروض وجه النهار على شيوخنا فإذا جننا الليل طابت أوقاتنا بالسهر، وأذهبنا عن أنفسنا العناء بالضحك والسمر، وذات ليلة طلبنا من أبي الفرج أن يقص علينا من غرائب تلك البلدان ، ما تطرب له النفوس فتنسى الغربة والأحزان ، فقال :
” جرت كائنة من الغرائب في عهد مولانا الوزير الصالح جمل الدين بن هلال الدين بن شهاب الدين بن بهاء الدين المراجيحي الملقب بالعادل ، فقد كان الطلاب يؤدون امتحانات الثانوية العامة في بلاد سيحان وجيحان ، فجاءهم في التفاضل سؤالان وجيهان ، فعجز عن حلهما الأحمران والأخضران والأبيضان والأسودان ، والقائمان والنائمان ، ولم يبق في عموم القطر من له ابن يمتحن إلا وفقد بصره وطلق امرأته وأدمن الأفيون ، أو دخل السجون ، وواضعو تلك الامتحانات في تلك البلاد ، يبغضهم العباد ، فهم قوم غلاظ شداد فى غلظ الجاموس ، قصيرة قوائمهم ، لهم أخفاف ثقال ، وهم فى ألوان الخيل ولكل منهم أنف كأنف أبي ذؤابة، وأذنان صغيرتان كأذني الخيل ولبعضهم ذيل مثل ذيل الجاموس ولبعضهم صهيل كالخيل ، ولبعضهم شحيج كالبغال ، ولبعضهم أنياب كأنياب السباع ولبعضهم حافر مشقوق كحافر البقر وإذا ظفر واحد منهم بتلميذ أو بولي أمر تلميذ في مكان آمن ، فإنه يأكله ، وإذا ظهر أولئك الممتحِنون ( بكسر الحاء ) للناس في وضح النهار، يحصل منهم الضررالشامل لأهل النواحي ، فهم يرعون الزروع فإذا حصل منهم ضرر، ولازموا تلك الجهات يطرح لهم أهل القرى شيئا من الترمس في الموضع الذي يظهرون منه فيأكله أحدهم ويعود الى بيته فاذا شرب ماء ، ربا ذلك الترمس فى جوفه فينتفخ فيموت .
ولهؤلاء الممتحنين صنم نظيف لطيف يعبدونه يسمونه ( الوزير الأول ) ويعرف بأبي الهول لا يظهر منه سوى رأسه ، وبقيته مدفونة فى زكيبة من زكائب الفرنجة يقال لها البدلة عند أهل مصر والشام ، ويقال طوله سبعون ذراعا وفى وجهه دهان يلمع له رونق كأنه يضحك تبسما ،ومخه من الصوان المانع ويقولون إنه طلسم بمنع الماء عن بر مصر.ومن العجائب في عهده أن قرية من أعمال المنيا وهي شرقي النيل ولها سور وأبواب وهي قرية خراب وعلى أحد أبوابها جميزة كبيرة فإذا كانت أيام الامتحانات يرون في كل يوم قبل طلوع الشمس أناسا غير جنس بني آدم يدخلون تلك القرية ويخرجون منها ، فإذا دخل الناس تلك القرية لم يروا فيها أحدا من الذين كانوا يدخلون إليها ويخرجون منها …!!
وهذه الواقعة مشهورة عند أهل تلك الناحية. ومن العجائب أن ببلاد المنيا وكفر الشيخ وقنا وغيرها ضيعة يقال عنها ( شفافية ) بها عمود من نحاس اصفر وعليه صفة طائر من نحاس فإذا كانت ليلة اليوم الأول لامتحان الثانوية العامة نشر ذلك الطائر جناحيه ومد منقاره فيفيض منه ماء يعم تلك القرية ويسقي زروعهم وبساتينهم ويملأ صهاريجهم وذلك يكفيهم من العام إلى العام وهذا دأب ذلك الطائر في كل سنة .
ومن أعجب العجائب أن حكيما من الحكماء في بعض مدائن المنيا صنع حوضا من رخام أبيض وعليه كتابة بالقلم القديم فيجتمع أهل تلك المدينة ويأتي كل منهم بسؤال من أسئلة الامتحان فيضعه في ذلك الحوض فتختلط الأسئلة كلها بعضها ببعض حتى تصير شيئا واحدا ثم يقف الساقي على ذلك الحوض ويسقى فلا يطلع لكل واحد في قدحه الا ورقة مجابة مدققة مراجَعة مصورة في أحسن صورة .
قلت لصاحبي : فما الذي يضير الإعلام المريض في بلادكم من تفريج الكرب عن الممتحَنين – بفتح الحاء – من الصغار الأبرياء من الطلاب؟ أوليس الامتحان من المحنة ، والمحنة شدة ، والشدة كرب ،والمعروف لنا أن من فرّج عن مؤمن كربة من كربات الدنيا نال أجرا عظيما ؟
قال صاحبي : تسريب الامتحانات على هذا النحو يجعل من العملية التربوية كلها لهوا ولعبا ويخل بهيبة وهيبة ..!!
قلت لصاحبي : أوليست الحياة الدنيا كلها – بنصوص الشرع الحنيف – لهوا ولعبا ؟
أو ليس التعاون على تجاوز محنة الامتحان بابا عظيما من أبواب التاون على البر والتكافل وسد حاجة المحتاج وإغائة الملهوف وإعانة المضطر ، وكلها – كما ترى – من [المروءات ] التي يمارسها الكبار في الانتخابات العامة ، والصفقات الكبرى ، ويفعلها بعض سفهاء أساتذة الجامعات مع أبنائهم ، أفلا تدركنا الرجولة والحزم والانضباط إلا مع أولئك العصافير الصغار من طلاب الثانوية الأبرياء ؟ أهنا فقط يحرم التسامح ويحل الحل كله يوم الانتخابات والاستفساءات ؟
قال : بلى ، ولكن هذا امتحان ينبغي أن تشد له الشدائد من عزائم الرجال .
قلت له مازحا : أي رجال ؟ أهؤلاء الذين صمتوا حين أسرت ( ج ي ب و ت ي !!! ) مائة صياد من أهلهم لمدة عام كامل واستولت على مراكبهم فلم تنبس خارجيتهم بحرف واحد ؟ أم هم أولئك الذين دمرت صواريخ جيرانهم أربع عشرة باخرة صيد واحتجزت ستا وخمسين وأسرت من عليها من الصيادين خلال عامين فلم تعلم خارجيتهم أو علمت ولم تبلغ كما كان يقال !!؟ أم هم أولئك الذين يسرّبون آلاف الشباب العاطلين عبر البحر فرارا من الجوع والتعطل فإذا غرقوا أفتى العلماء الأجلاء بأنهم ليسوا شهداء لأنهم سافروا طلبا للمخدرات ؟
تسريب للشباب ، وتسريب للصيادين ، وتسريب لمراكب الصيد ، وتسريب للمصانع الناجحة ، وتسريب لخيار المواقع والأراضي التي تباع للكبار بالملاليم ، وتسريب لقوانين السوء في جنح الليل ، وتسريب لأرواح أهالي الحدود برصاص اليهود ، وتسريب لأهل الكفاءة في مؤسسات التعليم ، وتسريب لأموال الطامعين في توظيف أموالهم ، زتسريب لفيروسات الكبد ، وتسريب للسرطان ليكون حقا لكل مواطن يستخدم دما مسرطنا ، وتسريب للدقيق من مخاز السوء ، و…. و……فيا أخي هوّن عليك ( ماجاتش على الثانوية !! )
واستغرقت في ضحك ظننت أن يشاركني فيه جلسائي فلم أسمع لهم ضحكا ، ولم أحس لهم أثرا ، فنظرت حولي وأنا مسترسل في ضحكي فإذا بي أفاجأ أن أبا الفرج وصحبه قد ( تسرّبوا ) من حولي وتركوني قائما أخطب في طواحين الهواء .. !!
———————–