د. نضير الخزرجي*
خلال إحدى زياراتي لبغداد بعد 9/4/2003، استقلت سيارة أجرة، وبعد برهة من الزمن حانت مني إلى السائق التفاتة بعد أن لمحته يحرك السيارة ويفرملها بيده، فإذا هو مقعد مقطوع القدمين من الركبة، يستعمل يده فقط لحركة السيارة بعد أن حورت بطريقة بدائية لتكون على مقاسه وتحت مستوى سيطرته، والى جانبه ثنائية متلازمة في صيف العراق عبارة عن قطعة قماش يمسح بها عرقه، وقنينة ماء يروي بها عطشه.
في هذه الأثناء نبض في داخلي عِرق الإعلام فوددت أسأله عن وضعه الجسماني والإجتماعي، فالعِرق دسّاس وحسّاس في آن واحد، لكنني توقفت لئلا أحرجه، فربما كان من ضحايا الحرب العراقية الإيرانية، وينسى الى الأبد تذكر غربان تلك السنوات السود، وانكفأت على نفسي قابضا على عرقي ونفسي خجلا واحتراما وإكبارا لهذا الرجل الذي خرج الى الناس يقضي حوائجهم مقابل أجر دون أن يمد يده للكريم واللئيم، وأخذت أقارن بينه وبين أناس يملكون يدين ورجلين وعضلات مفتولة، لكنهم استأنسوا الى البطالة استئناس الفصيل الى أمه، وأصبحوا عالة على هذا وذاك، أو أنهم يستحقرون العمل ويحقرون العامل، وانتقل بي تفكيري الى أوروبا حيث يتحايل البعض من اللاجئين والمقيمين على القانون حتى يحصل على التقاعد في سن مبكر دون عذر طبي حقيقي، أو أن يمثل أمام موظف الضمان الاجتماعي ليقنعه بعجزه، وقد فاق البعض في تمثيله أشهر ممثلي هوليود، ومثل هذا الأمر كما ذكرت صحيفة ميترو (METRO) اللندنية في عدد 23/6/2008م، هو الذي حمل على سبيل المثال وزير العمل والتقاعد في حكومة الظل البريطانية كريس كريلينغ (Chris Grayling) على أن يدق ناقوس الخطر للأرقام المتصاعدة في عدد المستفيدين من التقاعد المرضي المبكر المنقطع والدائم، إذ بلغ الرقم حتى شهر أيار مايو العام 2007م (2.643.290) بريطانيا بما فيهم المتجنسون من اللاجئين والمقيمين، وأن (806.630) من هؤلاء يتسلم التقاعد المرضي منذ عشر سنوات متواصلة!
ثم عدت بتفكيري الى العراق وفي مشاهدة منقوصة، حيث نجد البعض من مفتولي العضلات وأصحاب العمل والمال يتحايل على شبكة الحماية الاجتماعية من اجل أن يحصل على المزيد من المال دون ما وجه حق، في حين أن هذا المال هو من حق العاطل والمقعد والمريض واليتيم والأرملة وكل إنسان لا يملك قوت يومه أو سنته على تعبير الشرع، بل إن نموذجنا الحي سائق سيارة الأجرة هو أحق بالرعاية الإجتماعية والطبية ومن واجب السلطات المعنية أن تجلسه في داره معززاً مكرماً تصرف عليه وعلى عياله من بيت مال المسلمين، فما تقدمه الحكومة لهؤلاء وأمثالهم ليس بمنة أو مكرمة بل واجب، فكما من واجب الأب رعاية أسرته الصغيرة، فمن واجب الحكومة رعاية أسرتها الكبيرة.
فالذي يميز المقعد العامل عن السليم العاطل، أن الأول نظر الى العمل “حركة فيها بركة” وإن عدّت بعض الأعمال في نظر البعض وضيعة، أو لا تليق بشأنه ومكانته الإجتماعية أو وضعه الجسماني والنفسي، والثاني نظر الى كبريائه فعزّ عليه الحركة في طلب الرزق، واستسهل البطالة واستساغ المعونة الإجتماعية حتى وإن حصل عليها بالحيلة، ومثل هذا لا يورث لبنيه إلا الحيلة وقصر الهمة، فالنتائج من سنخ العمل، ومن ينثر تبناً لا يورّث تبراً.
ولكن ما هي نظرة الإسلام الى العامل والمستخدم والأجير وما هي الحقوق والواجبات المترتبة؟
هذه الخطوط العامة نجدها في كتيب “شريعة الخدمة” للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، الذي صدر حديثا (2008م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 56 صفحة من القطع الصغير مع تقديم وتعليق آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.
أولياء ولكنهم أجراء!
عدد غير قليل من العظماء امتهنوا في حياتهم أشغالاً وعملوا وأكلوا من كدّ يمينهم وحرّ مالهم، وبعضهم أجّر نفسه مقابل فرصة عمل والارتزاق منها، لأن العيب ليس في عمل الأجرة والخدمة وإنما العيب كل العيب في البطالة والترهل والشكوى من غدر الزمان مع قدرة الإنسان الخروج مما هو فيه من ضنك العيش الى نصب العمل حتى وإن عمل لدى الآخرين بأجرة مقطوعة أو دائمة، فلو كانت الخدمة لدى الآخرين عيبا كما يقرر الفقيه الكرباسي لما أقدم عليها نبي الله موسى (ع) حينما استأجره النبي شعيب ليعمل لديه كما سجل القرآن الكريم القصة بكاملها في قوله تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين. قال إني اُريد أن اُنكحك إحدى آبنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما اُريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين) القصص: 26-27.
ربما يجد البعض مسوغا لخدمة موسى (ع) لدى شعيب (ع)، بأنها خدمة ولي عند ولي، حتى يبرر تقاعده عن العمل والأكل من بيت المال أو صندوق الضمان الإجتماعي أو شبكة الحماية الإجتماعية باختلاف المسميات ووحدة المقصد، لكن من أية زاوية يمكن قراءة قصة عمل الإمام علي (ع) لدى تاجر من أهل الكتاب من يهود المدينة المنورة؟ فقد نقل إبن عساكر علي بن الحسن (ت 571هـ) في تاريخ مدينة دمشق: 14/171، أن الإمام علي عمل لدى يهودي ينزع له الماء، ويأخذ عن كل دلو تمرة.
فالخدمة من الرزق الحلال كما يرى الكرباسي في التمهيد: “مهنة شريفة مثل سائر المهن حيث يكتسب المرء من عرق جبينه ولا يكون كلاًّ على غيره ولا يستجدي أحداً، وليس هو بالعاطل الباطل، بل يعد عنصرا حيويا في المجتمع، فلولا هذه الطبقة لما تقدم في الوجود شيء، بل إن جميع الناس دون استثناء هم خدم يؤجرون أنفسهم لخدمة المجتمع، فما من موظف سواء أكان بمستوى رئيس الجمهورية أو الملك إلا موظف في الدولة، يأخذ أجرة لقاء خدماته التي يؤديها .. فأصبح هناك من الخدم من هو بمستوى الملك في أعلى مستوياته، وآخر بمستوى المنظف لأقذر الأشياء، وما هذا الفرز إلا فرز نفسي فرضته الأعراف السائدة بين الشعوب”، بل إن مفردة العامل كانت تستخدم في الأدبيات السياسية العربية القديمة، فيقال فلان عامل الخليفة على المدينة الفلانية، ثم مع مرور الزمن تحولت مفردة العامل الى وكيل أو والي أو محافظ أو عمدة، فكلهم عمال من أصغر إنسان الى الملك أو الرئيس أو رئيس الوزراء، بل إن بعض الملوك يفتخر بخدمة الناس، لأنه يرى في خدمة العباد مكرمة ونعمة إلهية، عملا بوصية الإمام الحسين بن علي (ع): (إعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم الله عز وجل عليكم فلا تملّوا النعم فتعود النقم).
الإختيار الصعب
وما يبحثه الفقيه الكرباسي في “شريعة الخدمة” خصوص ما يطلق عليه في الوقت الحاضر بالعمالة المرتبطة بمكاتب عمل العمال أو الخدمة المنزلية وملحقاتها، من الذكور والإناث، وربما تطرق استطرادا الى الموظفين في الدوائر والشركات والمستخدمين، وهو إذ يرى في الخدمة المنزلية شرفا للعامل، لكنه ينبه في الوقت نفسه على الأسر إختيار الأحسن من الخدمة والمشتغلين والسائقين، لان هؤلاء سيصبحون جزءاً من محيط العائلة بخاصة المربيات، وحسب تعبيره: “فلقد أفادتنا التجارب أن الكثير من الشخصيات ذات المكانة المرموقة ما وصلت الى ما وصلت إليه إلا عن طريق الخادم أو المربّي أو المرافق، وفي قبال ذلك فإن هناك آخرين وقعوا فريسة هؤلاء الخدم والمربّين والمرافقين”.
وتبرز أهمية الإختيار في البلدان التي تستوعب عمالة منزلية كبيرة مثل بلدان دول الخليج العربية، فعلى سبيل المثال وصل عدد العمالة المنزلية في السعودية حسب إحصاءات العام 2003م نحو 812 ألفاً، وفي الكويت ارتفع العدد عام 2004 من 400 ألف الى 450 ألفاً، وفي سلطنة عمان 66 ألفاً والبحرين 30 ألفاً وفي الإمارات 450 ألف عامل وعاملة، وحسب دراسة قام بها عام 2004م، المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية والعمل فان معظم العمالة المنزلية قادمة حسب النسبة من: الهند، سريلانكا، بنغلاديش، الفليبين، أندونيسيا، وباكستان، ولم تحظ العمالة المنزلية العربية إلا بنسبة واحد بالمائة من مجموع العمالة المنزلية، والدولة الوحيدة التي تملك قانونا خاصا بالخدمة المنزلية هي دولة الكويت، وتطبق مملكة البحرين جزءاً من قانون العمل على الخدم.
واذا ما اُضيفت الى النسب، أرقام العمالة الوافدة بشكل عام، فان الأرقام ستكون حينئذ مذهلة، فحسب إحصاءات عام 2008م، هناك نحو 12.5 مليون عامل وافد في دول الخليج العربية، وتشكل قطر النسبة الأعلى، فالعمالة الوافدة فيها تشكل 79.4 بالمائة من نسبة السكان، تليها الإمارات 74.3 بالمائة، والكويت 58.5 بالمائة، والبحرين 40.7 بالمائة، وسلطنة عمان 31.3 بالمائة، ثم السعودية 31.1 بالمائة. وهذه العمالة بما فيها الخدمة المنزلية تحرك عجلة الاقتصاد في بلد إقامة العامل وموطنه الأًصلي، فالأول يحصل على يد عاملة رخيصة، والثاني يحصل على تحويلات سنوية، وحسب إحصاءات عام 2008م فان التحويلات المالية السنوية لعموم العمالة الوافدة تفوق رقم 25 مليار دولار، وخصوص العمالة العربية الوافدة الى دول الخليج أكثر من سبعة مليارات دولار سنويا.
وإذا كانت الخدمة المنزلية ضرورة عند بعض الأسر، فلا يعني أن يضع العمل كله على كاهل العاملة أو العامل من التربية الى المطبخ الى التسوق، فلسيدة المنزل أن تظهر لمساتها على منزلها وأولادها، فهذا أقرب الى قلب الزوج وهوى العيال، ولنا في السيدة فاطمة الزهراء (ع) أسوة حسنة، فقد استخدمت فضة النوبية، لكنها (ع) كما يؤكد المحقق الكرباسي: “قاسمتها الأعمال بطريقة ذكية وتبادلية وليست بطريقة الفرز، حيث جعلت لها يوماً وليلة ولتلك يوماً وليلة… كما أنها كانت شريكة حقيقية في البيت، تحضر معهم مائدة الطعام وتشاركهم الأفراح والأتراح كجزء لا يتجزأ من أهل البيت، ومن هنا نجد أن فضة تشارك الإمام أمير المؤمنين (ع) والسيدة فاطمة الزهراء (ع) في نذرهم وهو صوم ثلاثة أيام شفاءاً للحسنين (ع)”.
ضحايا الفاقة
ولا يقتصر الحديث عن العمالة، على البالغين، ذكرانا وإناثا، وهي القاعدة التي ينبغي أن تحكم قانون العمل من الناحية الوضعية والشرعية، بل يشمل عمالة الأطفال، وهم فلذات الأكباد الذين قذفت بهم سيئات الحياة الى أتون العمل وحرمتهم من الطفولة ولعبها، وربما حرمتهم من الدراسة وثمراتها، وقد آلمني في مطار بغداد الدولي خلال زيارتي الأخيرة في آذار مارس 2008م، رؤية عمال تنظيف لم يخطوا شاربا، ربما بعضهم لم يبلغ الحلم، وقد سألت بعضهم عن السبب الذي جاء بهم الى هنا، فأجمعوا على أن الحاجة ورغبة شديدة في مساعدة الأهل في مصروف البيت هي الدافع، وربما لأن الشركة غير العراقية التي تتولى عقد تنظيف وصيانة المطار اختارت صغار السن لمسائل ربحية، فصغار السن لا يطلبون الكثير وليس لهم مخصصات إضافية كما للكبير ورب الأسرة، ولكن هؤلاء العمال الصغار فقدوا مدارسهم وتعليمهم، فالأجدر أن تشترط الحكومة على الشركة العاملة استخدام الرجال وأصحاب العوائل، وتزج بصغار العمال الى المدارس، وأن يكون يوم الثاني عشر من شهر يونيو – حزيران، وهو اليوم العالمي لمكافحة عمل الأطفال، يوما حقيقيا وإسماً على مسمّى.
وفي الواقع إن عمل الأطفال شائع في دول العالم، واذا كانت الأنظمة الغربية تمنع ذلك، بعد أن وفرت للأطفال حتى سن 16 عاما مقاعد للدراسة، مع ضمان اجتماعي مالي ولو كان قليلا، فان الأنظمة الفقيرة والأنظمة النفطية التي ينعدم فيها نظام الحماية الاجتماعية يكثر فيها عمل الأطفال، وحسب آخر تقديرات منظمة حماية حقوق الطفولة الدولية (اليونسيف) هناك 158 مليون طفل دون سن 15 عاما يعملون في أنحاء العالم، والملايين من هؤلاء ضحايا الحروب والبطالة والفقر، ففي تقرير اليونسيف للعام 2008، وقعت خلال عشرة أعوام في الفترة (1989-2000م) 110 صراعات منها 103 حروب أهلية، كان الأطفال والنساء ضحيتها، وفي الوقت الحاضر توجد صراعات مسلحة في أكثر من 40 دولة، و90 في المائة منها ذات دخل منخفض يشجع استغلال الأطفال في العمل بأجور زهيدة وبأعمال خطيرة.
وأخيرا فان كتيب “شريعة الخدمة” في 116 مسألة فقهية قديمة ومستحدثة، يمثل إضافة جديدة ينظم عمل مكاتب التشغيل على ضوء الشريعة الإسلامية التي تتولى حفظ حقوق المستخدَم (بالفتح) والمستخدِم (بالكسر)، وتبين لكل واحد منهما واجباته وحقوقه، وهي جديرة بأن تكون نصب عين وزارات العمل والشؤون الإجتماعية، ومحل اهتمام مدراء مكاتب العمل.
*إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات – لندن