منذ توقيع اتفاق التهدئة بين حركة حماس والعدو اليهودي برعاية مصرية وأنا أحاول عدم الكتابة عنه لأنه أشبع كتابة وحكي في المحكي على رأي المثل الفلسطيني، وبطبعي لا أحب تكرار ما يُقال أو إعادة إنتاجه
كما يفعل الكثير أو القليل، لم أكتب على الرغم من أن كثير مما يكتب أو يُقال يستفز الإنسان استفزازاً غير طبيعي للكتابة وتوضيح حقيقة التلاعب بالحقائق والأحداث وفلسفة الكلمات لنصنع من كل حدث مهما كان خاسراً وكأنه قمة الانتصار وأعظم الإنجاز.
ما بين المقاومة والأنظمة
كنا طوال عقود مضت ننتقد كثير من الأنظمة لأنهم اعتادوا على تضخيم انتصاراتنا وإنجازاتنا وتهويلها على قدر تواضعها ولا داعي لكلمة أخرى، وتهوين وتصغير نكباتنا على قدر عظمها وضخامتها. وقد أخذنا عمن سبقنا نقده لمن حول نكبة الأمة الثانية في حزيران/يونيو 1967 إلى نكسة وليس حتى إلى هزيمة، وبرر ذلك الاستخفاف بنكبات ومصر الأمة” بأن الهدف من العدوان كان إسقاط الأنظمة الثورية القومية التقدمية ولكن العدو قد فشل في تحقيق ذلك وبقيت الأنظمة جاثمة على صدر الأمة تعيث في أرواحها ومصيرها فساداً ومقامرة كما هي، على الرغم من أن العدو احتل الأرض وقتل الجماهير وهيمن على المقدرات!! ويبدو أن بعض حركات المقاومة في فلسطين بعد أن أصبحت جزء من السلطة، أصبحت جزء من تلك الأنظمة وعلى دربها سائرة، ونسيت أو تناست ما كانت تتهم به الأنظمة من تحويل النكبة والهزيمة إلى نكسة، ويتجلى ذلك ونقولها بكل مرارة وأسف في موقف إخواننا في حركة حماس الذين من قبل أن يتم عقد اتفاق التهدئة وهم يحدثونا عن قوة حماس وثبات حماس في وجه الحصار وانتصار حماس ….إلخ، دون احترام لعقولنا أو مراعاة لمشاعرنا وبغض النظر عما يلحق بالأمة والجماهير الفلسطينية من نكبات.
لذلك أجدني مضطر ومكره للكتابة لأني لم أكن أرغب يوماُ أن تنحدر حماس إلى تكرار ما سبق من تجارب ونحن ظننا أننا ودعناها، وتتحول من حركة مقاومة أبدعت بحق في مجال المقاومة وميادين الصراع العسكري فعلاً، إلى نظام دولة وسلطة ينتهج قلب الحقائق وسيلة لصناعة انتصارات وهمية أو جزئية، وتبرر بها مواقفها وسياستها وممارساتها التي كانت في غنى عنها لو بقيت حركة مقاومة، وكانت اكتفت في أحسن الأحوال من لعبة الديمقراطية التي كان الهدف منها ما نحن عليه اليوم بالحصول على الشرعية السياسية بعد أن حصلت على شرعية المقاومة، بما حققته من فوز في انتخابات المجلس التشريعي ولم تزد على ذلك. ولأدركت وهي التي تتحدث عن قراءتها واستيعابها لتاريخ فلسطين والثورات العالمية وما فيها من دروس، وأن لديها فريق كبير من الباحثين والمتابعين الذين يقرؤون الواقع ويحللون ما يكتبه أو يعلنه العدو والعالم أجمع…إلخ، لأدركوا فعلاً أنه يستحيل في هذه المرحلة بالذات أن تنجح حماس في الجمع بين السلطة والمقاومة، لأن معادلة الصراع مازالت ترجح وبشدة لصالح العدو، ولأن السلطة لها دور وظيفي يتناقض مع دور المقاومة، وأن الأموال التي تُدفع لها تُدفع من أجل القيام بذلك الدور، وأنه لا يُعقل أن يدفع العالم الأموال لحماس التي تقود حكومة السلطة من أجل أن تنجح في تقديم نموذج يجمع بين السلطة والمقاومة! وعلى ذلك إما أن الإخوة في حماس لا يعيشون الواقع. أو أنهم يعشون الواقع ويدركون حقيقة المعادلة ولكن عينهم على السلطة والكرسي مهما كلف ذلك من ثمن، وأن المقاومة لم تعد خيار استراتيجي لتحرير فلسطين بقدر ما هي وسلة للوصول للكرسي؟! لذلك على حماس أن تختار بين المقاومة أو الحكومة إن هي أرادت أن تبقى محافظة على نفسها من الانزلاق إلى ما انزلق إليه مَنْ سبقها. إما مقاومة أو حكومة أما الاثنان فذلك في المرحلة الحالية أمر يستحيل.
انتصار الجماهير
في حقيقة الأمر أن الذي حدث في التهدئة هو: أن الجماهير هي التي انتصرت وليس المقاومة؛ إن لم تكن المقاومة هي التي هُزمت وليس العدو ـ أكيد هذا سيثير حفيظة واستهجان البعض ـ ولكن هذه هي الحقيقة التي يجب أن نقف أمامها ونَصدِم أنفسنا بها، وأن يسمعها مَنْ ترضيه ومَنْ لا ترضيه! والدليل على ذلك لا يحتاج إلى فلسفة ولا فذلكة في الكلام ولا استنطاق الوقائع والأحداث ما لا تقله أو يمكن أن تقوله! فقط أن نقرأ ما حدث بتجرد وموضوعية وحياد بعيداً عن الأهواء والرغبات:
* الحصار لم يُفرض على حركة حماس ولكنه فُرض على الجماهير عقاباُ لها على خيارها الديمقراطي الحر الذي عبرت عنه بانتخاب مرشحي حركة حماس، ولم يكن ذلك كراهية أو عداء من الجماهير لحركة فتح بقدر ما كان رسالة واضحة لأصحاب القرار فيها بأنها ـالجماهيرـ ضاقت ذرعاً من ممارسة القلة المتنفذة والمسيطرة على القرار في فتح. وقد كان الهدف من الحصار ليس إسقاط حماس وإظهارها أنها فشلت في الحكم وذلك ما لا يستطيع أن يقوله أحد؛ لأنها تم محاصرتها من قبل أن تشكل الحكومة ولم تُعطى الفرصة كجميع الحكومات السابقة لكي يكون الحكم عليها بالنجاح أو الفشل عادلاً ومنصفاً. وكما أن فتح على ما يبدو لم تصلها الرسالة ولم تحاولوا إصلاح أوضاعها حتى تستعيد ثقة الجماهير ثانية؛ فغن حماس أيضاً لم تصلها رسالة الدول المانحة والممولين الغربيين للسلطة؛ بأنهم لن يسمحوا لها أن تنجح في تحقيق هدفها المشروع بالجمع بين السلطة والمقاومة، لأنهم يدفعون للسلطة لتقضي على المقاومة! ولأن الهدف كان دفع وإكراه الجماهير الفلسطينية للثورة والانقلاب على حركة حماس والخروج إلى الشارع للمطالبة بتخليها عن السلطة أو إسقاطها بالقوة، ولو حدث ذلك لكان سابقة خطيرة في تاريخنا الفلسطيني، ولأعطى لأعداء الأمة والوطن المبرر لاقتحام غزة وإسقاط حماس بأي شكل، ولكن الجماهير صمدت وصبرت وتحملت ولم تحقق لأعدائها هدفهم فهي التي انتصرت وليس حماس، التي لم يعاني أقل واحد من أنصارها في غزة شيء يذكر مما عانته الجماهير، وهذا ليس موضوعنا فقد كتب فيه الكثيرين، كان ممكن أن تنتصر حماس لو تخلت عن الحكومة التي كانت وستبقى سبب الحصار!
* وعلى صبر الجماهير يحتم علينا الواجب أن نذكر: هنا تتجلى الحكمة الربانية في اختيار أهل فلسطين ليكونوا طليعة الأمة ضد عدوها المركزي، تلك الطليعة التي حولتها المقاومة في فلسطين بجميع مسمياتها وليس حماس فقط بسبب عدم وعيها بحقيقة الدور الإلهي المناط بها كطليعة للأمة، أو لرغبتها في الحفاظ على المكاسب الحزبية والشخصية إلى بديل عن دور الأمة! ولم نَعُد نسمع من قادة المقاومة كلهم إلا أن قوتنا سترغم العدو على كذا أو كذا، أو قوتنا ستردع العدو عن كذا أو كذا…إلخ من تصريحات تدل على عدم وعي المقاومة في فلسطين بحقيقة دورها، أو بأنها يستحيل أن تكون بديل عن دور الأمة مهما بلغت أو بالغت في قوتها، وأن تلك المبالغة هي التي غرتها بنفسها وجعلتها تهتم في تجميع الأسلحة واستخدام أساليب مقاومة تُبعد الأمة أو تضعف تفاعليها مع المقاومة أو أن تأخذ دورها في المشاركة في تحرير فلسطين، وذلك واضح لكل متابع منذ خروج العدو من غزة وتركيز المقاومة واهتمامها وعُجبها بقوتها!.
هزيمة المقاومة
* في مقابل انتصار الجماهير وإفشالها مخطط العدو لاستخدامها ضد حماس انهزمت المقاومة بتوقيعها اتفاق التهدئة! نعم هُزمت، لأنه العدو المحتل للوطن والغاصب للأرض وجميع الحقوق الوطنية الفلسطينية هو الذي كسب! أوضح لك كيف:
– لأن الغذاء وغيره من المواد الأخرى التي وافق العدو على إدخالها لأهلنا الصامدين في غزة مقابل الحصول على التهدئة، هو في الوضع الطبيعي وفي القانون الدولي الباطل الذي يحدثونا عنه حق لأهلنا في غزة على الاحتلال دون أن نقدم له أي مقابل، لأنه وضع غزة القانوني مازال أنها أرض محتلة، وفي نفس القانون فإن واجب توفير احتياجات سكان الأراضي المحتلة يقع على عاتق المحتل، فعندما يُقدم لنا المحتل ما هو حق لنا بمقابل نكون انتصرنا أو هُزمنا؟!.
– وبناء عليه يكون العدو المحتل لوطننا قد تخلص من أحد أهم الحقوق لنا عليه وحولها لورقة مساومة لنا على حقنا في المقاومة، وأصبح بإمكانه كلما شعر بأنه في أزمة داخلية أو أن المقاومة شكلت له أزمة أو ضغط من سكان المغتصبات المجاورة لغزة، استخدم ورقة الحصار ضد غزة ليضطر المقاومة للبحث عن تهدئة! وهكذا تحولت المقاومة من خيار استراتيجي إلى فزاعة أو وسيلة نحاول من خلالها أن نكره العدو على رفع الحصار!.
– في المحصلة سيصبح هَم أي سلطة في غزة وخاصة حماس ضبط الفصائل المتحفظة على التهدئة من خرقها، وهذا يهدد وحدتنا الوطنية التي يزداد شرخها وتفتتها، وقد يُدخلنا ذلك في صراع داخلي أشد من الذي حدث في 2007، بين مقاومة في الحكم ومقاومة خارج الحكم. وخاصة في حال تصعيد العدو لعدوانه في الضفة التي استثناها الاتفاق لاستفزاز أو إذلال المقاومة في غزة، وترى الفصائل غير الملتزمة بالتهدئة واجب الرد على عدوانه من غزة، كما حدث اليوم بعد اغتيال العدو لاثنين من سرايا القدس في نابلس! الضفة الغربية التي تعاملت معها حماس في الاتفاق ليس بتهاون فقط ولكن صورتنا للعالم وكأننا نملك من القوة بما يكفي للدفاع عن أنفسنا في وجه آلة الهمجية العسكرية اليهودية! ففي إجابته الحيلة عن سؤال حول وضع الضفة في الاتفاقية؛ أجاب: أن أهلنا في الضفة قادرون على الدفاع عن أنفسهم! ألا يثير ذلك الدهشة! الضفة المحتلة التي يعيث فيها العدو قتلاً وتدميراً واغتصاباً للأرض … قادرة على الدفاع عن نفسها! إذن ناموا يا عرب ويا مسلمون ولا تأخذوا دوركم، لأن قضيتكم المركزية هناك مَنْ هو قادر على الدفاع عنها، فالمقاومة في غزة قادرة على إرغام العدو لتوقيع تهدئة، والمقاومة في الضفة قادرة على الدفاع عن نفسها؟! علماً أن هذه النقطة بالذات عندما كانت السلطة توقع عليها في مثل هذا الاتفاق كان يُكال لها الاتهامات ولا تلتزم به الفصائل!.
الحديث عن التهدئة يطول، ناهيك عن المادة السابعة في محضر اجتماعات العدو مع الأشقاء المصريين؛ التي نصت على أن ترعى مصر حوار للفصائل الفلسطينية، ما يعني أن ذلك الحوار أصبح جزء من التهدئة، وأن العدو شريك غير مباشر فيه! أي أنه سيتحكم في مساره. بالإضافة إلى استثناء معبر رفح الذي هو الأساس من الاتفاق وربطه بالاتفاق على صفقة الأسرى، وإعادة التأكيد على فتحه بموافقة الأطراف التي وقعت عليه في عام 2005؟! وفي النهاية قد يكون اتفاق التهدئة كله من أجل إيقاع حماس في كل تلك الأخطاء التي وقعت فيها بتوقيعه، ومن أجل الاتفاق على صفقة إطلاق جلعاد شاليط، وبعدها ينقض العدو الاتفاق وقد يعيد الحصار ثانية!.