علي الصراف
مليارات البشر، في أربع جهات الأرض، ومن بينهم الـ850 مليون الذين يعيشون تحت خط الفقر، يدفعون من قوت يومهم، ثمن ظاهرة “إرتفاع أسعار المواد الغذائية”.
المأساة الأولى في التاريخ التي تصيب كل إنسان، في كل يوم، وفي كل مكان، دفعة واحدة.
وما من كارثة في التاريخ سجلت هذا المقدار من الضحايا. لم تتمكن أعتى الزلازل والفيضانات والأوبئة من إصابة كل البشر دفعة واحدة. وما من ظاهرة إقتصادية، في كل مراحل التاريخ، أسفرت عن إلحاق ضرر مباشر لكل الناس على وجه الكرة الأرضية.
اليوم، نكتشف أن هناك قوة دولية، هي وحدها التي تستطيع أن تفعل ذلك، وهي وحدها التي تستفيد منه. قوة هي أسوأ من أسوأ هزة أرضية، وهي وباء أعتى من أي طاعون تعرض له البشر في أي مرحلة من مراحل تاريخهم. أنها، بلا فخر: الولايات المتحدة الأمريكية.
لا أحد، بين الكثير من “الخبراء” و”المحللين” ومسؤولي المنظمات الدولية يقول لك ما هو موقع الولايات المتحدة من الإعراب في ظاهرة ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وعلى مدى أشهر من النقاشات والتقارير والبيانات فقد تم إلقاء اللوم على كل شيء تقريبا، إلا السبب المتعلق بالولايات المتحدة نفسها، رغم انه أكثر أهمية وأكثر شمولا من ثلاثة أرباع الأسباب التي قيل (وما يزال يقال) انها تقف وراء تلك الظاهرة.
وأسباب “الخبراء” كثيرة. وبعضها جدير بالإعتبار بالفعل، إلا أنها، بتحاشيها ذكر السبب الأهم، تبدو وكأنها تؤدي وظيفة التغطية بدلا من تقديم التفسير، لتقترح بالتالي معالجة العَرَض وتترك المرض سالما.
وتمتد قائمة تلك “الأسباب” لتشمل: إرتفاع أسعار النفط، مضاربات الأسواق، إضطرابات العرض والطلب، إرتفاع تكلفة الإنتاج، تنامي إستخدام الوقود الحيوي، المتغيرات المناخية، تربية الحيوانات على حساب المزارع، الحروب والنزاعات الأهلية، وفشل السياسات الزراعية. بل أن الرئيس الأمريكي جورج بوش ووزيرة خارجيته كوندليزا رايس لم يترددا في إلقاء اللوم على الدول النامية نفسها بالقول “أن الازدهار الاقتصادي في هذه الدول يترتب عليه زيادة الاستهلاك للمواد الغذائية، وعليها أن تتحمل جزءا من مسؤولية إرتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم”. وهكذا، ووفقا لهذا المنطق، فبدلا من أن يكون الإزدهار حلا، فقد أصبح مشكلة. ومن وجهة نظر الرئيس بوش، فليس من المفيد أن يزدهر أحد، إلا الذين باركت العنصرية الغربية من حولهم.
ولكن الشيء الذي لا يتحدث عنه أحد، في ظاهرة “إرتفاع أسعار المواد الغذائية” هو صلتها المفصلية بالظاهرة الموازية: “إنخفاض قيمة الدولار”.
على الرغم من المكانة المتزايدة التي تحتلها عملات من قبيل اليورو، الين، اليوان، والإسترليني، كبدائل موازية (غالبا ما تستخدم في نطاق “سلة” احتياطات) إلا أن الدولار ما يزال “المقاصّة” التجارية الأهم في العالم.
الولايات المتحدة ليست إمبراطورية عسكرية فقط. أنها إمبراطورية دولار بالدرجة الأولى. لا تملك واشنطن قواعد عسكرية في كل مكان. ولكن دولاراتها موجودة في كل مكان. وهي “وسيط” ثلاثة أرباع التبادلات التجارية الدولية، بما فيها تجارة المواد الغذائية.
الآن،… المُزارع الذي كان في مطلع العام 2006 يبيع طن القمح بـ 118 دولارا، فلا بد أنه سيشعر بالفرق إذا إنخفضت قيمة هذه الدولارات بنسبة 37% خلال العام التالي. ولا بد انه سيشعر بالحنق والضرر إذا خسر الدولار 20% من قيمته في نصف السنة الجاري وحده. وسيكون مضطرا، بالتالي، الى تعويض خسارته ببيع بضاعته بسعر أعلى. وسيكون سعيدا لو أمكن للعوامل الإضافية الأخرى أن تزيد في رفع الأسعار لتعويض تراجعات ما تزال مستمرة منذ عام 2000 حتى الآن.
هذه الظاهرة لم تكن لتنشأ لو بقي الدولار محافظا على قيمته. بل أن الأسعار كان من الضروري أن تتراجع، إذا أخذنا بنظر الإعتبار أن الانتاج الزراعي العالمي، حسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، التي تقول (نكاية بكل منظري المتغيرات البيئية) أن “الإنتاج الزراعي الحالي بإمكانه أن يكفي لتغذية 12 مليار نسمة بدل الستة ونيف حاليا“.
لماذا، إذن، ترتفع الأسعار إذا كان العرض وافرا؟
لماذا ترتفع الأسعار إذا كان الإنتاج الزراعي الراهن يستطيع أن يُطعم ضعف عدد سكان الأرض؟
وأين سنذهب بالمعاذير التي تقترحها أسباب “الخبراء” و”المحللين” التي تتجاهل الأثر الذي يتركه تراجع قيمة الدولار على ثلاثة أرباع التبادلات التجارية الدولية؟
اكثر المقتربين من الحقيقة جرأة، يُلقون باللائمة في ارتفاع أسعار المواد الغذائية على إرتفاع أسعار النفط. فاذا كان هذا السبب حقيقيا، فالأكثر منه حقيقة هو أن إرتفاع أسعار النفط مرتبط بصفة مباشرة بإنخفاض قيمة الدولار.
والنفط يرتفع بدوره، لانه يظل جذابا (ورخيصا نسبيا) إذا تم تقويمه بعملات ترتفع بدورها أزاء الدولار.
ولكن، إذا كانت العلاقة بين تراجع قيمة الدولار وإرتفاع أسعار المواد الغذائية جلية جلاء الشمس التي لا يمكن تغطيتها بغربال، فالسؤال القمين هو: هل تتعمد الولايات المتحدة إلحاق الضرر بكل البشر؟
الجواب، بكل بساطة،… نعم. لأن خفض قيمة الدولار هو الوسيلة الوحيدة المتبقية للولايات المتحدة لخفض قيمة ديونها، وللحد من العجز التجاري المتفاقم، ولتحسين فرص البضائع والخدمات الأمريكية للمنافسة في الأسواق الدولية.
وبما أن دولاراتها ما تزال هي “المقاصّة” الدولية الأهم، فان الولايات المتحدة تتعمد أن تعصر بطن كل إنسان على وجه الأرض لكي تتمكن من خفض قيمة تريليونات الدولارات التي تدين بها للخارج.
هذا هو الطاعون، وهذه هي عملته.
وحتى ولو جاع مليارات البشر، فان بنك الإحتياط الفيدرالي لن يتوقف عن طبع المزيد من الورق العديم القيمة لتمويل الميزانية الإتحادية، ولدفع فوائد الديون، لأن تلك هي الوسيلة الوحيدة المتبقية لتعويض النقص في التمويل الخارجي، ولضخ بعض الدماء الإصطناعية في إقتصاد يستهلك أكثر مما ينتج، ويستدين أكثر ليستهلك أكثر، حتى ليبدو وكأنه مثل البعوضة التي تموت، في النهاية، بسبب تخمة الدماء التي تمتصها.
وحيثما ترتكب الولايات المتحدة حماقات ومغامرات عسكرية باهظة الثمن، وتموّلها بديون لا تستطيع دفعها، فانها بالسعي المحموم لخفض قيمة هذه الديون، تجبر اليوم كل إنسان على وجه الأرض، على أن يدفع جزءا من فاتورة طعامه لدفع تكاليف تلك الديون.
والكثيرون يجوعون، بالفعل، في كل أرجاء العالم. وأحد أسوأ الأمثلة التي سجلتها منظمة اليونيسيف مؤخرا يقول أن الجوع أدى الى تراجع عدد الأطفال الذين يزاولون دراستهم في العديد من دول العالم الفقيرة. وفي مثال أكثر تحديدا، قالت المنظمة أن برنامج الغذاء العالمي اضطر إلى وقف توزيع حوالي 450 ألف وجبة غذائية يوميا في كمبوديا “بسبب تنصل الشركات المقدمة لهذه الوجبات من التزاماتها بغرض بيع المنتوج في الأسواق بأسعار أعلى”.
والفقراء عادة، هم أكثر وأول مَنْ يدفعون الثمن. فحسب تقديرات اليونيسف
فان “تأثير الارتفاع في أسعار المواد الغذائية الأساسية على العائلات الفقيرة يكون مضاعفا نظرا لأن قيمة المبالغ المخصصة لاقتناء المواد الغذائية تكون أكبر. ففي عائلة ميسورة يشكل 15% فقط من الميزانية، بينما يمكن أن يصل حتى حدود 75% منها لدى عائلة فقيرة، وهو ما يُرغم العائلات المعوزة على تقليص إنفاقها في قطاعات حيوية (التعليم، الصحة، ..) قد تكون لها تأثيرات كارثية على المدى البعيد”.
ويقول البنك الدولي أن “هناك 33 دولة في العالم مهددة بأعمال عنف بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية“.
ويقول جون زيغلر، مقرر الأمم المتحدة السابق حول الحق في الغذاء “أن طفلا دون الخامسة من العمر يموت كل ثانية في العالم، بسبب الجوع، وأن ضحايا المجاعة يتعدى بكثير ضحايا الصراعات المسلحة والعمليات الإرهابية، بحيث يتجاوز عدد الضحايا 100 ألف شخص يوميا”.
كل هؤلاء الناس يموتون، لأن الولايات المتحدة تواجه عجزا تجاريا يزداد من دون نهاية واضحة في الأفق (363 مليار دولار في العام 2001، و421 مليار دولار في العام 2002، 495 مليار دولار في العام 2003، و611 مليار دولار في العام 2004، و711 مليار دولار في العام 2005، و765 مليار دولار في العام 2006، و832 مليار دولار في العام 2007، ونحو 900 مليار دولار حتى نهاية العام الجاري)، وهي تسدد جانبا من هذا العجز بإفقارهم وتجويعهم وقتلهم.
ويعيش نحو 850 مليون انسان تحت خط الفقر ليس لأن ميزانية برنامج الغذاء العالمي تعجز عن توفير 2.9 مليار دولار تقول أنها ضرورية لسد احتياجات عام 2008، بل لأن الولايات المتحدة تضطر الى خفض قيمة عملتها لخفض قيمة 3 تريليون دولار اضطرت إدارة الرئيس بوش الى إنفاقها على حرب الإبادة في العراق وأفغانستان، وبقية الأعمال الهمجية (تعذيب، اغتصاب، سجون سرية، رقابة) المرتبطة بالحرب المزعومة “ضد الإرهاب”.
في وقت من الأوقات “لجأت الولايات المتحدة إلى رفع سعر الفائدة على الدولار 17 مرة منذ منتصف 2004 وحتى منتصف 2006 لتصل إلى 5.25% في يونيو-حزيران من العام الماضي لتشجيع قدوم الودائع الأجنبية إلى السوق الأميركية لمعالجة فجوة الادخار”. ولكن هذه الأيام، فقد آن الأوان لدفع تلك الودائع الى مواسير البالوعة.
ووفقا لأرقام وزارة الخزانة الأمريكية الصادرة في يونيو- حزيران 2006 “فإنّ الدول الأجنبية تمتلك ما نسبته 44% (أي 2.090 تريليون دولار) من مجموع الدين العام الفيدرالي، والبالغ قيمته (4.797) تريليون دولار (حتى يونيو- حزيران 2006). وتأتي كل من اليابان والصين والمملكة المتّحدة على رأس هذه الدول بقيمة تبلغ (635.3) مليار دولار، (327.7) مليار دولار و (201.4) مليار دولار”.
ويجوع مليارات البشر، تحت وطأة خفض قيمة البضائع والخدمات المقوّمة بالدولار، لأن الحكومة الأمريكية “تنفق حوالي (400) مليار دولار سنوياً زيادة عمّا تجبيه من عائدات، وهو الأمر الذي أدى إلى تراكم الدين الفيدرالي ليصبح وحده فقط حتى العام 2006 حوالي (8.3) تريليون دولار”.
وإذا كان نحو ثلث سكان الكرة الأرضية يعيشون في ظروف العوز والفقر والحرمان، فلأن البعوضة الإقتصادية الأمريكية تمتص من الديون ما لا تستطيع تسديده. فقد ارتفعت رهونات المنازل في الولايات المتحدة منذ العام 1987 من 1.8 تريليون دولار إلى (8.2) تريليون دولار، وعندما انفجرت الفقاعة، فان آثارها شملت بالضرر جميع بنوك وصناديق الإئتمان في العالم. أما دين المستهلك الأمريكي (رامبو الكريدت كارت) فقد تصاعد من 2.7 تريليون إلى 11 تريليون دولار. وحتى شهر ابريل-نيسان الماضي فقد زاد العجز التجاري الشهري نحو 7.8 في المئة ليصل الى 60.9 مليار دولار، صعودا من 56.5 مليار دولار في مارس-آذار الماضي.
هذه الديون، انما يدفعها الفقراء من قوت يومهم، لأن امبراطورية الدولار وجدت ان الحل هو الوحيد المتاح أمامها هو خفض قيمة ما ينتجون، بخفض قيمة العملة التي يتخذونها وسيطا لتبادلاتهم التجارية مع الخارج.
والفقراء يغضبون… إنما على حكوماتهم التي تجد نفسها، مثلهم، في موقع الضحية، بينما ينعم الجاني بعوائد أعمال النهب التي يمارسها في أربع جهات الأرض.
طاعون الجوع قد يصيب أكثر من 73 مليون شخص يعانون من نقص في الغذاء في 80 بلدا، حسب كريستيان بيرتيوم المتحدثة بإسم برنامج الغذاء العالمي، إلا أن المصدر الإمبراطوري الوحيد لهذا الوباء هو الولايات المتحدة.
وكم كان من الأولى بالغاضبين أن يغضبوا على مصدر الوباء، وأن يجبروا حكوماتهم على التخلي عن عملة الطاعون.