د. مضاوي الرشيد
تتطلب التغيرات الاجتماعية المتسارعة التي تشهدها الساحة السعودية وقفة تأمل. حسب بعض التقارير والاحصاءات الصادرة عن مؤسسات غير حكومية هناك اكثر من 900 طفل وطفلة ولدوا خارج السعودية نتيجة زيجات آنية
يعقدها الرجال في حالة سفرهم للفسحة او النزهة او الدراسة او العمل مما اضطر مجلس الشوري السعودي ان يناقشها ويتطرق لأبعادها الاجتماعية، حيث ان هؤلاء الاطفال معرضون لضياع حقوقهم وغير قادرين علي الحصول علي الجنسية والعودة الي ديار آبائهم مما يجعلهم عرضة للفقر والعوز والحياة الاجتماعية الصعبة في بيئات عربية هي ايضا تحرص علي توثيق الانتماء الأبوي.
هذه الظاهرة الجديدة بدأت تشكل عبئا علي المجتمعات العربية الفقيرة والتي بفقرها تتعرض لابشع انواع الاستغلال والاستباحة من خلال نسائها اللواتي يقعن فريسة عقود زوجية قصيرة الامد تنتهي بمصيبة اكبر من مصائب الضائقة الاقتصادية.
وفي فيلم وثائقي جديد علي قناة الـ بي بي سي العربية اتضحت الصورة القبيحة لعملية الاستغلال، حيث سماسرة النساء يترصدون الفرص لربط الفتيات بأزواج سعوديين جاؤوا ليبحثوا عن زوجة آنية متسلحين بفتاوي عشوائية تحلل لهم مثل هذه الزيجات. وتلا الفيلم الوثائقي حوار بين مختصين اجتماعيين وقانونيين وعلماء دين اظهروا الجانب الاستغلالي لمثل هذه العقود. ومن المؤكد ان عدد هذه الزيجات والاطفال الذين سيولدون نتيجتها سيزداد في فترة العولمة الحالية التي سهلت التنقل والترحال والطفرة النفطية التي بدورها ستزيد من الاموال المتوفرة للسفر والسياحة والتنقل بين العواصم العربية. وان لم يتدارك كثير من المسؤولين والقائمين علي الشأن الاجتماعي الامر بتدخل سريع سنري تحول هذه الظاهرة الي قضية اجتماعية معقدة وخطيرة تهدد الامن البشري للمرأة والطفل معا. وستزداد ارقام الاحصاءات ومعظمها لن يدخل في سجل الاحصاءات الرسمية، بل انه سيبقي في ملفات المؤسسات الاجتماعية غير الحكومية في البلدان العربية المستهدفة من قبل المسافرين طلبا لهذه العلاقات الآنية. حتي هذه اللحظة انتشرت هذه الحالات في اليمن والمغرب وسورية ومصر بشكل واضح وصريح مما دفع الجمعيات المهتمة بحقوق الانسان والطفل والمرأة الي تسليط الضوء عليها ولكن حتي الآن نجد ان الحكومات العربية مهتمة بالحجر علي الاعلام والقنوات الفضائية اكثر من اهتمامها بهذه الظاهرة الاجتماعية. والحكومة السعودية كغيرها من الانظمة العربية تولي امن النظام اهمية اكبر من امن الانسان اذ ان الأخير لا يأتي إلا في اسفل سلم الاهتمامات وهي لا تعطيه الاهمية الاولي فما بالك بانسان يولد من أب سعودي وأم اجنبية خارج حدودها. وان كانت العولمة والطفرة النفطية الحالية من العوامل المشجعة لمثل هذه الزيجات الآنية الا ان انتشارها في الآونة الاخيرة ينتج بالدرجة الاولي عن ثقافة اجتماعية تبنتها الدولة منذ نعومة اظافرها ومنذ بداية عهدها. تاريخيا استطاع النظام السعودي ان يفعل مفهوم الزواج ولو كان آنيا في سبيل مشروع هيمنة سياسية اولا علي المجتمع السعودي المحلي وثانيا في محيطه العربي.
باختصار تعدد الزيجات كان سياسة دولة منذ البداية ووسيلة لترسيخ شرعية الهيمنة علي الفئات المختلفة في الداخل السعودي، حيث طبقت مفاهيم التعددية وفرضت علي المجتمع كوسيلة لمزج المجتمع بالدولة من خلال المرأة. فضربت القيادة السعودية رقما قياسيا في ضم اكبر عدد من النساء الي البلاط السعودي في محاولة للسيطرة والهيمنة املا ان تؤدي هذه الزيجات الي تحالفات مستقبلية تكون بالدرجة الاولي سياسية وليست اجتماعية. وان كانت القيادة نفسها قد وضعت اطرا معينة لممارسة الزواج. فقد اصبح هذا الاطار هو النمط المرجو من قبل الرعية والتي هي ايضا دخلت الي سوق الزواج من بابه العريض مقلدة بذلك قيادتها العتيدة في ممارساتها الاجتماعية والزوجية بشكل خاص. وفي الماضي وقف الفقر والعوز حجر عثرة في طريق تقليد القيادة واستلهام ممارساتها الزوجية المتعددة ولم يكن باستطاعة الرعية الا من انعم الله عليه ان تنشر ذريتها داخل البلاد او ان تلجأ الي اسواق عربية مجاورة. ولكن بعد تغير الوضع الاقتصادي منذ السبعينات في الزمن النفطي الاول وحاليا في مرحلة الطفرة النفطية الثانية نجد ان ممارسة تعدد الزوجات وخاصة الآنية منها قد اصبحت مشروعا يصبو اليه الكثير من الشباب والكهول. لقد تحول النمط السلوكي للقيادة الي مثل يحتذي من قبل شرائح كثيرة في المجتمع السعودي. ليس هذا فحسب بل نجد ان هذا السلوك قد وجد من يبرره شرعا وينشر اطروحاته التي تجيزه من علي منابر دينية تعتمد في تمويلها علي خزينة الدولة ذاتها. يعتمد بعض المروجين لمثل هذه الزيجات الآنية علي مقولات تجاوبهم مع متطلبات العصر والمرونة في التعامل مع الوضع الاجتماعي الحالي ولكنهم في نفس الوقت يتناسون تبعات هذه الزيجات التي تحصل خارج الحدود وقساوة القوانين السعودية التي لا تتعامل بأي منطق او عقلانية مع تبعاتها. ومن اهمها مستقبل الاطفال الذين يولدون ما وراء البحار والنساء اللواتي يفقدن القدرة علي الاتصال مع ازواجهن الآنيين الذين يتركونهن عرضة للابتزاز والمصير المجهول في مجتمعاتهن البعيدة. لم تنتشر ظاهرة الزيجات الآنية وتكثر الا نتيجة ثقافة غطرسة واستعباد للمرأة وطدتها سلوكيات تاريخية قديمة ومهدت لها ثروة حديثة وصلت الي جيوب الكثيرين. لقد كانت المرأة ولا تزال رمزا للسلطة وقوتها وغطرستها. تقيس السلطة عظمتها وجبروتها بمدي قدرتها علي تحويل هذه المرأة الي عملة تتداولها في سوق القوة فإن هي انتصرت نجدها تفعل هذا الانتصار عن طريق اقتناء اكبر عدد من النساء فتضيف الي بلاطها اكبر عدد من النساء الاحرار بعد ان فاضت قصورها بالجواري والاماء. وبما ان الجارية والأمة قد انقرضت بشكل رسمي الا ان وجودها لا يزال حيا في ثقافة السلطة وقواميسها واتسعت هذه الثقافة خارج البلاط لتستشري في المجتمع وبيئاته الفقيرة والغنية معا. وبما ان القوي والغني هما اللذان يفرضان اليوم انماط السلوك الاجتماعي نجد ان آلتيهما الاعلامية والدينية مستعدة دوما لان تنشر هذا النمط علي اكبر شريحة اجتماعية ممكنة. لقد اصبحت القيادة وسلوكها المثل الاعلي الذي يصبو الكثير الي تقليده واعادة استنساخه في حياته اليومية. ويشمل هذا التقليد ليس فقط مجالات الزواج وانما سلوكيات اخري تتعلق باللباس والاستهلاك والعادات والتقاليد الاجتماعية والنظرة للمرأة بشكل عام. بدل ان يناقش مجلس الشوري السعودي هذا الموضوع علي استحياء عليه ان يبدأ اولا بالتساؤل عن مصدر الثقافة التي روجت لانتشار هذه الظاهرة عندها سيجد انها ثقافة قديمة رسختها سلوكيات القيادة السعودية ذاتها وهي اليوم قد تحولت الي ظاهرة اجتماعية مستشرية تعاني منها المجتمعات العربية المجاورة.
كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية