في أحد فنادق عاصمة دولة عربية خليجية التقى مواطنٌ خليجي بأحدّ المثقفين الإعلاميين الذي كان قد صاحبه في سنوات الدراسة الجامعية بعاصمة مشرقية ثورية.
دار بين الرجلين حوارٌ على مائدة العشاء في المطعم الأنيق بالطابق الأرضي، والتقطنا شطرا منه ..
المواطن الخليجي: أرى ملامحك قد تغيّرت قليلا، وبدأتَ تميل ناحية السمنة، وفقدت بعضا من رشاقتك التي عرفناك بها خلال سنوات الزمن الجميل في الجامعة!
الإعلامي العربي: وأنا كدت لا أعرفك بعقالك ودشداشتك، ولا أدرى إنْ كان الشيب قد غزا مفرقك وترك خصلات بيضاء تمتد بطول شعر رأسك، ولكن ما أراه أن طفرة البترول، التي أطلق عليها نزار قباني زيت الكاز، قد بدت على المشهد برمته.
المواطن الخليجي: هل قابلتَ أحدا من زملائنا القدامى؟
الإعلامي العربي: لا أرى أكثرهم إلا في مناسبات متفرقة، فمنهم من شدَّ رحاله إلى دول الخليج العربية، ومنهم من هاجر إلى أوروبا وأمريكا، أما منْ بقيَّّ في البلد فهو يصارع الحياة اليومية فتصرعه تارة، ويتحداها من جديد فيصبر على الغبن، ويصمت على الظلم، ويهادن السلطة، فهي في بلدنا تتحكم في مأكله ومشربه وحريته ومستقبله، فإذا تحرك لسانه بغير هواها، تحرك سوطها على غير رضاه.
المواطن الخليجي: هل ستقضي معنا عدة أيام لعلنا نلتقي على مائدة خليجية في منزلي الجديد القريب من الشاطيء؟
الإعلامي العربي: إنني هنا في مؤتمر ثقافي يناقش قضايا الحرية الإعلامية في العالم العربي ، وبعد إنتهاء جلسات المؤتمر أختطف ساعة أو بعض الساعة للتسوق في المول الجديد.
المواطن الخليجي: وماذا ستفعلون بنتائج المؤتمر؟
الإعلامي العربي: سيتم وضعها في أرشيف داخل مجلدات ضخمة عليها أتربة، ولن يستفيد منها أحد!
المواطن الخليجي: لماذا إذاً قبلت الدعوة لحضور مؤتمر لن يضيف إلى بلاط صاحبة الجلالة السلطة الرابعة قوة، بل قد ينتقص مما لديها؟
الإعلامي العربي: لقد أصبح الخليج العربي قِبْلَتنا، وفنادقُه نحلم بالاقامة فيها كأننا نعتمر، ونستنشق رائحة الحرية رغم أننا في بلادنا الثورية نسخر من الخليجيين، ونتهمهم بأنهم من نسل أبي جهل الذي اشترى فليت ستريت.
إذا لم نذهب إليكم زائرين وعاملين وإعلاميين، فنحن ننتظركم سائحين أو داعمين لمؤسسات خيرية.
المواطن الخليجي: ولكنكم تنتسبون لدول تعاقبت على أرضها حضارات رائعة، ولديكم كثافة سكانية هائلة، وجامعاتكم ومعاهدكم العلمية وطلابكم وأطباؤكم وخبراؤكم يستطيعون أن يحققوا المعجزات، والنفط ليس مقتصرا علينا، ولديكم الماء والأنهار والأرض الزراعية، بل يمكنكم أن تجعلوا بلادكم حلما يهاجر إليها المواطن الخليجي!
الإعلامي العربي: لأننا نأكل شعارات، ونقيم مصانع للطغاة في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا وشوارعنا.
في بلادنا الثورية نحارب طواحين الهواء، ونكتم الأنفاس باسم إزالة آثار العدوان، ونقطع الألسن دفاعا عن الفلسطينيين، لكننا نلقي بهم في سجوننا الممتدة من الحدود إلى الحدود، ونعاملهم في مطاراتنا كأنهم جرب نجس جاء يدنس أرض الثورة المباركة.
في بلادنا ملوك يحملون أسماء ثورية، وورثة من أولادهم تتحرك سطور الدستور وفقا لأهوائهم، ولو أراد الزعيم أن يورث ابنه الحكم وهو حيوان منوي لم يُخَصّب بويضةً بعد فإن رؤساء تحرير الصحف الكبرى قادرون على وضع التاج على رأسه والحديث عن عبقريته قبل أن يولد بتسعة اشهر.
إنني هنا أستنشق عبير الحرية لعدة أيام قبل أن أعود إلى السجن!
المواطن الخليجي: ومن قال لك بأن خليجنا تجري من تحته الأنهار، ويسكنه ملائكة فقط، وتحكمه عبقريات تجري فيها جينات آينشتانية؟
إننا أيضا نعاني من مشاكل، ولدينا تركيبة سكانية تجعلك أحيانا لا تعرف إن كنت في كلكتا أو دلهي الجديدة أو لاهور أو مدينة خليجية تنتصب فيها الأبراج كأنها تناطح السحاب أو تهرب من الأرض.
ولدينا أيضا أحاديث في الخفاء والعلن عن الطائفية، ويعمل على أرضنا طابور خامس طويل من شرق الخليج وغربه، ومن شمال البحر المتوسط وجنوبه، ومن مريدي بن لادن وحجاج البيت الأبيض، ومن نسل إيللي كوهين وموظفي السفارات العربية والفنادق الكبرى وجواسيسها.
ونحن سنهاجر إلى بلادكم إن تم فجأة اكتشاف بديل للنفط، فَقِلةٌ من دول الخليج مَنْ صنعت للذهب الأسود بدائل ولو على استحياء، وأكثر سياسيينا لم يتبينوا بعد خطورة الطرح الطائفي.
لكنني أعترف لك بأن القمع والقهر والتعذيب ومطاردة المعارضين وتصفيتهم لم تستطيعوا أن تصدّروها لنا إلا بكمية تسمح فقط لهيبة السلطة أن ترفع صوتها أو تلوح بسوطها!
في بلادنا ملوك وأمراء قضوا مئات السنوات يحكموننا وهم ليسوا غرباء عنا، وبيننا وبينهم ميثاق وعهد، وفي بلادكم ملوك في قصور الرؤساء، وأمراء يرتدون الجينس، وسلاطين بربطة عنق أنيقة.
أنا أضمن لنفسي أن لا يستدعيني رجل استخبارات في مطار بلدي ليسألني عمن قابلت في ملتقى إعلامي بعاصمة أخرى، أما أنت فمضطر، في كثير من الأحيان، أن تضمن لنفسك كفاف يومها بكتابة تقرير لجهاز الأمن عن زملائك الذين يعارضون الملك الرئيس، أو الذين التقوا بمعارضين ولو كان اللقاء على مائدة طعام كبيرة لا يسمع فيها أحد أحدا!
أنا أبتسم في وجه ضابط أمن المطار لدى العودة وأقول له: حياك الله، فيرد التحية!
أما أنت فترتعش يداك، وتنفصل مفاصل ركبتيك، ويرتفع الكولسترول في دمك عندما تقوم بتسليم جواز سفرك لضابط أمن المطار، فأنت متهم حتى يعيده إليك، وتشكره لأنه لا يشكرك، بل قد يلقى في وجهك بوثيقة سفرك كأنه يتوعدك بيوم آخر !
الإعلامي العربي: ولكن لا يمكن غض الطرف عن الدور الذي قامت به دولنا العربية المشرقية في تطور الخليج، وتقدمه، وحتى في إعلامه المسموع والمرئي، وصحافته، وأحسب أنني لا أسبب لك حرجا إن قلت وحتى في تحرير دوله إنْ جاءها خطر خارجي.
المواطن الخليجي: ونحن لم ننكر مطلقا الدور الايجابي الذي لعبه أشقاؤنا، ومع ذلك فهي لم تكن علاقة أخذ وعطاء، لكن حقيقتها تكمن في كونها تبادل مصالح ومنافع ولو غلّفتها دغدغة مشاعر الجماهير عن الأُخُوّة والعروبة والتواصل الديني.
هل سمعت عن بعثة عربية مشرقية جاءت للعمل تطوعا ومجانا ودون أي أجر مباشر أو غير مباشر؟
أما تحرير الكويت، إن كنت تقصد الإشارة إلى هذا الحدث، فكل من ساهم فيه حصل على أجره، وقامت الكويت باسقاط مليارات من الديون التي كانت تثقل اقتصاد ( الأشقاء ) الذين ساهموا في تحريرها، ولكن صعوبة أوضاعهم المادية ترجع إلى الفساد والنهب المنظم ولصوص السلطة.
لا نستطيع أن نقيم علاقات صحية بيننا وبين أشقائنا في المشرق العربي مادامت لغة المخاطبة تنطلق من هذا الاستعلاء السخيف الذي يقوم بتذكيرنا سبعين مرة في اليوم أن نهضتنا ستظل مدينة لسواعدكم وعقولكم وعلومكم، وأننا بدونكم كان مصيرنا سيصبح في ذمة هامش التاريخ والجغرافيا معا.
أنت هنا في مؤتمر إعلامي تستفيد بقدر ما تفيد، ولو لم تقم بحساب الربح والخسارة قبل سفرك، لما ترددت في أن تبقى في بلدك لا تغادرها إلا قبل التأكد من أن الربح يفوق الخسارة.
الإعلامي العربي: ولكنني هنا من أجلك، والملتقيات الفنية والعلمية والأدبية والإعلامية في الخليج لا تستقيم بدون الوجوه المشرقية والمغربية التي تمنح المؤتمر هويته العربية، وتتأصل فيه رموز الثقافة والتقدم في العالم العربي.
المواطن الخليجي: أنانية لا ينفع معها أحيانا حياؤنا وأدبنا ومراعاة مشاعركم.
وأنت هنا في يومك الثالث لم تكلف نفسك عناء الذهاب إلى مكتبة وشراء الصحف الخليجية اليومية، وربما لا تعرف أسماء أعضاء الحكومة في بلدي، ولن أطرح عليك سؤالا عن أدبائنا وشعرائنا ومراكز البحث العلمي والدراسات الخليجية.
أنت تقرأ الصحيفة التي تجدها معلقة على باب غرفتك في الفندق، وربما تبحث فيها عن أسماء مشرقية يتهلل لها وجهك، وتمر مَرّ الكرام على أخبارنا المحلية كأنها أحاديث عن الحياة اليومية لقبائل مهددة بالانقراض.
هل لك أن تذكر لي أسماء قارئي نشرات الأخبار الخليجيين في إذاعات وفضائيات الدول العربية المشرقية والمغربية؟
ستقول بأن الأجور لا تناسب الخليجي، لذا فهو يرفض العمل هناك!
والحقيقة أنها سياسة منهجية مغرورة تظن أننا لا نصلح للعمل لديكم.
لقد فرضنا اللهجة الخليجية بعد سنوات من العمل الشاق، والصبر الشديد.
الإعلامي العربي: لماذا لا تقيمون مؤتمرات خليجية بحتة، وتقتصر الدعوات فيها على العقال والدشداشة والشعر النبطي؟
المواطن الخليجي: يا سيدي، يمكنك أن تدلف إلى أرشيف أي مؤسسة إعلامية أو فكرية أو علمية أو جامعية أو صحيفة أو شركة وستجد طلبات العمل والالتحاق بها تزيد أضعافا مضاعفة عن عدد سكان الخليج برمته، وكلها قادمة من الدول العربية المشرقية والمغربية.
إن استقامة العلاقة لن تصل إلى درجة الشفافية دون الاعتراف بأنها تبادل مصالح ومنافع، ولا مانع مع ذلك من مشاعر الود والاحساس بالاستقرار والراحة.
نحن لسنا نفطا وصحراء وبدوا وجِمالا تبرك أمام ضيوفها الأعزاء المتحضرين.
ونحن نتحمل اضطرابات وقلاقل تأتون بها إلينا، وترسلون جواسيسكم للعمل في المؤسسات والفنادق، وأنت تظن أنه يخفى علينا ما يقوم به الطابور الخامس من تسريب أسرار الدولة وضيوفها ونشاطاتهم مباشرة لسفارات دول عربية مشرقية ومغربية، تحتل فيها الدبابة مكان القلم، والزنزانة محل الديوانية.
هل يستطيع زعيم دولة عربية مشرقية أو مغربية أن يغادر ومعه كل أعضاء حكومته لتقديم واجب خارج البلاد لعدة ساعات؟
أظن أن مبنى الإذاعة والتلفزيون سيتم احتلاله من المعارضة قبل أن تحلق طائرة زعيمكم في الأجواء المحلية!
الإعلامي العربي: أنت تحدثني كأن قصور حكامكم الفاخرة مقرات لجمعيات خيرية، وأن بيت مال الخليج لا يعرف من المتسولين غير أشقائكم في الدول العربية الثورية.
نحن أيضا نفقد حريتنا على أعتاب بلادكم، ويقيم الواحد منا عشرين عاما ويظن أنه أصبح واحدا منكم، فإذا جاء موعد تجديد الإقامة اكتشف أنه لو كان في الغرب لأصبح واحدا منهم دونما حاجة لعيون زرقاء وشعر ذهبي.
إن الواحد منا الذي يخيفه زائر الفجر في بلده، يفزعه تهديد الكفيل في بلادكم، وتهديد ضابط الأمن لدينا يعادل كلمة ( التفنيش ) عندكم.
المواطن الخليجي: ومع ذلك فلو منحت فرص عمل في الخليج لكل مواطني أقطارنا العربية الثورية لما بقي في بلادكم غير المنتفعين بالحكم الفاسد ولصوص الوطن.
وبلادنا لا تعرف المقابر الجماعية، ولا يتخلص فيها زعيم الدولة من عدة مئات من المعارضين دون أن يرتفع حاجب في وجه أحد صناع الكلمة والحرية.
إنكم تنظرون إلينا بنفس نظرة الأوروبي الجاهل بعاداتنا وتقاليدنا رغم أننا ننتمي لوطن واحد وأمة ذات رسالة خالدة، كما تقول أدبياتكم الثورية.
صحفكم مليئة بالتهكم علينا، ولو ظهر في عاصمة ثورية سفيه خليجي فإنكم تنهشون لحومنا قبل أن تتحرك تروس المطابع بجرائدكم الأكثر عددا من جمعيات حقوق الإنسان.
أتفق معك بأن قضايا الجنسية والتجديد والإقامة المهددة بالتفنيش وعدم المساواة في الأجور وجشع الكفيل تؤرق الشرفاء منا، وتقوم بتشويه صورة المواطن الخليجي، لكنها قضايا محلية نناضل من أجل وضع حلول متحضرة لها.
لم نقل بأننا صنعنا مجتمعات مثالية، لكننا غاضبون على مشاعركم المتأرجحة بين التعاطف إن رفع بئر النفط لدينا مستويات معيشتكم، وبين حجارة تلقونها علينا إن دافعنا عن كرامتنا في مواجهة يقينكم بأننا بدو استبدلوا بالجمل مرسيدس، وبالخيمة قصرا، وبالضيافة العربية الأصيلة كفيلا يلوح بالسوط وفي يده الأخرى حزمة من العملة الخضراء.
ثرائي ليس مرتبطا بالجهل، وقلمك ليس ملتصقا بالفقر. إننا في مركب واحد لو ثقبته في مسقط لغرق في أغادير، ولو احترق في اللاذقية لأبتلعه خليج هرمز. لو تعلّم كل منا قبول الآخر لكان لهذا الحوار شأن آخر.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
[email protected]