محمد نادر أبو آري
غير المطّلع على خفايا الموبقات التي تُمارس على أرض العراق بعربه وكرده وكافة أطيافه الأخرى، تُذهله تفاصيل ما تذكره بعض وسائل الاعلام ومن بينها صحف كبرى في هذا العالم، حول السرقات والرشاوي
وتكاثر “القطط السمان” على حساب الشعب المُصادرة إرادته وثرواته وأدنى متطلبات حياته ككائن بشري.
أما التفاصيل الأكثر دقّة وغرابة فقد لا يُصدّقها أحد خصوصاً في إقليم كردستان الخاضع لتحالف قادة الحزبين الأساسيين وعلى رأسهما جلال الطالباني ومسعود البرزاني. منها ما يتعلق بنهب مداخيل النفط، ومنها ما تتحدث عنه قصص المحسوبية والشلّلية بعد أن ساد الإقليم مجاميع من الجهلة الفاسدين، وأُبعد الشرفاء الذين يرفضون الولاء لأصحاب المظاهر الشاذة التي نبتت وترعرعت بعد حلول الاحتلال، ولم نكن نتصوّر إمكانية حدوثها في الخيال. ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يُعلن بين فينة وأخرى عن مشاريع تُرصد لها مئات الملايين من الدولارات على الورق دون أن ترى النور بعد أن تجري سرقة الأموال المرصودة لها. وهذا ما يحدث في أكثر من مكان ومجال داخل العراق المُبتلى بالقوى السياسية التي تُصادر إرادة شعبه بسنته وشيعته، بمسلميه ومسيحييه، بكرده وتركمانه… الخ.
هذه الحقيقة المرّة أصبحت حديث العالم ومضرب المثل بين الأمم والشعوب، ولم يعد أحد يستطيع الإنكار – حتى أهل الحكم أنفسهم – أن عراق اليوم يحتلّ المرتبة الأولى في العالم ودون أي منازع، على صعيد فقدان الأمن، وهدر كرامة الإنسان، وسلب ثروات البلد ومداخيله من قبل العصابات الحاكمة فيه تحت حراسة الاحتلال وادعاءاته اليومية الجوفاء حول الديمقراطية والتعدّدية وما يُسميه بـ “العراق الجديد”. فماذا تقول بعض الحقائق الساطعة على الأرض!
ديمقراطية النهب المنظّم
إذا كانت الديمقراطية ترمي الى تحقيق خير البشرية، أي أكثرية الناس في أي مجتمع كان، وهو ما يجب تحقيقه بداهة أو السعي إليه على الأقل، فإن الشعب الكردي – كسائر أبناء العراق – بأكثريته الساحقة مغلوب على أمره رغم كل الضجيج الإعلامي المناقض من قبل أبواق الأميركان والزمرة الحاكمة فيه. وهو فوق ذلك وقبله يعيش بمعظمه تحت خط الفقر، رغم أن قيادات الحزبين الأساسيين وأتباعهم يتقاسمون مداخيل الإقليم وخيراته. أما “الرئيس” المركزي في بغداد جلال الطالباني، ورئيس الاقليم مسعود البرزاني وما بينهما كهوشار زيباري وزير الخارجية وهو خال مسعود البرزاني، وكذلك برهم صالح وأمثالهما، فيعيشون في أبراج عاجيّة تفوق أبراج الملوك والسلاطين دون أي مبالغة.
وليس ذلك فحسب، بل إن زوجات العديدين منهم دخلوا حلبة امتصاص دم الشعب عبر وسائل مختلفة، دون أي وجه حق، ولا أي مساءلة في الوقت ذاته. واكتفي هنا بضرب مثل صارخ على ذلك في السيدة هيرو إبراهيم، زوجة “رئيس العراق” جلال الطالباني الطالباني التي أصبحت بين ليلة وضحاها سيدة أعمال من الدرجة الممتازة، تَبُزُّ كبار المستثمرين والمقاولين وحتى السماسرة الصغار. أما حكاياتها وتفاصيل نشاطاتها فقد أصبحت على لسان كل أبناء شعبنا الكردي الذي يقف مذهولاً مما يرى كل يوم، وهو يتساءل: بأي حق تقوم “السيدة الأولى” بمثل هذه الأعمال وتصل الى مستوى التوسّط من أجل تمرير بعض المناقصات أو السمسرة على هذه الصفقة وتلك. ثم، وهو الأبرز: هل هناك زوجة لأي حاكم عربي أو إسلامي آخر، لأي ملك أو رئيس أو أمير تمارس النشاط التجاري على المكشوف، وتُعطيه الأولوية على كل ما سواه غير السيدة هيرو حرم الطالباني، بدعم منه، ومن رموز السلطة المركزية في بغداد، والسلطة المحلية في اقليم كردستان؟
من الشعارات الى خراب الديار
لقد كنّا نعتقد في الماضي، أن الذين تنطحوا لقيادة الشعب الكردي ورفعوا شعارات تنادي بحقوقه المشروعة، إنما يناضلون فعلاً لتحقيق أهداف هذا الشعب. ولهذا السبب لا غيره، كنا نعتقد أنهم كانوا يسعون الى جمع مئات الملايين من الدولارات باسم دعم قضية شعبهم “المظلوم”.. إلى آخر الإسطوانة. ومع أننا لم نكن نعرف أين ولا كيف تُصرف هذه الأموال، وعلى مَن مِن شعبنا الكردي بسبب ظروف تلك المرحلة و”سرّية النضال” فيها، إلاّ أن الأمور قد اختلفت منذ وقوع الاحتلال، وتغيّر أوضاع وإمكانات قادة الحزبين الكرديين الأساسيين، والذين أصبحت تحت تصرّفهم مقدرات الإقليم ومداخيله الخيالية، ومع ذلك بقي الوضع على حاله. فقد ازدادت الطبقة “القائدة” غني وثروة وتحكماً في مصير الشعب الكردي، وازداد الشعب في المقابل فقراً وحاجة رغم طوفان المداخيل المالية التي تُسرق من مصدرها وتوضع في حسابات أشخاص بعينهم، ستكشف الأيام اسماءهم جميعاً مع كافة التفاصيل والأرقام المتعلقة بما نهبوه.
والحقيقة التي يجب أن تُقال هنا غير التمييز بين الشعب المحروم وقيادة الحزبين وخصوصاً الطالباني والبارزاني، أن هناك من الشرفاء داخل هذين الحزبين لم يرتضوا المشاركة في مسيرة التزييف والنهب وخداع شعبهم الكردي، من أمثال السيد نوشروان مصطفى، وهو أحد أبرز قادة الحركة الكردية، وقادة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي اختلف جذرياً مع جلال الطالباني في المنطق والاسلوب، وترك هذه الأجواء الموغلة في التخريب المقصود. ولدى سؤاله من قبل الصحافة عن سبب تركه السياسة أجاب: “أنا لم أترك السياسة، بل تركت الحزب بسبب انتشار الفساد المالي والإداري، وأعني به التدخّل في شؤون القضاء، وفي كافة مرافق حياة الدولة ومؤسساتها.. وما شابه”.
إن من أغرب ما يمكن تسجيله في هذا السياق أن مرور خمسين عاماً على تجربة القادة المتحكمين بمصير وخيرات الشعب الكردي كان من الضروري أن تكون كفيلة بتغيير نمط تفكيرهم وحياتهم نحو الأفضل، ولكن العكس هو الذي حصل، مع أن رب العالمين – سبحانه وتعالى – قد أعطى لبني اسرائيل فترة من الزمن أقلّ من هذه لتتغيّر أحوالهم، عندما جعلهم يَتيهْون في الصحراء اربعين عاماً، كي يذهب عنهم الخوف الذي تغلغل في قلوبهم من فرعون. لكن قادة الحزبين الكرديين الأساسيين، وأخص بالذكر جلال الطالباني ومسعود البرزاني لم يتعلّما شيئاً من التاريخ والسنوات الطويلة التي مضت غير المزيد من إحكام قبضتيهما على رقاب أبناء شعبهما وربط مصيرهما بالاحتلال، والاستفادة من وجوده لتحقيق مصالحهما الشخصية والعائلية، دون أي اعتبار لمصالح الناس ولا مراعاة لمآسيهم وأوضاعهم الصعبة.
الاحتلال يحميهم
وليس سراً القول هنا أن الخلافات القديمة والعميقة بين قادة هذين الحزبين ما زالت بقاياها في النفوس، وإذا ما فُتحت صفحة الماضي الدموي بينهما في حال انسحاب المحتل، فقد تُفتح صفحات المواجهة من جديد، وتضيع معها فرص النهب والسرقة وتوزيع المغانم والمناصب التي وصلت الى التحكّم في اختيار ممثلي العراق داخل المحافل الدولية والبعثات الدبلوماسية نظراً لتحكّم “الرئيس الطالباني” مع “وزير الخارجية الزيباري” في التعيينات والترقيات وليس سراً أيضاً أن هذا الاختيار قد أصبح حسب الهوى والقرابة والمصلحة دون النظر الى المستوى العلمي أو الثقافي. ولهذا تمّ إبعاد الشرفاء وأصحاب الكفاءات وحلّ محلّهم أنصاف الأميّين الذين وصل الإجرام ببعضهم الى بيع جوازات السفر العراقية والإتّجار بالعملة والممنوعات.
ملخّص القول أن هذا الوضع السائب بكل مردوداته المنهوبة من قوت الشعب بكرده وعربه سوف يُصبح في خبر كان إذا ما زال الاحتلال أو اضطر الى الرحيل في أي وقت، لذا يحرص قادة الحزبين ولا سيما الطالباني والبرزاني على بقاء الوضع على حاله، مهما كان مضرّاً بالعراق وشعبه لأن فيه مصلحتهما الشخصية، وهو وحده الذي يضمن عدم فتح ملفات الماضي الدموية ويُعيدها من جديد.
إنطلاقاً من هذه الحقيقة الأكثر من مرّة أصبح يتصرف هؤلاء على أساس ان اليوم مضمون لكن غداً في علم الغيب. وان عليك جني كل ما تستطيع اليوم سواء بالنهب أو السمسرة أو خلافهما، قبل أن يأتي الغد… وقد أوصلتهم هذه السياسة “الميكافيلية” الشخصانية كما أوصلت غيرهم من حكام ومسؤولي العراق المحتل الى مرحلة السعي وراء بيع البلد بأكمله، بتاريخه وثرواته وتراثه الى الأميركان ممثلين بإدارة جورج بوش من خلال ما يُسمّى بـ “اتفاقية أمنية”، تسمح لهم بالبقاء الأبدي وبالابتزاز الأبدي… وبالتحكم في كل صغيرة وكبيرة في العراق واعتباره كما لو كان مستعمرة للدولة الأكبر وأجهزتها الأمنية والسياسية والاقتصادية كذلك.
لكل واحد ثمنه!
لقد عرف الاحتلال مواطن الضعف والهوان في نفوس هؤلاء القادة، ولذلك سمحوا لهم بسرقة ما يريدون والعربدة كما يشتهون، ولا يغطّي على هذه الحقيقة ترويج إدارة بوش بين فينة وأخرى مزاعم تقول أنها تدعم الشعب الكردي وحقوقه وتقرير مصيره… الخ، ذلك لأن ما يهّم الإدارة لا علاقة له بهذا الطرح وما يحمله من مزاعم كاذبة. ما يهمّهم هو دعم المتحكّمين بالشعب الكردي، الذين تخلّوا عن المبادىء والأخلاق وحتى الأصدقاء. وإلاّ، فكيف يمكن تفسير الموقف الأميركي المعادي لتطلعات 16 مليون كردي في تركيا، والعمل على وصفهم بالإرهابيين في كل المحافل والمناسبات. والأغرب من هذا أن يجاريهم قادة الحزبين الكرديين الطالباني والبرزاني في نفس الموقف المعادي من اخوانهم في تركيا، ومن حزب العمال الكردستاني الذي يحمل نفس مبادئهم كما هو مفترض.
إن هذا النموذج من “القادة” الذين يبيعون اخوانهم ورفاق دربهم ويصفونهم بالإرهابيين لا يتوّرعون عن بيع بلدهم، وعن قبض ثمنه عداً ونقداً، وهو ما لم يعد سراً بعد أن نشرت وسائل الاعلام العالمية خبر عزم الولايات المتحدة على دفع مبلغ ثلاثة ملايين دولار لكل “نائب” يوقع على المعاهدة الأمنية، أما صحيفة “الإندبندنت” البريطانية/ عدد 5 حزيران الجاري، فقد نشرت ما هو أخطر من ذلك بقولها أن الولايات المتحدة تحتجز 50 مليار دولار من أموال العراق في مصرفها المركزي بنيويورك من أجل اجبار جماعتها في العراق على توقيع هذه الاتفاقية التي يرى معظم العراقيين أنها ستمدّد الإحتلال الاميركي لبلدهم الى فترة غير محدودة!
الجدير بالتنويه هنا أن الأموال العراقية الموجودة في الخارج محمية بقرار رئاسي أميركي يوفّر لها الحصانة ضد الملاحقات القضائية، وهذه الأموال مجمدة بتفويض معطى للأمم المتحدة، وفي انتهاء مدته قريباً، فإنه يُصبح بإمكان الولايات المتحدة دون غيرها التطاول عليه، اللهم إلاّ إذا تم استبداله باتفاق جديد يحلّ محل “أمر الحصانة” وهو المعاهدة الأمنية!
وحيث أن ادارة بوش تعرف أن آخر ما يهم المسؤولين العراقيين بعربهم وكردهم حماية المال العام، فقد لجأوا الى اعتماد رشوة الثلاثة ملايين دولار لكل نائب سيبصم على هذه المعاهدة الاستعبادية للبشر والأرض والتاريخ.
هذا جانب من الصورة السوداء للنهب والسلب “الديمقراطي” والبقية تطول وهي أفظع، لعلنا نعود إليها عمّا قريب.
· سياسي كردي مستقل يُقيم في فرنسا