بقلم : د/ نصار عبدالله
حين التحقت فى مطلع الستينات من القرن الماضى بكلية الإ قتصاد والعلوم السياسية
بقلم : د/ نصار عبدالله
حين التحقت فى مطلع الستينات من القرن الماضى بكلية الإ قتصاد والعلوم السياسية كان حنا عزيز يسبقنى بعامين، فقد كان واحدا من تلك الدفعة التى يطلق عليها أبناؤها دفعة المتفوقين ، أما نحن فقد كنا نطلق عليها دفعة الخليط أو الدفعة المختلطة، وأما السر فى هذه التسمية فهو أن الدفعة الأولى من طلاب كلية الإقتصاد لم تكن من بين الحاصلين على الثانوية العامة فى عام إنشاء الكلية، ولكنها كانت خليطا من الطلاب المتفوقين من كليتى الحقوق والتجارة ، ونظرا لأن العدد الإجمالى لطلاب الكلية كان محدودا جدا فقد كان أغلب الطلاب يعرفون بعضهم بعضا معرفة شخصية على مستوى جميع الدفعات ، وكان حنا عزيز واحدا من الذين يعرفهم الجميع ويحبهم الجميع0كان حنّا يتسم بقدر نادر من خفة الظل وحلاوة الحديث رغم أن أهم مايميزه هو أنه كان “أخنف” !، …ورغم أن خنفه كان من العيار الثقيل ، فإننا لم نكن نمل سماع حديثه قط!!0كان حنا يجمع بين الدراسة والعمل فى إحدى الشركات لكى يخفف عن أسرته أعباء إعالته، كان يعمل فى المساء ويأتى إلى الكلية فى الصباح، ومع هذا فقد كان متفوقا ، وحينا كنا نسأله : “كيف تجمع يا حنّا بين العمل والدراسة والتفوق فى آن واحد “؟ كان يجيبنا : إنها نصائح والدى التى أحملها فى أذنى ـ كما أوصانى ـ كأنها الحلق! … ثم يتقمص شخصية والده قائلا: ـ ” اسمع يا حنا ياولدى، إياك أن تنسى لحظة واحدة أنك : أوّلا صعيدى، وثانيا قبطى وثالثا أخنف، ولا بديل لك عن التفوق، وإلا.. تضيع!!” ثم يضيف حنا وهو يقهقه” ولهذاالسبب فأنا متفوق ” ، حينئذ نعانقه ونحن نقهقه معه0 وحين تخرج حنا عام 1964 بدأ رحلة جديدة من الجمع مرة أخرى بين الدراسة والعمل، حيث كان يعمل فى شركة ماتوسيان فى نفس الوقت الذى كان يعد فيه للحصول على درجة الماجستير التى حصل عليها بالفعل عبر سنوات من الجهد الشاق، ثم حصل بعد ذلك على درجة الد كتوراة ،وتم تعيينه عضوا بهيئة التدريس بكلية التجارة جامعة طنطا، وبدا له أخيرا أن الحياة قد بدأت تبتسم له وأنه قد تمكن فى النهاية من تحقيق أحلام أبيه، غير أن حناـ الذى عاش طول عمره يتذكر الثلاثية التى حذره أبوه من نسيانها( ثلاثية :الصعيدى القبطى الأخنف ) ـ قد نسى فى الحقيقةأمرا بالغ الأهمية وهو أن كون المرء صعيديا قد يتيح له من الصلابة ما يعينه على مواجهة صعاب الحياة ، لكن كون المرء صعيديا قد يكون سببا فى فقدان المرء للحياة ذاتها ، وهذا هو بالضبط ما حدث مع حنا، ففىأعقاب تعيينه بجامعة طنطا كانت إحدى عائلات بهجورة تتربص بالعائلة الغريمة وقد قررت أن تسلبها واحدا من أنجح أبنائها ثأرا لدماء سالت منذ سنين لايعلم عددها إلا الله وإلا العائلة البهجورية، وكانت الضحية التى وقع عليها الاختيار هى حنا عزيز !0***تتضارب الروايات حول ملابسات مصرع حنا فمن رواية تقول إن خصوم عائلته البهجورية قد ظفروا به أمام مبنى نقابة التجاريين بشارع رمسيس بالقاهرة حيث مزقوا جسده بالسواطير، ومن رواية أخرى تقول إنهم قد أطلقواالرصاص على سيارته وهو على مشارف بهجورة ، وأيا ماكانت الرواية الصحيحة فإن الشئ المؤكد أننى أنا وكل أبناء دفعتى والدفعات المعاصرة لها قد فقدنا إلى الأبد أى احتمال لحدوث تلك المصادفة الجميلة التى تتيحها لنا الحياة بين الحين والحين ، عندما نلتقى فجأة وعلى غير انتظار بصديق عزيز قديم فنهرع إليه بالأحضان قائلين : ـ “والله زمان”0 [email protected]