معتصم حمادة
خلال عام مضى، وضع الانقسام بيوضه في أجواء مسمومة، وها هي البيوض تفقس المزيد من التداعيات السلبية على مجمل الحالة الفلسطينية بحيث دارت اللعبة دورتها كاملة لتعيدنا مرة أخرى إلى «غزة أولا»
هي المرة الثانية التي يجري فيها الاتفاق مع الإسرائيليين على «غزة أولا».
المرة الأولى كانت مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في إطار تطبيقات اتفاق أوسلو، المعروفة وقائعها جيدا، وما قادت إليه مجمل الحالة الفلسطينية في تطورات شديدة التعقيد.
والمرة الثانية مع حركة حماس، بوساطة مصرية، في إطار اتفاق أمني محدود، تطلب الوصول إليه مباحثات طويلة الأمد، امتدت منذ مطلع العام الحالي وحتى ما بعد منتصف هذا الشهر. لم تنشر نصوصه بعد، تناولته وسائل الإعلام بأساليب ومن زوايا مختلفة. وجرى تقييمه من قبل الجهات المعنية تقييمات متعددة. لكنها اتفقت جميعها على أنه اتفاق كرس الانقسام الفلسطيني القائم. إذ فصل ـ مرة أخرى ـ ما بين قطاع غزة والضفة الفلسطينية، فصلا تعسفيا، غير مفهوم، مما يطرح سؤالا لم تجد له الدوائر المعنية جوابا: هل ينفصل أمن الشعب الفلسطيني في غزة عن أمن الشعب الفلسطيني في الضفة الفلسطينية. وهل ما سيجري في الضفة من تطورات أمنية لا يخص إلا الضفة وحدها. وهل ستقف المقاومة في القطاع مكتوفة الأيدي إذا ما طرأ على الضفة تطور أمني دراماتيكي. وألا يعتبر الاستيطان وقضم الأراضي شكلاً آخر من أشكال العدوان الهمجي على الفلسطيني وأرضه؟
وقد يطول حبل الأسئلة، وهي كلها محرجة إذ تحمل في باطنها ردوداً واضحة عليها. وكلها تتمحور حول القضية الكبرى القائلة بأننا بتنا، في الحالة الفلسطينية، أمام «سلطتين» ـ إن جاز التعبير ـ وأمام مرجعيتين، تتقدمان إلى الجانب الإسرائيلي، في إطار تفاوضي. كل واحدة تختار الصيغة التي تناسبها تفاوضيا، مباشرة أم بالوساطة. وكل واحدة تبحث لنفسها عن مسوغ يبرر ما تقدمه من تنازلات في عملية تفاوضية، لا يمكن إلا أن تكون محكومة بسياسة تنازلية، لأن منطلقاتها الفلسطينية هي بالأساس هشة، مستندة إلى انقسام، تتفاعل تداعياته بالاتجاه السلبي دوماً.
فمقارنة بسيطة وسريعة لموقف حماس من التهدئة في الأيام الأولى لطرح الفكرة والمشروع، تبين أن قيادة حماس وضعت سلسلة اشتراطات، ربطت بينها وبين اتفاق التهدئة. من أهمها الربط بين التهدئة وفتح المعابر، خاصة معبر رفح كشرط لا تنازل عنه، مع التهديد باقتحام هذا المعبر في «انتفاضة» شعبية بشرت بها حماس مطولاً. وعندما دعيت فصائل المقاومة إلى القاهرة للتباحث مع الجانب المصري بشروط التهدئة وحيثياتها، ساد النقاش أجواء حرصت على الربط بين الضفة والقطاع، وحذرت من خطورة تكريس الانقسام القائم، ومنح الإسرائيليين الفرصة للعب على حبال الانقسام هذا، لأن الضرر منه سيلحق الفلسطينيين كافة، ولن يكون بينهم رابح واحد. كما حذرت من خطورة أن يكون الاتفاق مجرد تهدئة أمنية مجردة من أي إطار سياسي يقود إلى الخلاص من الاحتلال، بما في ذلك الدفع باتجاه توفير حماية دولية للشعب الفلسطيني من البطش الإسرائيلي الوحشي.
غير أن الأمور سارت لاحقا، باتجاه تنازلي، في ظل إصرار وعناد إسرائيلي يرفض فتح معبر رفح، ويربط بين هذا المعبر وبين إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت. ورغم التشدد اللفظي من قبل قادة حماس، في هذه المسألة تحديدا (أي مسألة معبر رفح) فإن الاتفاق رسا عند الحدود التي رسمها الجانب الإسرائيلي. تهدئة مقابل تهدئة، تشمل قطاع غزة دون الضفة. مع فتح جزئي ومشروط للمعابر التجارية التي تربط بين إسرائيل والقطاع.
معبر رفح، كما أكدت المعلومات، سوف تبحث القاهرة وضعه مع الأطراف المعنية: الرئاسة الفلسطينية، المراقبين الأوروبيين، والجانب الإسرائيلي. وهذا يشير مسبقاً إلى أن فتحه ـ إن هو فتح ـ سيكون تنفيذا لاتفاق المعابر (2005) الموقع بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت. وفي هذا تنازل فلسطيني إضافي تقدمه حماس في اتفاق التهدئة. ولا يفيد هنا القول إن حماس وقعت الاتفاق (أو قبلت به) من موقع القوة، وليس من موقع الضعف. فكل هذه الأقوال، وما يشبهها، لا يغير من حقيقة الاتفاق شيئاً، ولن يغير حرفاً واحداً من حروفه. ولا قيمة له في ميزان التطبيق. ولا يفيد القول أيضاً إن المقاومة سترد على أي خرق إسرائيلي. بل إن هذا القول فيه بعض الإدانة غير المباشرة للمقاومة (أو لمن تحدث باسم المقاومة) إذ ما هو المقصود بالخرق؟ هل ما يطال قطاع غزة دون الضفة، وبالتالي هل تعتبر الأعمال العدوانية الإسرائيلية في الضفة الفلسطينية «أعمالا طبيعية متفقا عليه»، وليست خرقا، باعتبار أن من صادق على اتفاق التهدئة، قدم نفسه «ممثلا» لقطاع غزة وناطقا باسمه.
وإذا ما أردنا أن نصف اتفاق التهدئة هذا، لتوجب علينا أن نقول إنه أسوأ اتفاق تهدئة تتوصل له الحالة الفلسطينية (أو أحد أطرافها) مع الجانب الإسرائيلي. هو الأسوأ، لأنه ولد في الظرف الفلسطيني الأسوأ: ظرف الانقسام على الذات.
الوجه الآخر للحالة الفلسطينية في القطاع، تحت وطأة الانقسام، والاستفراد والاستئثار والهيمنة بقوة السلاح، هو وجهها في الضفة الفلسطينية على المسار التفاوضي مع الجانب الإسرائيلي.
فقد فشلت وزيرة الخارجية الأميركية كوندواليزا رايس في زحزحة المفاوضات من الحفرة التي أغرقها فيها التعنت والتصلب الإسرائيلي.
كذلك فشلت في لجم الهجمة الاستيطانية الإسرائيلية في القدس المحتلة، أو الحد من تأثيرها أو تحجيمها أو تقليصها.
بدوره لم يجد الجانب الفلسطيني حلا لمأزقه (وهو ليس بحل) سوى البحث عن حلول إدارية مع الجانب الإسرائيلي، تقود إلى توثيق ما يتم الاتفاق عليه، وتوثيق ما هو موضع خلاف في محاضر مشتركة، علماً أن التجارب المرة مع المفاوض الإسرائيلي تؤكد أنه لا يحترم نصوص الاتفاقات الموقعة مع الجانب الفلسطيني، ولا يحترم المواعيد والتواريخ المقررة للتنفيذ. هذا ما اعترفت به الصحافة الإسرائيلية أكثر من مرة. وإلا فما معنى أننا نعيش دوامة مفاوضات، يفترض أن تكون قد شهدت خواتيمها في أيار (مايو) من العام 1999 حسب اتفاقية أوسلو. وما معنى أننا لا ندري، في ظل الدوامة المذكورة، متى ستنتهي هذه المفاوضات، ومتى سيتم الإعلان عن الدولة الفلسطينية، حتى أن كثيرين باتوا لا يثقون بأن هناك دولة فلسطينية قادمة، وأن ما يدور أمامنا ما هو إلا مسرحية إسرائيلية ـ أميركية لتحويل الحال الراهنة إلى حل دائم، فتتبخر الدولة، ويتبخر حق العودة معها.
كذلك لم يجد المفاوض الفلسطيني حلا لأزمته مع الأكاذيب الأميركية (وهو ليس بحل)، سوى البحث في إمكانية الحصول على وثيقة مشتركة فلسطينية ـ أميركية ترسم الحدود التي وصلت إليها المفاوضات، كضمانة تلزم الإدارة الأميركية القادمة، حتى لا تبدأ في التعاطي مع الموضوع الفلسطيني من نقطة الصفر، فيمتد عمر العملية التفاوضية سنوات إضافية إلى الأمام.
ونعتقد أن العامل الجوهري في إضعاف المفاوض الفلسطيني، وإغلاق الطرق أمامه للخروج من أزمته التفاوضية هذه هو حالة الانقسام القائمة التي أضعفت كل عناصر الحالة الفلسطينية في الداخل كما في الخارج.
ونعتقد أيضا أن هذه التطورات، إن على جهة قطاع غزة والهدنة مع الإسرائيليين، أو على جهة التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي ستكون لها تداعياتها المرتقبة على إمكانية انطلاق الحوار الوطني الشامل، وآلياته، نزولا عند مبادرة الرئيس عباس.
وبعيدا عن مفاهيم التشاؤم أو مفاهيم التفاؤل، يخطئ من يعتقد أن الكلام المعسول الذي سمعناه ترحيبا بمبادرة الرئيس عباس يعكس حقيقة المواقف المتخذة خلف الجدران بما يتعلق بالمصالحة الوطنية واستعادة الوحدة الداخلية.
فالرئيس عباس، كما أوضح المتحدثون باسمه، مازال متمسكا بشروطه الخاصة بالحوار مع حماس، من ضمنها إلغاء نتائج الحسم العسكري، وإعادة الأجهزة الأمنية والمقرات إلى السلطة أو إلى طرف ثالث يتم الاتفاق بشأنه، تحت مظلة جامعة الدول العربية. ومازال متمسكا بالقرارات والمراسيم التي أصدرها، والمتعلقة بقوانين الانتخابات، وإقالة حكومة هنية، وغيرها من القرارات والمراسيم.
من جانبها مازالت حماس تصرح أن حكومة هنية هي الحكومة الشرعية، وإن حكومة فياض حكومة مغتصبة للسلطة. وأن تكون حكومة هنية هي الشرعية معنى ذلك أن قطاع غزة هو الخاضع عمليا للشرعية وأن ما يتخذ على أرضه من قرارات ومراسيم واستحداث إدارات وأجهزة هو العمل الشرعي. وأن ما يدور في رام الله والضفة الفلسطينية هو غير الشرعي، وأن المطلوب إزاحة من هو غير الشرعي ((أي فياض وحكومته) لصالح إعادة السلطة الشرعية (أي سلطة حكومة هنية) على أراضي الضفة الفلسطينية.
في السياق نفسه ترفض حماس كل القرارات والمراسيم التي أصدرها الرئيس عباس عقب الانقلاب في القطاع، وترفض الاعتراف بشرعيتها.
وهي هنا تقيم معادلة غريبة: الاعتراف بشرعية عباس، وعدم الاعتراف بشرعية قراراته ومراسيمه!. كذلك تصر حماس على تأكيد شرعية ما اتخذه نواب الحركة من قرارات في اجتماعاتهم في غزة، باعتبارها اجتماعات شرعية للمجلس التشريعي، وما صدر عنها هو بالضرورة شرعي.
وبالتالي، وكأننا أمام طرفين، يحاول كل منهما أن يحسن مواقفه قبل الانهماك في مسائل الحوار، علما أن ما يطفو على السطح منذ الآن، هو الصراع على السلطة، مع تحييد كامل للخلافات السياسية وكأن لا خلافات بين الطرفين في هذا الميدان. هذا ما يعيدنا إلى أجواء مباحثات عباس ـ هنية وصولاً إلى اتفاق 11/9/2006 الذي ولد ميتا، ويعيدنا إلى مباحثات عباس ـ مشعل التي قادتنا إلى اتفاق المحاصصة في مكة، والذي انفجر بين أيدي الطرفين، وفجر الحالة الفلسطينية في انقسام مدمر.
الانقسام وضع بيوضه خلال عام.. وما نشهده هي هذه البيوض، وهي تفقس، تداعيات إضافية بآثارها السلبية على مجمل الحالة الفلسطينية. فهل تتعظ أطراف الحالة الفلسطينية بما شهدته أخيراً من تطورات، أم أنها ستطرب لهذه التطورات باعتبارها إنجازات تستحق الثناء؟.