بقلم: انور مالك – باريس
رحل الجنرال اسماعيل العماري الشهير بـ “اسماعين” في 27 اوت 2007، وبذلك يكون
بقلم: انور مالك – باريس
رحل الجنرال اسماعيل العماري الشهير بـ “اسماعين” في 27 اوت 2007، وبذلك يكون أحد أبرز أطراف الحرب الأهلية قد توارى تحت التراب، وأخذ في جعبته الكثير من أسرار تلك المأساة التي دمرت الجزائر… لقد هب الكثيرون في أيام وفاته إلى تحويله إلى “نبي” عاش غريبا ومات غريبا، فالصحافة وجدتها فرصة لتبييض ماضيه الأسود في حق الدم الجزائري المستباح، وجاء آخرون من أمثال مدني مزراق إلى الإشادة بهذا الراهب الذي لا مثيل له في عالم التقوى والتدين والإلتزام والمغامرة، فقد روى زعيم ما كان يعرف بـ “الجيش الإسلامي للإنقاذ” ان الجنرال صعد إلى معاقلهم في جبال بني خطاب ودك حصون بوعافر في جيجل وهو لا يحمل حتى سلاحه، واصفا نفسه أنه ليس بالعروسة التي تتنقل في مواكب، ولم يكشف لنا هذا الأمير خفايا “الفارون” من سجن لامبيز “ولاية باتنة” من ضباط المخابرات الذين تمت إعادتهم عن طريق منظمته إلى الثكنات في إطار هدنة شرعنها القانون، بعدما أكملوا المهمة الموكلة إليهم على أحسن وجه… بل يوجد من ذهب إلى التحدث بالتفصيل عن فضائل هذا الجنرال الراحل الذي توفي وهو زاهد في الدنيا، ونقلت للعالم تصريحات نسبت لجيرانه وأهل بيته تكشف طيبة وتقوى وإخلاص وتفاني ظل يطبع حياته، بل أنه مات “فقيرا” لا يملك أي شيء سوى راتبه الشهري الذي يذهب أغلبه في تسديد ديون المواد الغذائية ومتطلبات مطبخه !! حتى أنهم أشاروا إلى كشك بسيط ووحيد ويتيم ومتواضع تبيع فيه إبنته الأدوية وربما الأعشاب، ومن خلاله تضمن على الأقل لقمة عيشها وتدفع أشباح الفقر التي تقرع باب أسرتها بسبب “زهد الجنرال”… أحسست بالفعل أن هؤلاء بلغ بهم الغباء إلى هذا الحد، فالشعب يرى بعينيه رئيس بلديته الذي كان يشتغل معلما لا يملك إلا دراجة نارية، يتحول في الأشهر الأولى من إنتخابه إلى رجل أعمال كبير، فكيف يكون الحال بجنرال يحتل الرتبة الثانية في مؤسسة تتحكم حتى في رئاسة الجمهورية بل اسمه إسماعيل العماري؟؟.
نعم… لقد تحول رحيله إلى موعد جديد لمعركة أشعل فتيلها حول دور أجهزة المخابرات في حرب الجزائر بعد الاستقلال، ووجدت صحافة المخابرات ضالتها في ذلك لرد الصاع صاعين للمنظمات الحقوقية التي أدانت هؤلاء على جرائم بشعة في حق المدنيين الجزائريين، على كل ليس المجال لمحاسبة الرجل والذي أفضى لربه وهو كفيل به، ولكن لا يمكن أن يستغل ذلك مرة أخرى لتبييض تاريخ الجنرالات الأحياء، والارتقاء بهم إلى مصاف الملائكة، وهم عكس ذلك تماما والكل يعرف هذه الحقيقة التي لن يتجاوزها الناس سواء في موتهم بجلطات دماغية أو بسبب التخمة أو بداء السكري أو حتى من الحسرة على أشياء ضاعت منهم في أيام الحرب التي هي فرصة من ذهب للخفافيش ومصاصي الدماء.
مرة أخرى يرحل الجنرال فضيل الشريف ويهب الصحفيون في وسائلهم المختلفة بالداخل الجزائري، إلى الإشادة بهذا الراحل الذي يسكن في حي متواضع ب منطقة لرهاط (ولاية تيبازة)، وراحت بعض الصحف إلى وصفه بأشرس المعارضين للرئيس بوتفليقة، الذي أحاله على التقاعد في 2004 وأنهى مهامه على رأس الناحية العسكرية الأولى، بعدما روجوا لموقف مناوئ، بالرغم من أن قانون الخدمة في الجيش يمنع ذلك منعا باتا بل يعاقب عليه… وجرائد أخرى أشادت كثيرا بعملية اشرف عليها شخصيا في فيفري 2002 وتم فيها – كما روج لها إعلاميا – القضاء على أحد أبرز الأمراء الدمويين لتنظيم الجماعة الإسلامية المسلحة “الجيا” وهو عنتر زوابري، بالرغم من مصادر أخرى أكدت تصفية عنتر زوابري في خريف 2001 وهو الذي كشفه لنا أحد أمراء “الجيا” وذراع زوابري الأيمن لسنوات، والمحكوم عليه حاليا بالمؤبد في الجزائر، في حديث حصري مثير سننشره مستقبلا.
لقد ظل يروج كثيرا إلى أن سبب الكارثة التي حلت بالجزائر هم هؤلاء الجنرالات، وانهم يحسبون على ما يعرف بـ “حزب فرنسا”، مع العلم أن من بين 11 جنرالا الذين قاموا بإنقلاب 1992، يوجد 9 جنرالات منهم كانوا من قبل في الجيش الفرنسي، بل اعترف محمد العماري الذي كان قائدا للأركان في مجلة “لوبوان” الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 17 جانفي 2003 (ص 45) على أنه شارك في معركة الجزائر، وأيضا ما ذكر عن الجنرال محمد تواتي عن دور له في إبادة الجزائريين أثناء الثورة، وطبعا من دون أن ننسى الجنرال خالد نزار الذي اعترف أنه من دفعة لاكوست ووالده خدم الفرنسيين إبان الثورة وبامتياز… على كل ان هؤلاء الجنرالات كانوا مجرد ضباط صف تمت ترقيتهم في أواخر الخمسينيات، وقبل الإستقلال بوقت قصير للغاية قيل أنهم فروا نحو جيش التحرير الوطني !!
على كل الحديث في هذا الباب يحتاج الى وقفات طويلة وقد نشرت الكتب والشهادات وكشفت الكثير من الحقائق، ونجد على سبيل المثال لا الحصر ما نشره الكاتب والصحفي الجزائري هشام عبود في كتابه الشهير “مافيا الجنرالات” والذي كشف فيه حقائقا خطيرة للغاية لم يتجرأ أي احد منهم في الدفاع بدحضها أو حتى متابعته قضائيا…
لقد بدأ جنرالات الجزائر يرحلون، وظلت الحقيقة تراوح مكانها، بل أكثر من ذلك أنهم تحصنوا بميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي جاؤوا به حتى يحموا أنفسهم من المتابعات القضائية والعقاب لتورطهم في جرائم بشعة، من مفقودين بالآلاف لا أحد يعرف لليوم مصيرهم، إلى مجازر فظيعة في حق المدنيين، إلى إغتيالات مشبوهة، إلى قتل خارج أطر القانون، التعذيب في مخافر الأمن والمخابرات، النفي ومطاردة الأصوات المعارضة… الخ، وكلها جرائم ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي.
هؤلاء الجنرالات الذين ظلوا يتحكمون في المشهد السياسي والمالي للجزائر، لا يرحلون إلا للقبور ولكن للأسف يجدون من يبيض تاريخهم القذر الأسود، وطبعا ليس حزنا على الراحلين بل تزلفا وخوفا على الباقين الذين يسيطرون على دواليب الدولة على مدار عشريتين، وكذلك صارت الموانئ معابرا للحاويات التي يغرقون فيها البلد، وأغلبها محشوة بسلع فاسدة أو تجاوزها الزمن، ويكفي واقع الصحة بالجزائر الذي ينذر بالخطر الآخر ولا أحد تحدث عنه…
نعم عندنا صار في الجزائر “جنرال السكر” و”جنرال الزيت” و”جنرال السيارات” و”جنرال الدواء” و”جنرال الصحافة”… ولا نجد جنرالات همهم مستقبل المؤسسة العسكرية، والتي تحولت الثكنات إلى مدارس يتخرج منها التجار والمحتالون والمرتشون وبارونات المخدرات، وليست للتكوين والإحترافية التي هي من القيم المثلى لكل أمة تريد الحفاظ على نفسها في زمن الصراع ومحاور متناحرة.
لقد أشعلوا البلد بحرب أهلية من أجل حماية مصالحهم وكراسيهم، واليوم أشعلوها بحرب مجاعة وفقر تأتي على صحة الناس وحياتهم، فقد صار الجزائريون مهددون بالمجاعة في زمن أسعار خيالية للنفط، والجنرالات وبارونات المال ومافيا الإقتصاد الذين يتحالفون معهم حولوا تلك الطفرة المالية إلى أرصدتهم سواء عن طريق النهب أو الإحتيال المنظم أو التهريب، حتى أن أحدهم روى لي في التسعينيات أن الجنرالات عندما يقدم البنك الدولي على ضخ أموال جديدة إلى خزينة الدولة كديون طبعا، تجدهم في مكاتبهم الفاخرة ينكتون ويجعلون من ذلك اليوم شبيها بـ 18 من كل شهر الذي هو تاريخ دفع رواتب العسكريين… كما أشعلوا أيضا المنطقة المغاربية بفتن جعلت الأقطار مهددة بنزعات إنفصالية مختلفة خدمة لأجندات خارجية تضمن لهم وراء البحار أمكنة في حال احتدام وطيس الخطر الشعبي عليهم، فهم أبناء الثكنات والعسكر لا يتقن إلا العيش على ضفاف غبار الملاحم كما هو معتاد، وما يسمى بالإرهاب أفضل وسيلة للتجارة ونهب المال العام وتهريب الثروات وإبرام صفقات عسكرية ومدنية كلها مشبوهة، تعود بالفائدة على هؤلاء اللصوص بلا أدنى شك.
بقدر ما حملت المعارضة كل المآسي لهؤلاء الجنرالات، وبقدر ما قيل وما كتب عن دورهم في المأساة الجزائرية الفظيعة، وبقدر ما كشفت الشهادات المختلفة عن أن أيديهم ملطخة بالدم الجزائري البريء، فلم نجد أي أحد من الضحايا الذي عذبوا أو فقدوا ذويهم قاموا بإجراءات قضائية دولية في حق هؤلاء، ولا ممثلي هذه المعارضة في الخارج قاموا بما يمكن ذكره عمليا وليس شعاراتيا عبر الفضائيات، بغض النظر عن الشهادات ومواقع النت أو حتى منشورات تعد على الأصابع لا تتجاوز الكلام الجاهز المعلب، حتى لا نبخس الناس حقوقهم فيوجد من يحاول ولكن لوحده لا يصنع شيئا كما يجري مع هشام عبود.
مأساة شعبنا في الجزائر لا تتوقف عند هؤلاء الجنرالات الذين أشعلوا البلد بحرب أهلية، لكن المأساة الأخرى القادمة في أولئك الذين تربوا على أيديهم ورضعوا من بقراتهم، بل حتى أبنائهم الذين وضعوهم في مناصب عسكرية أو قضائية حساسة للغاية، وتمت ترقيتهم في أوقات قياسية على عكس أبناء دفعاتهم، ستجعل محنة الجزائر دوما هم “مافيا الجنرالات” الذين تحدوا العرف الدولي والبشري والوطني وظلوا فوق الرؤوس لا يتزحزحون إلا عن طريق ملك الموت…
فترى متى يفيق شعبنا ويكون هو من يقوم بترحيلهم إلى الزنازين يشهد العالم على غسيلهم في المحاكم وليسوا يرحلون إلى قبورهم والصحف الصفراء والسوداء تتفنن في إبداع الخصائل التي لا يمكن أن تكون على مقاسهم، حتى وإن أجادوا في التعبير والبيان والتصوير الفني؟.