نبيل أبو جعفر/باريس *
لو كان أي واحدٍ منا قد وصل إلى المرحلة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية الاميركية، واشتدّت المعركة بينه وبين منافسه، وكانت إحدى أسلحتها في الجانب الآخر التركيز على أصله ولونه وديانة أبيه،
والاشارة إليه دوماً باسمه الثلاثي، كما هو حاصل بالنسبة لباراك حسين أوباما، ثم، نال رغم ذلك كل هذا التأييد الجماهيري المذهل للمرة الأولى بالنسبة لرجل أسود في طريقه إلى البيت الأبيض ، كيف يمكن أن يتصرّف ولم يعد بينه وبين “المعجزة” – إن حصلت – إلاّ الزمن القليل الباقي من ولاية مجرم العصر جورج دبليو بوش؟
نطرح هذا السؤال لا لنخفّف من وطأة تصريحه أمام لجنة الشؤون الأميركية – الاسرائيلية “إيباك” حول القدس الذي أتى وسط حمّى السباق النفاقي الذي درج عليه سائر المرشحين لأي موقع مهم ولا سيما الرئاسة ، وقد تمّ توضيح أبعاده لاحقاً، ولكن لنناقش هذه الحالة بالعقل ، ولنضع النقاط فوق حروف ما طرحه من كلام وماذا يعني بالضبط بالنسبة لنا ولمن يخاطبهم ، دون التقليل من خطورة التصريح، ولا التهويل منه واعتباره قدراً لا مفرّ منه ، وهو ما لم يقصده على أي حال.
الأسس والدعاية الإنتخابية
مما لا شكّ فيه أن أجندة كل مرشح وأطروحاته لا تلبث أن تتغيّر مع الأيام وتدخل عليها تعديلات ومستجدات، ولا يعود غير الخبراء والسياسيين ممن يتابعون التفاصيل هم الذين يتابعون مدى تطابق الطرح مع التنفيذ. ولا يٌستثنى من ذلك – بالنسبة للجمهور العريض على الأقل – إلاّ الشعار الأساس لكل مرشّح، فهو الذي يبقى عالقاً في الذهن أكثر من سواه .
وطالما أنه ليس للمرشح الجمهوري جون ماكين أي شعار محدّد بارز، غير الكلام التقليدي المشابه لموقف بوش ونهجه المتشدد تجاه العراق و”الارهاب” والفلسطينيين .. الخ، رغم ادعائه التمايز عنه في الوقت نفسه”!”، فإن الميزة الأساسية لباراك أوباما تتركّز في تبنّيه شعاراً واضحاً جعله خياره الأوحد، وهو “التغيير”. والتغيير الذي عبّر عنه في سائر تحركاته وخطبه يَطال بالنسبة للناخب الاميركي جانبين أساسيين. أولهما: الوضع الداخلي ، والاقتصاد ، والأمن… الخ ، وثانيهما: وضع حدّ للإستمرار في مستنقع العراق الذي أوقعهم فيه جورج بوش ولم يتمكن من إيجاد وسيلة للخروج منه حتى الآن. ويندرج تحت هذا الجانب أيضاً وقف الحروب العبثية على الشعوب الأخرى التي اثقلت كاهل المواطن الاميركي وهزَت وضع بلده الاقتصادي، ثم شوّهت صورة الولايات المتحدة وحوّلتها من داعية للحرّية إلى رمز للاستعباد والارهاب.
هذان الجانبان وما سيتحقّق على طريقهما من خطوات وإنجازات سيكونان هما المقياس ومسطرة انسجام الطرح مع التنفيذ، خصوصاً وان طرح شعار التغيير جاء عنواناً رئيسياً وحيداً لحملته، وليس بنداً هامشياً من بنود برنامجه الانتخابي. ولهذا، فإن كل ما يمكن أن يُقال على هامشه مهما بدا مهمّاً لحظة طرحه ، لا يعدو أن يكون لغايات انتخابية آنية تستهدف كسب الصوت، في وقت بلغ فيه كره الأميركان لرئيسهم الحالي أوجه، وبلغ فيه كره العالم للولايات المتحدة أوجه أيضاً . ولهذا يبقى من المهم هنا ثبات موقف اوباما الرافض أصلاً للحرب ضد العراق، وإصراره على الانسحاب منه وتغيير صورة أميركا في أذهان العالم.
ولا يغيب عن الذهن أن هذا الشعار الذي سار عليه بذكاء كبير ، دون تردّد، ولا تناقض في الأقوال، أو تجنٍ على الآخرين – كما فعلت منافسته في الحزب هيلاري كلينتون – كان السبب الأساس في التفاف الشباب من حوله، وفي قدرته الفائقة على تجاوز المطبّات التي وضعت في طريقه سواء من قبل منافسه الجمهوري أو “رفيقته” الديمقراطية.
وبالقدر الذي كان فيه أوباما موفقا ً، وملفت الأنظار إليه ، فقد كان ناجحا في تمكنّه ـ كرجل يحمل مواصفات مختلفة لجهة لونه، وأصله، وحتى ديانة والده ـ من أن يشقَ طريقه بتواضع وكبرياء معاً، وهي حالة استثنائية وغريبة في الحياة الاميركية، تستدعي التوقّف أمامها.
.. لو لم يترشح الآن
صحيح ما تردد على ألسن البعض من أن هذه الحالة ما كان لها أن تتحقّق أو تأخذ هذا الصدى، ولا كان أمام صاحبها فرصة البروز والنجاح، لو قدّر له ان يخوض الإنتخابات الرئاسية في غير هذا الوقت ، أو في أي عهد غير عهد بوش، أو لو لم يأت ذلك بعد أحداث دمّرت العالم وأرهقت شعوبه برعونة إدارة البيت الأبيض ، الذي بات يشعر ساكنه بوضوح شديد أنه أصبح مصدر كره وسخرية العالم في آن. ولكن، من قال أن الرؤساء غير الاعتياديين يأتون في الظروف الاعتيادية – هذا إذا ما فاز على خصمه ماكين -؟
وعليه، فإذا كان الاميركان يتوقون فعلاً للتغيير بعد كل ما أصابهم وما حلّ باقتصادهم وسمعتهم فإن خيار التغيير المطروح أمامهم يحمله باراك أوباما، في مواجهة منافس جمهوري يحمل نفس مواقف وعنجهية بوش واكثر تعنتاً منه. منافس لغته خشبية ومنطقه بعيد عن التحليل الهادىء واحترام عقل الآخر بالمستوى اللائق به كمرشح للرئاسة ، وبهم كناخبين .
لقد ظهر الفارق الكبير بين طرح المتنافسين أوباما وماكين وبين شخصيتيهما من خلال حديث كل منهما أمام الاجتماع السنوي لـ “ايباك”. فبينما أظهر ماكين مفاخرته بالمزايدة على بوش في التعاطي مع موضوع العراق، وتأكيده مراراً على موقفه القاضي بإبقاء القوات الاميركية المحتلة هناك، وملاحقة “الارهاب”.ـ والمقصود هنا المقاومة قبل غيرها ـ ، إلاّ أنه لم يكلّف نفسه عناء التعبير عن مجرد التفكير بوسيلة للخروج من هذا المستنقع، بل اكتفى بكلمة ناشفة متعجرفة إزاء العالم، متملّقة، مطواعة تجاه الذين يخاطبهم أمامه .
أما طرح اوباما وشخصيته فقد عكسها أسلوب كلامه أمام “إيباك” أيضاً، رغم الجو المفعم بعنصرية وشوفينية البعض ضده ، وإن تمّ التعبير عنها بأساليب إحتيالية ورخيصة، كاعتماد التركيز على اسم والده – كما أسلفنا – أو إبراز صور له مع جدّه في بلده الأصلي، وهو يرتدي الزيّ الكيني المحلّي، بدل التركيز على أطروحاته وأفكاره ومناقشة ما يريد تطبيقه في حال فوزه في الانتخابات.
وسط هذه الأجواء ، وفي حمى السباق التملّقي أمام مجموعة “الإيباك” التي لا يستطيع أي مرشح للإنتخابات أن يتجاهلها، لم يكن من الممكن لأوباما أن يستعدي من أتى لمخاطبتهم ، وهو ليس عدواً لهم بأي حال. وعلى هذا الأساس أتت كلمته في سياقها العام كأي كلمة لأي مرشح أمام مجموعة لها ثقلها الانتخابي. أي تقليدية، مجاملة، مع الحفاظ على شعاره الأساسي وما يرمي إلى تنفيذه بإلحاح في مطلع تولّيه مسؤوليته إذا ما فاز، وقد وصفها المراقبون بأنها أكثر إتزاناً وصراحة من كلمتي ماكين وهيلاري كلينتون. فقد تعمّد أولاً تكرار انتقاداته لبوش، وهو في هذا ينتقد حزبه ومن يطرح أطروحاته، وتحدّث عن مآسي تجربته وما آلت إليه، وأعلن تمسّكه بالتغيير في الداخل والتصحيح في الخارج، مؤكداً على موقفه فيما يتعلق بالانسحاب من العراق، وهو الموقف الذي لم يتغيّر منذ بدء معارضته للحرب قبل وقوعها رغم ابداء استعداده مؤخراً لسماع آراء كبار القادة العسكريين على الأرض حول الموضوع.
ثم تحدّث عن قضية الشرق الأوسط وعن الحل السلمي مع الفلسطينيين والجيران أيضاً ، مؤكداً على “أن الفلسطينيين بحاجة الى دولة متماسكة ومترابطة جغرافياً”، أي غير مقطّعة الأوصال، وغير مفصولة بمستوطنات أو عبر أسلوب شق الطرق والاستيلاء على أراضي الغير تحت أي حجّة.
المطبّ… والتغيير
وفي سياق هذا الكلام جاءت عبارته النشاز، غير المحقّة ولا العادلة بحق شعبنا الفلسطيني وقضيته، حين وقع في خطأ اتخاذ موقف منحاز من نقطة خلافية أساسية، وغير منسجمة أيضاً مع كلامه عن الحاجة الى دولة متماسكة ومترابطة جغرافياً، عندما قال عن القدس أنها “ستظل عاصمة اسرائيل الموحّدة”!، فجوبه بالتصفيق كالمعتاد من قبل اللوبي.
… ولكن،
لم يكد أوباما يُنهي كلمته أمام “الإيباك”، حتى خرج أحد مستشاريه مستدركاً وموضحاً – حسبما أورد ذلك راديو “سوا” الاميركي – وليس العربي -، وكذلك صحيفة “الجيروساليم بوست”، التي خصّها المستشار بتفسيره لكلام أوباما قائلاً: “إنه لم يكن يقصد نفي السيادة الفلسطينية عن أجزاء من القدس، أو وضعها جانباً في تصريحه حول المدينة المقدسة، ثم أوضح كلامه أكثر قائلاً: “إن هذا الموقف الذي عبّر عنه اوباما لا يتضمّن أي شيء من شأنه أن يستبق التسوية النهائية لوضع القدس، أو يحرم الفلسطينيين من الحصول على عاصمتهم في مدينة متقاسمة ومشتركة”. أي أن كل شيء مرهون بمفاوضات الحل النهائي وليس بكلام أحد المرشحين أو سواهما.
هل يعني هذا التوضيح تراجعاً عمّا قاله المرشح الديمقراطي للرئاسة الاميركية؟
قبل أن نجيب بنعم، دعونا نقرأ مدى الإنزعاج الذي تضمّنه ردّ فعل مدير السياسة العامة لاتحاد تجمع اليهود المتشددين ويدعى ناتان ديامنت على التوضيح – التفسير، حيث قال: “ان الاتحاد أُصيب بخيبة أمل شديدة لهذا التغيير في موقف اوباما في تصريحه المهم حول القدس”، مبيّناً أنهم – أي تجمع اليهود المتشددين – “فهموا من هذا التصريح أنه ينبغي الإبقاء على وحدة المدينة المقدسة تحت السيادة الاسرائيلية، أي استمرار الوضع السائد في المدينة منذ العام 1967” !
غير أن عضو الكونغرس روبرت ديكسلر/من الحزب الديمقراطي عن ولاية فلوريدا، والذي يعرف بصداقته للجالية اليهودية ضرب على وتر مختلف عن ناتان ، حيث علّق على خيبة الأمل التي تركها تفسير مستشار أوباما بالقول نصّا : “… إن الجميع يعلم أن القدس ستكون موضوع مفاوضات المرحلة النهائية”.
… وحتى الزعيم الليبي معمّر القذافي الذي انتقد بشدّة كلام أوباما امام “إيباك”، عاد ليقول “إن شاء الله هذه التصريحات تكون هكذا مجرد دعاية انتخابية”.
نعود للبداية ونتساءل مرة أخرى: لو كان أي واحدٍ منا أميركياً وقد وصل إلى المرحلة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية… هل نحكم عليه نهائياً من جملة مرفوضة ومدانة، وقد تم استدراكها سريعاً، ونتجاهل مسيرته وسائر مواقفه وأطروحاته وأصله وفصله، كما يفعل المحافظون المتشددون الذين مارسوا ضد أمتنا كل صنوف الإجرام والإرهاب الرسمي المنظم ؟
هذا لا يعني – بالطبع – انه سيكون الى جانبنا بالضرورة … ولا تعني جملته – وحدها – أنه سيكون ضدنا بالضرورة.
فلنُدن التصريح، ولنتفهم التفسيرـ مؤقتا على الأقل ـ ، إذ ليس أمامنا إلا انتظار الشهور القليلة الباقية، أو انتظار ماكين… فإي خيار منهما أفضل لنا؟