ثمة محاولات تغليب التحرك السياسي على العسكري في مواجهة المقاومة في فلسطين والعراق المحتلين، وثمة تساؤلات حول جدوى أو نجاعة المفاوضات غير المباشرة بين سورية و’إسرائيل’ للتوصل لاتفاقيات وحلول
ترضي جميع الأطراف، ومحاولة جس نبض لبنان من خلال عرض التفاوض حول مزارع شبعا، مما يعني أيضاً محاولات تقريب وجهات النظر بين الأنظمة العربية ‘المعتدلة’ المتحالفة مع أمريكا من جهة، وبين جلاء المحتل على قاعدة الاعتراف بشرعية المقاومة والحقوق الوطنية، وما يلي ذلك من ضرورة التعاون لإعادة بناء البلاد والإغراء بعروض لمشاريع تجارية استثمارية تُعوض المحتل ضمنياً عن خسائره المادية الفادحة من جهة أخرى.
الإشارات -الاختبارية- ليست وليدة الساعة، إلا أن تسارع الأحداث وتوقع حدوث تغيير في السياسة الأمريكية حول كيفية إدارة مناطق النفوذ من خلال التفاوض السلمي، والتحايل السياسي وفق إستراتيجية استمرار الهيمنة العسكرية الأمرو ـ صهيونية، وتثبيت قواعد عسكرية في الخليج العربي وإعلان شراكة مع العراق لحمايته من أي اعتداء خارجي، ناهيك عن الهيمنة الاقتصادية والسياسية على البلاد العربية قاطبة، أُطلقت تلك الإشارات قبل انتهاء عهد بوش الدموي، وأهمها في الآونة الأخيرة:
ـ لقاء مشعل ـ كارتر، وتصريح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس العلني بالموافقة على دولة فلسطينية على حدود الـ67 لتحقيق السلام ‘المزعوم’ ومشاركة الأرض الفلسطينية مع (دولة إسرائيل)، وقد تساهم حماس في المفاوضات المنوي إجراءها لاحقاً، مباشرة أو غير مباشرة، مما يعني أن التصريح لم يكن مجرد مناورة تكتيكية لحشر العدو في الزاوية وإحراجه.
في حين أن تجربة ومسيرة المفاوضات فشلت فشلاً ذريعاً منذ أوسلو وحتى يومنا هذا، بل على العكس تماماً فقد حصدت ‘إسرائيل’ مكاسب دون عناء أكثر بكثير من المواجهات العسكرية مع المقاومة الفلسطينية عبر تلك المفاوضات التي أدت إلى تهويد القدس وازدياد المستوطنات ورفع الجدار الفاصل، بظل سلطة محلية ليس لها من الأمر شيئاً.
فالمفاوضات السياسية من المفترض أن تثمر نتائج مرضية للأطراف المتفاوضة، بديلاً عن الاقتتال، والتفاوض يأتي دائماً لصالح الطرف المعادي المتفوق سياسياً.
ـ إعلان سوريا موافقتها على الوساطة التركية وبدء مفاوضات غير مباشرة مع ‘إسرائيل’، من أجل استرجاع أرض الجولان.
لقد توقفت المفاوضات السابقة عام 2000، بسبب رفض إسرائيل إعادة كل الجولان، والعقدة دائماً وأبداً، في عدم تقديم تنازلات ‘إسرائيلية’ أو سورية، فما الذي يجبر ‘إسرائيل’ على التظاهر مجدداً بالقبول والتراجع عن سياساتها السابقة؟، وما الحافز المستجد الذي قُدم لسوريا مقابل قبولها العودة إلى التفاوض؟.
قد يكون الحافز استقطاب غربي للتعامل مع سوريا، والانخراط بما يُسمى بالاتحاد المتوسطي، وفي إبرام اتفاقيات مشتركة بين الدول المشرفة على البحر المتوسط، بالتالي تتوجه سوريا بشكل تدريجي للاعتدال المطلوب. أما الحقائق والمعطيات فإنها تدل على أن سوريا وافقت على العودة لمفاوضات طويلة المدى، دون أي تغيير في سياستها تجاه المقاومتين في لبنان وفلسطين على وجه الخصوص.
ـ عزة الدوري قائد جبهة الجهاد والتحرير في العراق، يعرض التفاوض مع المحتل، في مقابلة أجراها عبد العظيم مناف رئيس تحرير أسبوعية ‘الموقف العربي’ المصرية في 2/6/2008، على أرضية الاعتراف بالثوابت المبدئية لحزب البعث، وعدا ذلك (فلا تفاوض مع أمريكا ولا مع وسطاء ولا مع أصدقاء إلا على هذا الأساس، فإذا اعترف العدو بالثوابت فسنجلس معه مباشرة ونتفاوض معه وسنعاونه على الخروج من بلدنا بماء وجهه ونسهّل عليه السبيل.. قبل هذا الاعتراف لا تفاوض مع العدو المحتل).
ـ تصريح الناطق الرسمي في الحكومة ‘الإسرائيلية’ في الثامن عشر من حزيران، باستعداد حكومته لإجراء مباحثات مع دولة لبنان حول أي مسألة خلافية بما فيها مزارع شبعا، فزيارة رايس الأخيرة إلى لبنان حملت مقترحات وشروط رئيس الحكومة ‘الإسرائيلية’ ايهود أولمرت إلى الحكومة اللبنانية، في إطار وساطة بين الطرفين، مما يعني إبداء التساهل والميل للتفاوض في دفع عجلة ‘السلام’.
إن الخطوات الاستباقية جاءت على أمل فوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية القادمة، أو إعادة نظر الحزب الجمهوري في حال فوزه إلى أهمية دور المفاوضات كبديل عن سياسة الحروب العسكرية، فتسقط نظرية ‘الفوضى الخلاقة’ التدميرية، وتحل مكانها التطبيق العملي بـ ‘الاستفراد التفاوضي’ لكل جبهة على حده، عملاً بمقولة ‘بلدي أولاً’!.
الجدير بالذكر أن اتفاقيات التطبيع العربية، أُبرمت في زمن الرؤساء الديمقراطيين، على قاعدة مقايضة الأرض مقابل سلب استقلال وسيادة البلاد المطبعة بأكملها، وبكل الأحوال وأي كانت نتائج الانتخابات الأمريكية القادمة، فإنها سترجح كفة المفاوضات على المواجهة العسكرية.
فشروط الانسحاب بينة ومطالب قوى المقاومة العربية لن يتحقق منها شيء بلا ثمن، وسيتغير وجه الاحتلال البشع بآخر مسالم وإيجابي على هيئة مشارك لإعادة بناء البلاد بعد أن دمرها وجهه القبيح!، وكأن شيئاً لم يكن، ناهيك عن اتساع رقعة القواعد العسكرية الأمريكية، وشرعنة التواجد ‘الإسرائيلي’ على أرض فلسطين، وبلاد الطوق ستصبح بدورها ‘بلاد السوق’ للبضائع ‘الإسرائيلية’ وتغلغل الموساد.
بهذا تتحقق شروط التكبيل وإحكام القبضة الاستعمارية إلى ما شاء الله مقابل سلطة وسيادة مقننة ومحدودة في العراق، ومنعدمة في فلسطين، ومخترقة في سوريا ولبنان والتطبيع الرسمي العلني مع بقية الدول العربية.
بناء على ما تقدم، فإن الهدف الاستعماري يسعى إلى تراجع دور المقاومة المسلحة الرئيسي، ويعمل على تكثيف جهود الحل السلمي البديل، والمتوافق بنتائجه مع مخططاته، بيد أن تحقيق توازن القوة على الأرض يجب أن يبقى بيد المقاومة المسلحة لا بيد قوات الاحتلال.
لا شك في أن الخطورة تكمن في احتلال العقل العربي بعد السطو على أرضه، وإقناعه أن التحرير سيتحقق مع بقاء الهيمنة الأمرو ـ صهيونية على الوطن العربي، وانخراط جميع الأحزاب السياسية والمعارضة الوطنية في أي بلد عربي بما يسمى بالعملية السياسية الداخلية والمصالحة الوطنية، مع استبعاد الطاقم الحالي المتعاون رسمياً مع أمريكا و’إسرائيل’.
ففي إطار المشهد العام، يتشكل الإيحاء بأن الحقوق اُستردت، أما في الحقيقة بقاء الاحتلال بمعاهدات واتفاقيات تشرعنه دولياً!.
هذا هو السيناريو الجديد المرغوب به أمريكيا و’إسرائيليا’ والمطروح كمبادرة عربية للسلام، لكن من الطبيعي أن لا تجري المباحثات بما تشتهيه سفن استعمار الوطن العربي، والمأمول أن تؤمن وتمارس المقاومة العربية المسلحة أن تحرير البلاد والعباد لا يمكن أن يتحقق بأوراق وقيود من نوع آخر أشد وطأة وتكبيلاً، بل يُسترد بسواعد المخلصين لهدف التحرير الشامل والكامل، ولا هدف غيره، وانتهاز فرصة وضع الأحزاب ‘الإسرائيلية’ المتناقضة والمتضاربة بسبب الصراعات الداخلية، والمرحلة الانتقالية للإدارة الأمريكية، بجولة مفصلية ضاربة.
خلاصة القول ما ذكره الأستاذ عوني القلمجي في مقاله بعنوان ‘اسمها معاهدة وجوهرها احتلال أمريكي للعراق مشرعن وطويل الأمد’ (إنها المعركة الفاصلة، معركة لا منطقة رمادية فيها فإما مع الاحتلال أو ضده، معركة لا مساومة فيها ولا مبادرات لإخراج المحتل بماء الوجه، وإنما معركة تخرج المحتل بسواد الوجه، معركة لا مكان فيها للانتهازيين وتجار السياسة، معركة لا وجود فيها لأصحاب نظرية مقاومتان واحدة سياسية والأخرى مسلحة فالمقاومة واحدة وإن تعددت أشكالها، معركة شعارها لا صلح لا هدنة لا مفاوضات مع المحتل قبل أن يعلن عن انسحابه دون قيد أو شرط ويتحمل كافة النتائج الكارثية التي ترتبت على جريمة الاحتلال).
طريق المفاوضات لا يمكن أن تأتي بالحرية والتحرير، والمحتل لا يفهم غير لغة القوة، والسبيل الوحيد الذي يمكننا من استرجاع حقوقنا على أساس ثوابتنا الوطنية والقومية واضح المعالم، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.