ليس لأنها تريد أن تغرد خارج السرب، بل لأنها تؤمن أن الأشياء الجيدة هى التى ستنتصر فى النهاية..لا تزال الروائية الجزائرية الجميلة ياسمينة صالح تمارس عشقها لوطن “سرق اللصوص والقتلة قلبه” فى الوقت الذى تكتب فيه كاتبات أخريات عن الجسد!
وهى فى مجمل ما تكتبه عن معاناة الجزائريين البسطاء وأحلامهم تتمتع بجاذبية خاصة تشع بالحرارة والحب والتمرد، وعلى طريقتها الخاصة المميزة فى السرد والتشويق واللغة المطوعة التى أقرب ما تكون إلى الشعر.. تحتل وجدان القارئ برشاقة وإدهاش وتجعله مجبرا بأن يعيش الحدث كما هودون تجميل ودون أن تقع فى فخ الوعظ السياسى المباشر.
* “عندما نلتقى غرباء”، “ناستالجيا”، “بحر الصمت”، وروايتك الأخيرة “وطن من زجاج” نشعر أننا نمشى على زجاج الكلمات. لمن تكتب ياسمينة صالح؟
– لنفسي. أكتب لنفسى ما يمكن أن يؤرخ كل هذه الانكسارات الكثيرة التى نعى فى النهاية أنها تجمعنا، كما الوطن.. لهذا اكتب آليا للوطن أيضا. للأرض التى اعتقدنا ـ قديما ـ أنها لا تهرب، قبل أن نكتشف أنها… تضيع.
* يخيل إلى أنك تعانين من حالة انكسار مستمرة تسربينها إلى القارئ عبر رواية من رواياتك؟
– من لا يعيش انكسارا تراجيديا على هذه الأرض المحاصرة برعاة البقر؟ حتى المواليد الجدد يخيل إلى أنهم يولدون بتشوهات نفسية مسبقة، ومساحة مخيفة من الحزن الذى سيتربص بهم طويلا وكثيرا.
* لعلى قصدت انكسار الروائية قبالة الرواية.
– الكتابة عملية انتحارية جادة. لهذا لا يمكننى النظر إليها كانكسار كونها الوسيلة الوحيدة التى عبرها أحارب انكسارى ـ إن قبلت طرحك على الأقل ـ أنا لا أحلل ماهية الكتابة عندما أمارسها، لأنى أمارسها، ولأنى لا أجيد غيرها فى النهاية. لا أعرف العمل خارج الكتابة، وهذا شكل من أشكال البقاء بطريقة ما.
* البقاء على قيد الحياة مثلا؟
– البقاء على قيد الحلم! ليس ثمة حياة بالمعنى الحقيقى أمام كل هذا الانهيار الشاسع الذى يلمنا فى سلة الكارثة. البقاء على قيد الحلم يمنح سلّما حميما لتسلق شيء ما، وتركيب بطاقة ملونة لأجل معايدة نحرص على كلماتها الحارة رغم كل شيء.
* تكتبين عن الوطن والإنسان والسلطة، فى الوقت الذى تكتب كاتبات أخريات عن الجسد.. كيف تفهمين هذا؟
– لست مجبرة على فهمه.. كما سبق وقلت لك أنا أدافع عن حلمى بالكتابة، والحلم عندى ممتد وبعيد أيضا، لهذا يضم فى تفاصيله الوطن بكل ما فيه وما عليه. أنا لا يعنينى الجسد/ الجنس لأكتب عنه، ليس لأنى أتقى من الأخريات، بل لأنى أعتبر أن حرية الوطن أقرب إلى الإنسان من حرية الجسد. ولست من النوع الذى يصدق أن حرية الجسد مدخل لحرية الوطن. أنا لست كاتبة عاهرة، لهذا أعتبر الكتابات الروائية التى تتعاطى بسوقية مع الجنس بأنها تعبر عن عقد نفسية يعانى منها أصحابها أكثر مما تعانى منها مجتمعاتهم. لغة الجنس لغة آنية تشبه رسالة جوال تمحيها بسرعة لأنها رديئة، ولأن ذاكرة الجوال لا يتسع لها، بينما الكتابة بمعناها الإنسانى والحضارى فهى التى ستبقى إلى الأبد.
* هل أفهم أنك تعتبرين الكاتبات اللواتى كتبن عن الجسد بأنهن عاهرات؟
– أنا معنية فقط بأنى لا اكتب عن الجسد بمعناه السوقى المنحط، وما يكتبه غيرى لا يصدر باسمي!
* كيف تفسرين أن “كاتبات الجسد” يبعن كتبهن أكثر من بقية الكاتبات؟
– “تضحك”، اسألى الناشر!
* هل تقصدين أن الناشر هوالذى يسوق لأدب السرير؟
– بعضهم يسوقون لذلك فعلا، ويربطون هذه التجارة بدول دون غيرها بشكل خاص. لا يهمهم أن تكون الرواية جيدة، المهم أنها جنسية وسوف تباع بسهولة ويسر!
* ألا يشكل هذا خطرا على من “لا يدافع عن أدب السرير”؟
– أنا من الناس الذين يعتقدون أن الكتابة “والأشياء” الجيدة هى التى ستنتصر فى النهاية. سواء رواية أولوحة تشكيلية أوقصيدة أوأى أداء إبداعي.
* فى روايتك الأخيرة “وطن من زجاج” نشاهد واقعا جزائريا رهيبا بين الضياع والإرهاب والأمل. كيف تفهمين هذا الثالوث؟
– “وطن من زجاج” رواية قريبة بيئيا من الجزائرى مثلما قراها المغربى معتبرا إياها قريبة من ظروفه وقرأها المصرى والسعودي. ليست مقتصرة على “أحادية الجرح” بمعناه الضيق حتى لوكان الوطن هوالجزائر فى النهاية. أما عن الضياع فأجيال كثيرة ضائعة من المحيط إلى الخليج، وأما عن الإرهاب فقد صار “مقنن” يصدر فى لوائح أممية رسمية لإبادة دولة أو محاصرة شعب.. وأما عن الأمل، فهو خبزنا المتبقي.
* تبدين مرتبطة بالتاريخ فى أدبك. فى بحر الصمت قرأنا رواية تاريخية ورؤية مغايرة لكاتبة من جيل الاستقلال، وفى وطن من زجاج نفس الشيء.. كأنك تبحثين عن شيء؟
– أبحث مثلك ومثل كل الناس عن الحقيقة. تواريخنا العربية مفتعلة فى مجملها ومزورة لأن الحاكم يربطها “بتاريخ ميلاده” وميلاد “سلالته”! لهذا ضعنا كأجيال بين أرجل الزيف والغش والاغتيالات النفسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكثيرة.
* كيف تفسرين أن جيلك من الأدباء لا يبدو معنيا بالتاريخ ولا بالوطن؟
– من قال؟ أعتقد أن جيلى يحمل ذات الشعور باليتم. نحن يتامى وطن منكسر جدا، كأشد ما يكون الانكسار سببا للبقاء فيه والكتابة عنه. جيلى معنى بالوطن ولا أظنه بعيدا إبداعيا عما يجرى سياسيا.
* اذا تكتب ياسمينة صالح الآن.
– رواية جديدة ستصدر قريبا إن شاء الله.
- صحافية سورية