بقلم/ د. رفعت سيد أحمد
قبل أيام أثيرت ضجة كبرى سببها لقاءات شيخ الأزهر بالحاخامات اليهود، وبإنشاء مراكز للدراسات الأمريكية وبالإفتاء بما يرضيهم على مستوى إدانة الجهاد الفلسطيني، بالمقابل خرج عدد من علماء الأزهر ليفتوا بكفر الشيعة والطوائف والمذاهب الإسلامية الأخرى لمجرد اختلافها مع الفكر الوهابي السعودي الذي تغلغل في الأزهر الشريف مع هبة النفط وذهاب هؤلاء العلماء إلى آبار النفط لكي يتوضؤا بها بديلاً عن ماء زمزم، فتلوثوا بالفكر الوهابي المتطرف ولوثوا به سواهم من المسلمين وهو الفكر الذي يكفر بسهولة وصباح مساء غيره من المذاهب، ويعتبر حاله هو الدين الصحيح وما عداه باطل وهو الفكر الذي صدر إلينا الإرهاب في سيناء ومن قبله الجماعات التي قاتلت الناس وقتلت الشرطة والمسيحيين، الأزهر اليوم يقع بين شقي رحى: الشق الأول وهو الاختراق الأمريكي الإسرائيلي المتحالف مع النظام الرسمي، والشق الثاني الاختراق الوهابي المتطرف الذي يبشر مصر بالمزيد من العنف والتحريم (يحرمون كل شيء من تدخين السجائر حتى إهداء الزهور للمرضى، مروراً بمن يقل بدوران الكرة الأرضية)، في هذه الأجواء نحتاج إلى إعادة الاعتبار للدور الوطني الصحيح والحضاري للأزهر الشريف، وهي إعادة تتطلب منا النظر إلى الجذور حتى نحاول اكتشاف أصل الخلل، فماذا عنها؟!
* * * * * *
أولاً: وفي البداية يحدثنا التاريخ أن الأزهر الفاطمي الذي أنشأ في العام (359هـ/ 970م) كانت تتجاور وتتحاور بداخله المدارس الفقهية المختلفة دونما عنف أو صراع أو تكفير كما هو حاصل اليوم، كان الفاطميون أصحاب المذهب الإسماعيلي الشيعي قد أنشئوا الأزهر للتبشير لمذهبهم ودولتهم ومع ذلك سمحوا للمذاهب السنية الأربعة (الشافعية ـ المالكية ـ الحنبلية ـ الحنفية) بالتواجد وبقوة ليس فحسب داخل الأزهر الشريف، بل لقد خصصوا لهم مسجد عمرو بن العاص وكان معقلاً لفقهاء أهل السنة والجماعة، والطريف أن الحكام الفاطميين جعلوه المسجد الرسمي لدولتهم رغم خلافهم المذهبي مع أصحابه فكان منبره هو المنبر الرسمي للخليفة الفاطمي في صلوات الجمع في شهر رمضان وفي العيدين وفي عهد هذه الدولة استقبل الأزهر وبرحابة صدر إسلامية واسعة رموزاً من فقهاء وعلماء أهل السنة الكبار أمثال (أبو حامد الغزالي) الذي هرب من بطش السلطة العباسية ولجأ إلى مصر دون أن يغير أفكاره ومبادئه ودعوته بل وحتى دونما إسقاطه لخلافاته الكبرى مع المذهب الشيعي وفي عهد هذا الأزهر الفاطمي وحكامه استقبلت مصر العالم الكبير أبو الحسن بن الهيثم الذي لقب لاحقاً بآينشتاين العرب.
كان ذلك في الأزهر الفاطمي وحوله قبل أكثر من 900 عام ترى أين نحن من هذه الرحابة والسماحة الإسلامية التي أسس عليها الأزهر وصار رمزاً ومنارة إشعاع فكري وأداة لتوحيد الأمة قيماً ومذاهب وفرقاً!!
* * * * * *
ثانياً: هذا الأزهر الفاطمي المتجاوز للفتن والصراعات والجامع لأصحاب المذاهب، والذي كان أيضاً قائداً لثورات مصر ضد الاحتلال الأجنبي، أنظر ثورات مصر الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية مع بداية القرن التاسع عشر ثم مواقف الأزهر الرائدة ضد الاحتلال الإنجليزي وصولاً إلى دوره التقريبي المهم بين المذاهب في الأربعينيات على يد الشيخ عبد المجيد سليم وإنشاؤه لدار التقريب بين المذاهب الإسلامية والتي يحيها اليوم (2008) العالم الجليل فضيلة الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر السابق، ثم دور الأزهر في حروب مصر إبان عهد عبد الناصر (1956 ـ 1967) وصولاً إلى حرب 1973 وما تلاها، هذا هو الأزهر العظيم الذي تراجع دوره وباعتراف علمائه وتدهورت رسالته، وتحول العديد من خريجيه إلى مجرد موظفين لدى سلطة مستبدة وتقيم علاقات تبعية مع العدو الأمركي الإسرائيلي أو تخنع لفكر وهابي تكفيري متطرف، إننا نفتقد في (أزهر اليوم) أمثال الأفغاني ومحمد عبده والمراغي وشلتوت والخضر حسين وأبو زهرة وغيرهم من نجوم الفقه والاجتهاد الإسلامي.
إن الأزهر يعاني اليوم من اختراقات هدامة يأتي على رأسها دعاة الفكر الوهابي النفطي ببداوته وتخلفه وغلوه وبعده عن فطرة الإسلام ذلك الفكر الذي حذر منه العلامة الشيخ/ محمد الغزالي (عليه رحمة الله) وأسماه بـ(فقه البداوة) الذي ينشغل بطول اللحية وتقصير الثوب والسواك وتكفير الناس ونقاب المرأة بدلاً من انشغاله بقضايا الدين والناس وبدلاً من انشغاله بحرمة وجود قوات الاحتلال الأمريكي في الخليج وصفقات اليمامة وزيارات بندر بن سلطان لتل أبيب!!
إن هذا الفكر هو الذي أوصلنا إلى مذابح العراق المذهبية وإلى طائفية لبنان المميتة، وإلى تكفير الدولة الفاطمية التي تبعد عنا زمنياً بما لا يقل عن 900 عام بعد أن شبع من تكفير الواقع المعاش وأهله ومذاهبه بما فيها مذهب أهل السنة والجماعة وليس الشيعة فقط، إن هذا الفكر يخترق الآن الأزهر بسبب عصر النفط اللعين وهو أحد الأسباب الكبرى في تعطيل رسالة الأزهر وعدم استعادته لدوره الفاطمي التاريخي المهم، وإذا أردنا أن نعيد للأزهر مجده فلنواجه وبقوة هذا الاختراق الفكري والمالي والسياسي الوهابي قبل أن يستفحل ويشل الأزهر تماماً ويبعده ـ كما أبعدوا مصر ـ عن دوره ورسالته القومية والإسلامية.
* * * * * *
ثالثاً: إن الأزهر يمثل لدى المسلمين في العالم وكما قال لنا يوماً أحد علمائه الكبار ووفقاً لنص كلماته (إذا كانت الكعبة في مكة تمثل للأمة الإسلامية رمزاً للتوحيد ورمزاً للإسلام فإن الأزهر هو كعبة العلم والعلماء) انطلاقاً من هذا المعنى المعبر ندعو إلى حركة إحياء تعليمي وديني وثقافي وسياسي داخل الأزهر الجامع والجامعة، وهي حركة تبدأ من إعادة الاعتبار لموقع (الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر) وأهمية أن يكون هذا الموقع بالانتخاب بين هيئة كبار العلماء، فهذا الأسلوب هو الذي يضمن استقلالية الأزهر بعيداً عن أهواء الحكام ومصالحهم، وأن يعاد النظر في المناهج التعليمية بداخل معاهده وكلياته ومنابره الفقهية بما يربطها أكثر بقضايا الأمة والوطن ومن المهم إعادة قراءة ونقد ومراجعة قانون تطوير الأزهر ذاته الصادر عام 1961 بما يفيد الأزهر الجامع والجامعة ويعيد لهما دورهما الذي تراجع.
إن الأزهر الذي نطالب بع هو الأزهر (القائد) لا (المقود) الأزهر الرافض للانغلاق ولفتنة الغلو الوهابي لعن الله من أيقظها في مصرنا الحبيبة!!
E-mail: [email protected]