الابتلاء بالألم ليس جديداً في حياة الفلسطينيين، فقصة تجربتهم معه طويلة ومريرة. واليأس الذي صارعه الفلسطينيون مراراً لم يُفلح في أن يُسجل عليهم انتصاراً أو أن يَنفَذَ إلى قلوبهم. فلم تكن النكبة واللجوء والسجون،
بالنسبة للفلسطينيين، إلا محطات، صحيح أنها لم تكن عابرة، أي أنها ما زالت جاثمة فوق صدورهم، لكنها زرعت فيهم الأمل والرجاء بغدٍ أفضل، تلوح فيه بشائر الحرية والعودة والتحرر. والأسرى الفلسطينيون كانوا وما زالوا في طليعة أولئك الذين لم يقنطوا ولم ييأسوا من “روح الله” رغم ما مسهم من شر. وأي شر أكبرُ من أن يُفنيَ الإنسان زهرة شبابه في السجن، وأي ألم أقسى من أن يُسلَبَ الإنسان حريته، أو أن يُحرم الطفل من والده أو الأم من ابنها!. والمطّلع والمتابع لقضية أسرانا تعتريه الدهشة والعجب من هول ما يسمع ويرى، فهذا أمضى في الأسر ثلاثون عاما، وهؤلاء ممن مضى على اعتقالهم أكثرُ من عشرين عاماً، وذاك يصل حكمه إلى أربعةٍ وثمانين مؤبداً!!. هذه هي الحكاية إذاً: مأساة إنسانية حقيقية وأحكام بأرقام خيالية يعجز اللسان عن نطقها، وتضطرب الأذن لسماعها، فكيف بمن يعيشونها!!.
رمضان وفهمي مشاهرة هما صورة ساطعة ونموذج حي للنفس الفلسطينية التي يتنازعها الألم والأمل. صورة لمشهدٌ يتجلى فيه العطاء والبذل الذي لا يعرف حدوداً لفلسطين بأروع أشكاله. شبابٌ متقدٌ مفعمٌ بالحيوية والنشاط، مَلَكَ الدنيا بين يديه وفُتِّحت لهم أبوابها، لكنهم حين “جد الجد” نبذوها وراء ظهورهم قائلين لها: “إليكي عنا غري غيرنا”. فغادروا الدار وتركوا العشيرة والخلان ومضوا إلى حيث هي ساحات الرجولة والإباء. فرمضان الذي يشهد على هدوئه وأدبه ورقة طبعه القاصي والداني، ترعرع في قرية السواحرة الشرقية في بيت ملتزم محافظ، لم يكن ينقصه من أسباب الحياة المادية شيء، فقد عمل بوظيفة منتظمة وكان على وشك أن يحصل على شهادة الهندسة من كلية “أورط”، ولم يكن قد مضى على زواجه إلا بضعُ سنوات رزق خلالها بابنته الأولى “سلسبيل” في حين قُدّر لطفلته الثانية “شهادة” أن ترى النور ووالدها مغيّب حبيس جدران السجن وقيوده. والأخ الأصغر فهمي النشط بشكل ملفت “صاحب المرح الدائم”، لم يكن أقل حظاً من أخيه رمضان، فهو أيضاً حظي بعمل ثابت وحياة مستقرة. فقد تزوج ورُزِق بطفلين “عبيده” و “زينة” . لكن لئن أقبلت الدنيا عليهم برخائها ونعيمها، ومباهجها ومسراتها، ورغدها، وفتنتها فما هي، بالنسبة لرمضان وفهمي، “إلا متاع الغرور”. ولم يكن الحال مختلفاً مع الوالد الصابر الحاج عيد “أبو محمد”، والوالدة الصبور ” أم محمد” اللذينِ تلقيا خبر الحكم على ابنيهما بعشرين مؤبدٍ لكلٍ منهما!!!، بصبر وثبات كما يتلقاه أي أبوين مؤمنين واثقين بوعد الله للصابرين المحتسبين المدخرين الأجر عند الله. وكذا الحال مع الزوجات الصابرات فلا جزع ولا هلع بل صبر واحتساب، فالأمل في الله مستمر لا ينقطع “إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب”.
وأخيراً أيها الأخوان العزيزان ويا كل أسرانا الأشاوس، إذا غَرُبت شمس النهار أقبل الليل بسواده وديجوره، وإذا أنتصف الليل اشتدت ظلمته، وبعد هذا الظلام الدامس نوقن جميعاً أن الصبح سيأتي مشرقاً مسفراً ولا يشك في ذلك عاقل، فإذا طال الليل على مهموم أو مغموم فإن أمله في انبلاج الصبح قائم، “أليس الصبح بقريب”!.