كانت نقطة تجمعنا التي اتفقنا عليها للبدء بالتظاهرة تقع عند نهاية شارع القدس، أي بمحاذاة قرية كفر قليل– أي في منطقة C – الغير خاضعة للسلطة الفلسطينية، هناك التقينا رجالا ونساء من مختلف مؤسسات المجتمع المدني، والاتحادات الشعبية والتنظيمات السياسية.. تلبية لنداء وجهته اللجنة الشعبية لكسر الحصار والحواجز في محافظة نابلس، واللجنة الوطنية لإحياء الذكرى الستين للنكبة.. وكان مراسلو الصحف ووكالات الأنباء ومصوري التلفزة المحلية والفضائيات في المكان قبلنا لتغطية الحدث، حملنا الرايات الفلسطينية وحدها بالإضافة إلى أعلام الأمم المتحدة ( لان فعاليتنا هذه المرة كانت في الذكرى الستين للنكبة ) وحملنا اللافتات التي كتبت عليها شعارات تندد بالاحتلال وبالحواجز والاستيطان، وتؤكد على حق العودة كحق مقدس لا يتقادم أو ينتهي مهما مر الزمان، وانتظمنا بصفوف بعرض الشارع، وسرنا بخطوات ثابتة نحو حاجز الموت الذي يخنق مدينتنا الحبيبة نابلس، ويفصلها بقسوة ووحشية عن ريفها وباقي محافظات الوطن الجنوبية، وكالعادة وقفت أنا في مقدمة الصفوف– لأهتف لفلسطين وللنضال وللوحدة الوطنية– هتافات كنت قد نظمتها خصيصا لهذه التظاهرة الاحتجاجية، ( ضد الحواجز وضد الحصار، ومن اجل حق اللاجئين الذين أنا واحدا منهم بالعودة إلى ديارهم ).. شحذت الهمم بصوتي الجهوري، ورفعت معنويات المشاركين، فزاد الحماس وغاب الخوف والارتباك.. سرت في المقدمة وسار الجمع خلفي حتى اقتربنا من الحاجز اللعين، وكانت قوات الاحتلال بانتظارنا، والجنود على أتم الاستعداد لمجابهتنا وكانوا وكأنهم في معركة عسكرية، واعتقد أنهم حاولوا إرهابنا نفسيا بحشد كم كبير من جنودهم، وظنوا أننا سنخاف ونهرب بمجرد رؤيتنا لتلك الحشود، لكن أملهم قد خاب، وأصابهم الارتباك عندما وجدوا رجالا ونساء يتقدمون نحو الحاجز، بخطى ثابتة وبلا خوف ولا وجل، واستمرت التظاهرة بالاقتراب من سيارات الجيش حتى أصبحت على بعد بضعة أمتار منها، عندها نزل الجنود من سياراتهم وأشهروا رشاشاتهم بوجوهنا، ولوحوا بالقنابل أمام أعيننا، واستعرضوا عضلات أسلحتهم علهم يخيفوننا، لكننا لم نقف ولو للحظة حتى وصلنا وجها لوجه مع وجوههم، عندها قام احد الجنود بفتح قنبلة صوت أو دخان ( لا اعرف ) وألقاها نحونا.. مرت القنبلة من جانبي حيث كنت اصرخ بوجوه الجنود بصوت عال وأدعو رفاقي وزملائي المتظاهرون للتقدم، تجاوزتني القنبلة وانفجرت بين الحشود، وأصدرت دويا رهيبا جعل المتظاهرون يتراجعون قليلا، فالتفت خلفي وناديت بأعلى صوتي على الحشود بان يعودوا لتنظيم صفوفهم ويتقدموا مرة ثانية، وبالفعل حصل ذلك، ومرة أخرى ألقى الجنود قنابل– ولكن هذه المرة القوا قنابل غاز سامة– مما أدى إلى اختناق العديد من المتظاهرين، وكدت أنا أن اسقط مختنقا بالغاز، وتمالكت نفسي وعدت مرة أخرى لأنادي وأحرض، وادعوا المتظاهرين للتجمع من جديد والتقدم نحو الحاجز، مستغلا تراجع الجنود الذين أصاب غازهم الذي القوه بعضهم.. ومرة ثانية عاد المتظاهرون ونظموا صفوفهم، وسرت في مقدمتهم اهتف واصرخ في وجه الجنود، وزاد حماسنا وتقدمنا جميعا بجرأة كبيرة، حتى وصلنا مقدمة سيارات جنود الاحتلال، وعلا الهتاف لفلسطين وضد الاحتلال وجرائمه، فأقام الجنود سدا بشريا من قواتهم لتحول دون دخولنا إلى قلب الحاجز العسكري، وبدأت معركة التزاحم بالأجساد بيننا وبين الجنود– هم يدفعونا تارة ونحن ندفعهم تارة أخرى– وتعاركنا بالأيدي والأرجل، واستبسلنا استبسالا عظيما أحرج الجنود وأربكهم، لأنهم في مثل تلك اللحظة يكونوا عاجزين تماما عن إطلاق النار علينا لقتلنا، وخصوصا أن عشرات كمرات وكالات الأنباء كانت تصور الحدث ومن بينها وكالات أجنبية.
في تلك اللحظة الرائعة وعندما كنت بكامل حماسي واندفاعي، وادفع بصدري العاري جنود الاحتلال– ولأنني كنت في المقدمة– انتبهت للضابط الإسرائيلي مسئول القوة المكلفة بقمع تظاهرتنا.. انتبهت له وهو يشير للجنود بإصبعه نحوي ويقول لهم بالعبرية ( زي هو.. تكاختو ) أي هذا هو خذوه.. عندها أدركت أنهم يريدون اعتقالي.. وفي اللحظة التي تقدم بها نحوي جندي من فرق المغاوير الذين يطلون وجوههم بالأصباغ بقصد التمويه.. أخذت أنا خطوة للوراء، فلاحظ الجندي حركتي فصرخ بوجهي ( بو هنا ) أي تعال إلى هنا.. لكنني لم التفت إليه وأسرعت بالابتعاد، فحاول اللحاق ني، لكن المتظاهرون أعاقوه بأجسادهم، وحالوا دون وصوله الي والتمكن من اعتقالي.. وبعد أن تخلص الجندي من مضايقات الجنود نظر فوجد أنني قد ابتعدت عنه أكثر من خمسين مترا، فعاد إلى الخلف، واستمرت التظاهرة والتصادم مع المحتلين.. عندها لم استطع البقاء بعيدا عن التصادم والمواجهة مع الجيش، وقررت العودة إلى التظاهرة رغم صراخ رفاقي وتحذيرهم لي بان الجنود مصممين على اعتقالي.. لم استمع إلى التحذيرات وعدت للاقتراب من المسيرة، لكنني فوجئت بسيارة جيب عسكرية إسرائيلية تتقدم نحوي بسرعة فائقة، وينزل منها جنود يركضون باتجاهي، فبدأت اركض ودخلت احد الحقول المجاورة، واستمر الجنود بالركض خلفي، لكنني كنت أسرع منهم وكان بيني وبينهم مسافة طويلة، الأمر الذي جعلهم يتوقفوا عن ملاحقتي ويعودوا إلى سيارتهم ومن ثم إلى الحاجز.. أما أنا فخرجت من الحقل إلى الشارع، وإذا بأصدقائي يصرخون ويطلبون مني الإسراع بمغادرة المنطقة فورا، فركبت سيارة كانت تمر صدفة بالمكان، وطلبت من السائق الإسراع بمغادرة المنطقة، وبالفعل استجاب لطلبي، وما أن انطلقت السيارة حتى جاءني اتصال على جوالي يقول لي– انزل بسرعة من السيارة لان الجنود قد اتصلوا بدوريات الطرق الإسرائيلية، وأعطوهم أوصاف السيارة وكذلك اسمي كي يتم اعتقالي .. عندها طلبت من السائق أن يدخل إلى قرية كفر قليل من أول مفترق طرق، وهناك نزلت من السيارة وركبت سيارة أخرى نقلتني إلى قلب مدينة نابلس..
دخلت إلى مكتب عملي في الإغاثة الزراعية.. وكان وجهي اغبرا احمرا من التعب والإرهاق والعرق، وما هي إلا دقائق– إلا وكان بعض رفاقي ورفيقاتي الذين كانوا معي في التظاهرة قد تبعوني إلى مكتبي ليطمئنوا على وضعي بعد هذه المطاردة الساخنة، وجلسوا ليحدثوني كيف أنهم أيقنوا في بعض اللحظات أنني سأسقط برصاص الجنود، لأنهم سمعوا بآذانهم صوت الضابط الإسرائيلي وهو يوجه أوامره للجنود الذين كانوا يلاحقونني ويأمرهم بإطلاق النار نحوي وإصابتي بشكل مباشر.. وابلغوني أيضا بان الجنود قد عرفوا اسمي بعد أن سمعوا المتظاهرين الخائفين علي وهم ينادونني باسمي، كي اهرب وأسرع قبل أن يلقي الجنود القبض علي أو يصيبوني بالرصاص.
نابلس – حاجز حوارة
14/5/2008