بقلم نقولا ناصر*
فيما يتعلق باعادة رسم خريطة الوطن العربي لكي تستوعب اسرائيل ، يبدو المشروع الفرنسي الذي تحول اوروبيا لانشاء الاتحاد المتوسطي نسخة مصغرة من المشروع الاميركي للشرق الاوسط الكبير ، لكنه في الصورة الاوسع للصراع الغربي على مناطق النفوذ والمصالح في الشرق الاوسط يبدو اقرب الى تفاهم اميركي – اوروبي على تقاسم الاقليم بين الولايات المتحدة الاميركية وبين الاتحاد الاوروبي لتكون المنطقة الواقعة على سواحل حوض البحر الابيض المتوسط ، حيث احتياطي الغاز الضخم ، من حصة اوروبا بينما تكون المنطقة النفطية في الخليج العربي والعراق من حصة اميركا . ومن هنا السؤال المشروع عما اذا كان “المتوسطي” مشروعا لشراكة اوروبية – عربية كما يدعون ام لشراكة اوروبية – اميركية في الهيمنة على الوطن العربي الكبير .
والغريب ان هذا التقاسم في الجوار الاستراتيجي المباشر لقوتين عظميين مثل روسيا ، المنشغلة بوضع حد للتوسع المباشر لحلف الناتو على حدودها مباشرة ، والصين لم يستثر حتى الان أي رد فعل معلن في موسكو وبكين .
والمشروع بعد تبني الاتحاد الاوروبي له في اذار / مارس الماضي اثر اعتراضات اوروبية قادتها المانيا يعتبر بناء فوق عملية او مسيرة برشلونة لجمع 39 حكومة و750 مليون نسمة تحت مظلته ، غير ان البيان الختامي للقمة الاميركية – الاوروبية التي اختتمت الاسبوع الماضي في سلوفينيا ، التي سوف تتسلم فرنسا منها الرئاسة الدورية للاتحاد الاوروبي يوم انعقاد قمة باريس المتوسطية في الثالث عشر من تموز / يوليو المقبل ، تجاهل المشروع تماما ولم يذكره نصا ولو مرة واحدة ، وتشير معظم الدلائل الى ان هذا كان “صمت” قبول لا صمت رفض للمشروع .
فالتنازع على المصالح والنفوذ في الشرق الاوسط وخصوصا في القلب العربي للاقليم بين التكتل الغربي ذي القيادة الانجلو – اميركية وبين الاتحاد الاوروبي ذي القيادة الفرانكو – المانية قد اوقفه تفاهم استراتيجي يوزع الادوار والمصالح في اطار حلف شمال الاطلسي “الناتو” وبحمايته ، وكان وصول ادارتي نيكولا ساركوزي وانجيلا ميركل الى الحكم في فرنسا والمانيا بداية لهذا التفاهم الذي انعكس تنسيقا اوثق في مجلس الامن الدولي التابع للامم المتحدة حول العديد من القضايا التي كانت مثار اختلاف او حتى خلاف بين التكتلين الغربيين كما اتضح لاحقا في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والصومال وافغانستان وايران بعد أن راهن بعض العرب وغير العرب في المنطقة طويلا على تطور موقف مستقل لاوروبا عن اميركا ينهي تبعية الاولى للثانية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، فهذه التبعية تتحول الان تدريجيا الى شراكة في الهيمنة على العالم بعامة وعلى الشرق الاوسط بخاصة وعلى الوطن العربي على الاخص .
ان توسع الناتو جنوبا بالتواجد العسكري المباشر في افغانستان وباتفاقيات الشراكة وغيرها مع دول عربية تمتد من الخليج العربي الى المحيط الاطلسي ليس الا تعبيرا عن هذا التفاهم – الشراكة بين التكتلين . في 12 شباط / فبراير 2005 قال أمين عام حلف الناتو جاب دي هوب شيفر: “يوجد إجماع متنام بين أوروبا وبين أميركا الشمالية على أنه يجب بناء روابط جديدة أقوى مع هذه المنطقة التي لها مثل هذه الأهمية الإستراتيجية . وهناك إجماع أيضا على أن الناتو يستطيع وينبغي عليه أن يلعب دوره فيها” . وتاكد هذا “الاجماع” بخطط عملية في القمتين اللتين عقدهما الحلف في ريغا بلاتفيا عام 2006 وفي قمة بوخارست برومانيا في العام التالي . لذلك كان ذو دلالة ان تدعو صحيفة مثل النيويورك تايمز في وقت مبكر الى توسيع الناتو جنوبا مباشرة بعد الغزو الاميركي للعراق (ثوماس فريدمان في 23/10/2003) .
واذا كان الاحتلال الاميركي المباشر للعراق والشراكة الاميركية في الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين يوضحان تماما البعد الاستراتيجي الامني والسياسي المغلف بشعارات التنمية الاقتصادية والديموقراطية لمخططات واشنطن في المنطقة فان المخططات المماثلة للمحتلين الاوروبيين السابقين وكذلك شراكتهم الاستراتيجية مع المحتلين الحاليين ما زالت ليست واضحة بالقدر نفسه لدى الراي العام العربي والاقليمي .
ولا تخفي باريس الاهداف السياسية والامنية لمشروعها بالرغم من تركيزها الاعلامي على “فوائده” الاقتصادية اذ اعلن الرئيس ساركوزي في وقت مبكر في خطاب له بمدينة تولون في الشهر الثاني من العام المنصرم ان “البحر الابيض المتوسط مفتاح لنفوذنا العالمي” ليؤكد حديثا السفير الان ليروا ، الذي اوكل ساركوزي اليه مهمة الاعداد للقمة المتوسطية في باريس ، ان “الهدف من الاتحاد المتوسطي سياسي ، لكن الاقتصاد هو المحرك له” . لقد اثارت معارضة المستشارة الالمانية ميركل لمشروع ساركوزي كما طرحه خلال حملته الانتخابية انطباعا خاطئا بان المانيا ومجموعتها في الاتحاد الاوروبي تعارضه لكن هذا الانطباع سرعان ما تبدد عندما اتضح ان معارضتها كانت لكون المشروع “فرنسيا” واستهدفت وضع المشروع تحت مظلة الاتحاد الاوروبي وهو ما تحقق في اذار / مارس الماضي . ان الاختلافات التكتيكية بين فرنسا التي ترى في مصر الشريك الاساسي جنوب المتوسط وبين المانيا التي تري في تركيا مثل هذا الشريك لا علاقة لها باتفاق البلدين على الاهداف الاستراتيجية للمشروع الذي يعتبر مجرد بلورة لسياسات وافكار واهداف تطورت عبر عدة عقود من الزمن سابقة اسست له ، فعلى سبيل المقال قال يوشكا فيشر وزير الخارجية الالماني السابق: “لم يعد امن اوروبا يتحدد على حدودها الشرقية ، بل في الحوض الشرقي للبحر الابيض المتوسط والشرق الاوسط” .
لقد وجهت باريس فعلا الدعوات لحوالي خمسين رئيس دولة ورئيس وزراء لحضور قمة “الاتحاد من اجل المتوسط” التي ستنعقد في العاصمة الفرنسية في الثالث عشر من الشهر المقبل . وذكرت القدس المقدسية في الثلاثين من الشهر الماضي ان الرئيس الفلسطيني محمود عباس سوف يشارك فيها ، وسط حراك سياسي “متوسطي” متسارع وجدل عربي ساخن حول ما اذا كانت هذه القمة مجرد بوابة فرنسية ترفع علم الاتحاد الاوروبي لتطبيع علاقات العرب المتشاطئة على المتوسط تطبيعا “مجانيا” مع دولة الاحتلال الاسرائيلي .
ففي العاشر من الشهر الجاري استضافت طرابلس الغرب قمة عربية مغاربية مصغرة حضرها الرئيس الدوري لقمة جامعة الدول العربية بشار الاسد للاتفاق على موقف موحد من قمة باريس وموضوعها لكنها انفضت دون أي بيان ختامي او مؤتمر صحفي يوضح ما اتفق عليه . وفي السادس من الشهر استضافت الجزائر العاصمة للغرض نفسه الدورة الخامسة عشرة للمنتدى المتوسطي الذي يضم (12) دولة على مستوى وزراء الخارجية وانتهت ب”استيضاحات” عربية حول مشاركة اسرائيل . وفي (24) ايار / مايو الماضي التقى في القاهرة عشرة وزراء خارجية عرب لتنسيق مواقفهم من قمة باريس دون ان يعرف احد علام اتفقوا ايضا . ومن المقرر ان تستضيف العاصمة الفرنسية اجتماعا لوزراء خارجية الدول التي ستشارك في قمة باريس في اليوم السابق لانعقادها .
والملاحظ ان الاردن ، المدعو لعضوية الاتحاد المتوسطي ، ليس عضوا في كل الاطر المذكورة التي بحثت المشروع وبالتالي لم يشارك في مباحثاتها ولم يبق امامه سوى مناقشة الموضوع عبر العلاقات الثنائية . ومثل الاردن السلطة الفلسطينية ولبنان .
وكانت “مسيرة برشلونة – الاتحاد من اجل المتوسط” ، كما يسمي الاتحاد الاوروبي المشروع رسميا ، على جدول اعمال اللجنة المختصة بالشراكة اليورو- متوسطية في الاتحاد في اجتماعها ال76 الي انعقد في سلوفينيا على هامش القمة الاميركية الاوروبية . وناقشت اللجنة “الاسم” الذي سيعطى للاطار المقترح وتكوين هياكله ، ودور هذه الهياكل ، والاختيار “النهائي” للمشاريع التي سوف يتبناها ، ثم قررت الاجتماع ثانية في بروكسل في السابع والعشرين من الشهر الجاري .
ويتضح من ذلك ان بنية المشروع وهيكليته ومشاريعه التنموية التي تمثل الجزرة الاقتصادية لاجتذاب الموافقة العربية عليه ما زالت جميعها قيد الدراسة ولم تتبلور او تتقرر بعد ، وبالتالي فان بعض التهافت العربي عليه هو مثل شراء سمك ما زال في البحر ، وربما من المفيد لكبح هذا التهافت الاقتداء بموقف تركيا الذي عبر عنه وزير خارجيتها علي باباكان في الثاني عشر من الشهر الجاري عندما قال ان تفاصيل المشروع لم تتضح بعد “ولم نحصل على اية وثائق مؤكدة عن المشروع” وبالتالي فان انقرة لم تتخذ قرارها بالانضمام او عدم الانضمام للمشروع . وبينما قررت بعض الدول العربية مشاركتها في قمة باريس على مستوى الملوك والرؤساء قال باباكان ان مستوى تمثيل بلاده في القمة لم يتقرر بعد نتيجة لعدم وضوح الصورة الذي اشار اليه ، مما يثير اسئلة جادة حول كفاءة الدبلوماسية العربية ، التي بدا حكامها وحكوماتها اختلافاتهم المعهودة السابقة لاوانها حول مشروع لم تتضح معالمه وان كانت اهدافه ومخاطره الاستراتيجية والسياسية قد بدات تتضح فعلا .
واذا كان الفضل يعود الى الرئيس الليبي معمر القذافي ، الرئيس الدوري للاتحاد المغاربي ، في تفجير مفرقعة اعلامية يوم الثلاثاء الماضي سلطت اضواء قوية على ما راى فيه مخاطر على العرب والافارقة من مشروع الاتحاد المتوسطي باعلان رفضه لفكرة المشروع ولحضور قمته فان الاسباب التي ساقها للرفض لم تذكر السبب الاهم المتمثل بفتح بوابة واسعة جديدة للتطبيع المجاني مع دولة الاحتلال الاسرائيلي باعتبارها ستكون شريكا اصيلا في المشاريع السياسية والتجارية والامنية والعلمية والبيئية والمائية للاتحاد المقترح ، اذ اكتفى باعتبار مثل هذه المشاريع “طعما” واهانة” تستهدف “تمزيق الوحدة” العربية والافريقية ، وكانما جامعة الدول العربية والاتحاد الافريقي يمثلان حقا أي وحدة عربية او افريقية يخشى الزعيم الليبي من ان يقود الاتحاد المتوسطي الى انفراطها .
واذا كانت تصريحات وزير الخارجية المصري احمد ابو الغيط في السادس من الشهر الجاري قد اظهرت حساسية مصر تجاه الخشية من ان يكون الاتحاد المقترح معبرا للتطبيع المجاني مع اسرائيل عندما نفى ذلك بقوله في الجزائر ان “أي تطبيع مع اسرائيل يعتمد على التقدم في عملية السلام في الشرق الاوسط” فان المغرب وتونس لم يظهرا حساسية مماثلة تبين ان مسالة التطبيع المجاني امر يستحق التوقف عنده في اندفاعهما المتحمس للمشروع .
وبالتاكيد كان القذافي سيكون اكثر اقناعا لو انه ركز في اسباب رفضه على كون المشروع المتوسطي ما هو الا نسخة ساركوزية مصغرة لمشروع الشرق الاوسط الكبير الاميركي الذي يستهدف اعادة رسم خريطة المنطقة وتفكيك جامعة الدول العربية على علاتها فقط لان بقاءها في حد ذاته ، واي منظومة اقليمية مماثلة اصغر او اكبر منها ، يدمغ الاقليم بالهوية العربية الاسلامية وهي هوية تجمع ولا تفرق بين دول الاقليم وقومياته وشعوبه واقلياته التي حولتها الثقافة المشتركة بلغة القران العربية الى منظومة اقليمية متجانسة بالرغم من التضارب الطبيعي في المصالح والصراع عليها بين مكونات تاريخها المشترك … باستثناء مستحدث واحد يتناقض مع هذه الهوية تناقضا استراتيجيا هو النشاز الاسرائيلي المتمثل في مشروع دولة الاحتلال الصهيوني لانه ينتمي الى هوية غربية اخرى ليست غريبة عن المنطقة فحسب بل كانت تاريخيا طامعة فيها وفي حالة صراع حضاري معها وهو نشاز ما كان لدولته ان تقوم لو لم تكن جزءا عضويا لا يتجزا من الهجمة المعاصرة لهذا النقيض على المنطقة .
ان شبه التعتيم الاعلامي الفلسطيني على انفتاح هذه البوابة الفرنسية على مصراعيها امام دولة الاحتلال للتطبيع مع العرب لا يكفي لتسويغه التذرع بالحرص على تطوير “الاتصالات الفرنسية” مع حماس في قطاع غزة ولا حرص المفاوض الفلسطيني في الضفة الغربية على ابقاء فلسطين حاضرة في كل منتدى دولي لكي تبقى “دولة فلسطين” على خارطة سياسية ورقية بينما الاحتلال يقيم لمستوطنيه دولة عاصمتها القدس على اراضي هذه الدولة ويتفاوض مع المفاوض الفلسطيني لتقسيم الضفة بين “الدولتين” ويستقوي عليه بما حققه من تطبيع مع اشقائه العرب . لقد حان الوقت لكي تنغلق البوابة الفلسطينية التي يدخل منها الاخرون للتطبيع مع دولة الاحتلال ، قبل زوال الاحتلال ، لكي يطبعوا على هواهم دون التستر بقميص عثمان فلسطيني يقدمه لهم المفاوض الفلسطيني ، ولتكن البداية بمقاطعة قمة باريس .
وقد تسلم رئيس وزراء دولة الاحتلال ايهود اولمرت الدعوة للقمة ، وسوف يلبيها ، متوقعا ان يجني جائزته الاولى من الاتحاد المتوسطي حتى قبل اعلانه رسميا ، اذ ستكون قمة باريس “المرة الاولى التي يحضر فيها المؤتمر نفسه” مع الرئيس السوري الذي يراس القمة العربية ، كما قالت الجروزالم بوست يوم الاربعاء الماضي ، وان كان اللقاء بين الرجلين غير وارد. اما الجائزة الثانية فهي احتمال ان يحضر القمة ايضا الرئيس اللبناني ميشيل سليمان بالرغم من البيان الذي اصدرته الحكومة اللبنانية الاربعاء الماضي ونفت فيه انها ستتفاوض مع دولة الاحتلال لانها قبل ذلك “يجب ان تحترم القرارات الدولية … التي لا يمكن ان تكون موضوعا لمفاوضات سياسية” . وحبذا لو اقتدى المفاوض الفلسطيني بموقف الحكومة اللبنانية لكي يشترط قبل ان يتفاوض تنفيذ القرارات الدولية التي تحرص دولة الاحتلال وراعيها الاميركي على تطبيقها في كل مكان من الدنيا ، الا في فلسطين .
واذا كان التاريخ والثقافة العربية الاسلامية قد استوعبا اليهود واليهودية لالاف السنين في المنطقة ويمكنهما استيعابهم فيها الى ما لانهاية كجزء منها فان قبولهم فيها كدولة “يهودية” منفصلة مرتبطة انتماء وثقافة ومصلحة بهوية نقيضة معادية وطامعة لن يتحقق الا عبر تفكيك المنطقة الى كيانات سياسية منفصلة ، وتجريد هذه الكيانات من هويتها التاريخية العربية الاسلامية ، وربط كل منها على حدة بالهوية الغربية الغازية المهيمنة ، ورسم خريطة جديدة للمنطقة تكون فيها هذه الدولة اليهودية ندا مهيمنا اقليميا (بفضل الالتزام الاميركي –الغربي بضمان استمرار تفوقها العسكري) ، وكل ذلك لن يتم الا عبر القهر العسكري لهوية المنطقة التاريخية وعبر القهر الاقتصادي لها وهنا ياتي دور حاسم لمشروع الاتحاد المتوسطي ان قدر له النجاح .
*كاتب عربي من فلسطين