د.برهان الجلبي – علي الصراف
الأكاذيب والمبالغات ولوي عنق الحقيقة ليس جديدا على ماكينة الدعاية والإعلام الغربية. ولكن، بالنسبة للسياسات الإستعمارية، فان الأكاذيب لا تشكل سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد.
يتضمن تاريخ الأكاذيب الإستعمارية كشوفا واعترافات كثيرة، منها ما كان يختفي وراء أوهام أيديولوجية كان المعسكر الشيوعي يستخدمها للسيطرة على شعوب دول أوروبا الإشتراكية وبقية مستعمراته وفروعها السياسة في العالم. ومنها ما كان قد عبر عنه وزير الدعاية الألماني غوبلز الذي قال “انك إذا كررت الكذبة ألف مرة، فانها تصبح حقيقة”. ومنه جاء القول: “إكذب، إكذب، حتى يصدقك الناس”.
وكانت الأكاذيب والمبالغات هي القاعدة الوحيدة التي وقفت عليها الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفاؤهما لتبرير غزو العراق.
ولكن هناك، في عالم صنع السياسة، شيء أعمق وأعقد من الأكاذيب المجردة. إنه الحرب النفسية، وحرب السيطرة على العقول وأنظمة التفكير، وحرب صنع المفردات والمفاهيم التي تحرك عناصر هذا التفكير.
هذه الحرب تندرج في إطار سياسة لـ”إدارة الإنطباع”، تعتمد على خلق إعتقاد ما لدى الرأي العام، ومن ثم العمل على إدارته والتحكم بمجرياته. وهكذا، فان الأمر لا يتعلق بإطلاق كذبة، وإنما بصنع مفهوم وخلق تصوّر.
الكذبة قد تقتصر على القول انك تملك أسلحة دمار شامل، حتى وان لم يكن هناك دليل على وجودها. ولكن صنع المفهوم وخلق التصور يذهب الى القول انك دكتاتور وانك تساند الإرهاب وان كل ما تقوله كذب، وانك تشكّل تهديدا وشيكا بتلك الأسلحة…
ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فبعد أن يكون قد تم خلق الإنطباع، بأنك تشكل خطرا، بصرف النظر عن حقيقة امكانياتك العسكرية، فان الخطوة التالية هي “إدارة” هذا الإنطباع بالتركيز على ما يمكن عمله لتجاوز هذا الخطر الذي سيأتي منك. ومن هنا ستبدأ سلسلة من القصص، تمتزج بالكثير من الأكاذيب والمبالغات، حول انتهاكاتك لحقوق الإنسان، وحول ما إذا كان من الضروري إقامة نظام ديمقراطي يحل محل نظامك، وحول الجحيم الذي يعيش فيه شعبك، وحول الجنة التي ستكون قائمة إذا ما تم التخلص منك، وحول الرخاء والحريات الديمقراطية التي سيرفل بها الجميع من بعدك.
وليس مهما كم يتطابق هذا الإنطباع مع القيم الأخلاقيات والأعراف الدولية. فالهدف منه هو تشويه صورة الخصم قبل الإنقضاض عليه. وحتى لو تكن هناك ذرائع كافية للعدوان عليك، فان الوظيفة الأساسية لسياسة “إدارة الإنطباع” هي خلق الذرائع وتقديم المبررات للعدوان. وبعبارة أخرى: خلق الخطر، وتشجيعك على الظهور وكأنك تمثله بالفعل، وانتهاز أي عمل تقوم به، مهما كان تافها او صغيرا، لتقديم الدليل على انك تمثل ذلك الخطر. وحتى إذا تعمدت القيام بشيء معاكس، فان “إدارة الإنطباع” تلجأ الى السخرية من هذا العمل المعاكس، والتقليل من قيمته، وقد تستخدمه هو نفسه كدليل على أنك تمثل خطرا أكبر، وللزعم بأنك تُخفي أشياء “معروف أنها غير معروفة” وأخرى “غير معروف أنها غير معروفة”…
ويعتمد نجاح سياسة “إدارة الإنطباع” على الوسائل الإعلامية بمختلف أنواعها. وهي وسائل يفترض أن تعزف على وتيرة واحدة ومتناغمة. فمنها مَنْ يصنع الأكذوبة، ومنها مَنْ يبني عليها، ومنها مَنْ يقوم بانتاج المفاهيم والتصورات التي من المطلوب أن تنشأ عنها. وحتى إذا انكشفت الأكذوبة، واتضح للجميع إنها أكذوبة، فأن المفاهيم الناتجة عنها تبقى، ويظل هناك من يتحدث بها ويدافع عنها باعتبارها حقيقة. وهكذا، تكون الأكذوبة قد أدت دورها في تمهيد الأرضية للإنطباع، وهي بحد ذاتها قد تختفي وتتحول الى مجرد تفاصيل قابلة للنقاش، إلا أن الإنطباع يظل موجودا ليتحول بدوره الى أرضية لسياسات ومواقف وأعمال قد تصل الى إحتلال وتدمير بلد وشعب بكامله.
انطباق كل هذه الدلائل على الحرب ضد العراق، يوحي وكأن سياسة “إدارة الإنطباع” جديدة. ولكن الحقيقة ليست كذلك. فقد مارس الغرب، وبريطانيا بالدرجة الأولى، هذه السياسة ضد العرب منذ الحرب العالمية الأولى. ومثلما كان المشروع الصهيوني يقوم على خلق الإنطباع لدى الشعوب الغربية، بتقديم “ارض بلا شعب لشعب بلا أرض”، فقد تم تقديم الكيان الصهيوني، فيما بعد، على انه “الديمقراطية الوحيدة” في المنطقة. صحيح أن هذا الكيان مارس وما يزال يمارس أبشع الإنتهاكات وأكثرها وحشية، ليس ضد الأفراد وحدهم بل وضد الفلسطينيين بشكل جماعي، إلا أن الكيان الصهيوني ظل بموجب ذلك الإنطباع “ديمقراطيا”، وظل هناك من يواصل الترويج لهذا الإنطباع في وسائل الإعلام العربية نفسها، من جانب صحافيين ومثقفين يؤدون وظيفتهم كحصان طروادة.
والحقيقة، فليس كل الذين يلعبون دور حصان طروادة يقبضون الثمن. فأغلبيتهم، في الواقع، تعمل لصالح “إدارة الإنطباع” مجانا. وهذا أسوأ من قبض الثمن، لأنه يعني انخراطا في الخديعة وممارستها “عن قناعة”.
في مواجهة معارك الإستقلال تم تقديم المشروع التحرري الوطني، من قبل آلة الدعاية الغربية، على انه مشروع غير حضاري، وأن أصحابه ينخرطون في مشاريع استراتيجية دولية مناوئة، وانهم يريدون السلطة لأنفسهم وليس للدفاع عن مصالح الشعب، وأن الإستعمار هو وسيلة للتحضر وإعادة تأهيل الشعوب المتخلفة، وأن ربط هذه الشعوب بالسوق الدولية يخدم مصالحها، وأن الإستقلال سيؤدي الى حرمانها من فرص النمو والإزدهار بالإستفادة من العلاقة مع القوى الإقتصادية الكبرى.
ولقد حورب المشروع القومي العربي للوحدة بين الدول العربية على أساس أن هناك فروقات وتمايزات كبيرة بين الأقطار العربية. وتم خلق الإنطباع، بأن مقومات ودوافع التوحيد لا قيمة لها، وانه ليس من مصلحة الدول العربية الغنية أن تتحد مع الدول العربية الفقيرة. أو أن المصالح الوطنية المستقلة لكل دولة لا تتوافق بالضرورة مع المصالح الوطنية للدول الأخرى. وتمت شيطنة القيادات القومية بوصفها قيادات ديكتاتورية، أو على الأقل بانها غير ديمقراطية، في حين أن الديمقراطية هي النعيم المنشود.
ومع انتشار مفاهيم العولمة، فقد ظهر أن الوطنية والقومية شيئان لا لزوم لهما، وأنهما يمثلان خطرا على فرص التقدم، ويعتبران بمثابة “ردة” فكرية وسياسية في “عالم واحد”، بل وأنهما السبب وراء انتشار ظاهرة التطرف والإرهاب. وفي المقابل فأن الغرب، الذي تهيمن ثقافته على العالم، يمثل كل ما هو رائع وجميل وعظيم ومتفوق، ليس في العلوم والتكنولوجيا فحسب، بل وفي الديمقراطية ودولة القانون واحترام حقوق الإنسان أيضا، وذلك بصرف النظر عن أي جرائم أو انتهاكات أو أعمال إستغلال وتخريب وحشية تتعرض لها الدول والشعوب والجماعات والأفراد من قبل دول هذا الغرب “المتقدم” و”المتحضر” نفسه.
لقد تم خلق الإنطباع بتقدم الغرب وتحضره. أما الجرائم والإنتهاكات وأعمال القتل والتدمير والتخريب، فليست سوى تفاصيل “ثانوية”، وربما أخطاء يرتكبها أفراد لا يمثلون سوى “تفاحة فاسدة واحدة” في سلة من التفاح الزاهي الألوان واللذيذ المذاق.
وأمر “إدارة الإنطباع” لا يقتصر على السياسات وحدها، ولكنه يشمل الأخلاقيات والقيم أيضا. فالحرب الدعائية ضد أمة لا تقتصر على الحرب ضد قياداتها وحكوماتها وأحزابها، ولكنها تشمل ثقافتها وتقاليدها بل وحتى دينها نفسه. ومثلما يتم تقديم العادات والتقاليد والأخلاقيات المرتبطة باحترام الحرمات وحفظ الأعراض والكرامات على أنها تقاليد وعادات متخلفة تجاوزها الزمن، فان الدين نفسه يُصبح هو مصدر العلة، وأنه هو الذي يُنتج التخلف، وهو مصدر التطرف، وهو السبب وراء الإرهاب.
أما الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الإرهاب، فانها آخر ما يمكن أن يشغل بال مخططي إستراتيجية “إدارة الإنطباع” الذين يفضلون أن يركزوا إهتمامهم على تقديم الإسلام بانه هو بحد ذاته المشكلة وليس سياسات وجرائم الإحتلال، ولا أعمال النهب والإستغلال وانتهاك السيادة التي تمارسها الإحتكارات الغربية.
لقد تم صنع الإنطباع بانه تجب محاربة الإرهاب، وتجب ملاحقة الإرهابيين في كل مكان، كما تجب تصفية الثقافة السياسية والمبررات الدينية للتطرف،… كل هذا من دون معالجة سبب واحد من الأسباب التي تدفع ملايين الناس الى الشعور بالقهر والمهانة تجاه ما يرتكبه الغرب ومأجوروه وعملاؤه من أعمال وحشية.
السائد اليوم في تصورات معظم الناس، أن التطرف خطأ وجريمة وضرر. والسائد هو أن الغرب متقدم ومتحضر ويحترم حقوق الإنسان. ولكن، بفضل النجاح الذي تحققه سياسة “إدارة الإنطباع”، فليس من السائد أبدا أن وراء التطرف جرائم يرتكبها هذا الغرب نفسه. وليس من السائد أن حكومات هذا الغرب أكثر تطرفا، واكثر إلحاقا للضرر، وأكثر إستعدادا لإرتكاب الجرائم من المتطرفين أنفسهم.
ويستطيع الناظر الى حجم الجرائم التي يرتكبها المتطرفون، مقارنة بما يرتكبه “المتحضرون”، أن يكتشف حجم الأثر الذي تتركه سياسات “إدارة الإنطباع”. فبينما يبدو ما يرتكبه المتطرفون، على قلّته، كارثة، فان ما يرتكبه “المتحضرون”، على كثرته، يبدو حادثا طفيفا وعابرا. وحسب “إدارة الإنطباع”، فوراء المتطرفين ثقافةٌ ودينٌ وأفكارٌ يجب أن يتم نبذها وتغييرها. أما “المتحضرين” فوراءهم ثقافة ودين وأفكار يجب دعمها وتعزيزها.
لقد أتهم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بارتكاب انتهاكات كثيرة. وكان من جملتها “المقابر الجماعية” المرتبطة بما يسمى “حملة الأنفال”، وبقصف قرية حلبجة بالأسلحة الكيميائية. ولكن حتى لو تم قبول كل الأرقام حول أعداد الضحايا، وهي أرقام بولغ فيها الى حد أنها أصبحت مهزلة، فان وسائل الدعاية الغربية، والمنخرطين في ماكينة “إدارة الإنطباع”، لم يقارنوا أبدا بين هذه الأرقام وبين أعداد الضحايا الذين سقطوا في بغداد والفلوجة والرمادي وسامراء والموصل والبصرة وتلعفر والكرابلة وغيرها عقب الغزو. لقد أصبحت كل واحدة من مدن العراق “حلبجة” ثانية، بل أسوأ. وأصبحت جثث الأبرياء الذين يقتلون على الهوية ترمى في الشوارع ولا تجد حتى من يدفنها، وأُكتشف العشرات من المقابر الجماعية على هيئة أكوام من الجثث لا يتم حتى تغطيتها بإتقان، ومع ذلك فقد ظل الإنطباع السائد هو أن النظام الذي أقامه الإحتلال “ديمقراطي”، وأن الغزاة جلبوا الرخاء والحرية للعراقيين، وبالتالي فان كل أعمال المقاومة التي يمارسونها ضد قوات الإحتلال هي “إرهاب”. وهذا “الإرهاب” لا ينخرط فيه الشعب العراقي الذي يرفل في نعيم النهب، بل “مقاتلون جاءوا من الخارج”.
وتزعم أبواق الدعاية الأمريكية والبريطانية التي تقود الحرب النفسية ضد العرب والمسلمين أن هناك صراعا حضاريا يهدد القيم الغربية. وأن هذه القيم، هي القيم الأخلاقية والإنسانية الصحيحة، وكل ما عداها خاطئ ومتخلف وضار. ولكن لا أحد، بين أبواق تلك الدعاية، ينظر الى حرب القيم على أنها حرب مصالح وامتيازات تجارية وسياسية وإستراتيجية. فالغرب يُسوّق ثقافته وقيمته لكي يُسوّق، بالأحرى، بضاعته. وهذا يعني إن تدمير القيم والأخلاقيات الحضارية الأخرى يجعل الأمم المعنية بها في وضع إقتصادي وإستراتيجي لا يكتسب الأفضليات التي يكتسبها التفوق “الأخلاقي” المزعوم للقيم الغربية.
ولكن سياسة “إدارة الإنطباع”، وكأي حملة أكاذيب منسقة، إنما تحمل عناصر فضيحتها في داخلها.
فالديمقراطية التي يزعم “الغرب المتحضر” أنه يرغب بنشر رسالتها في العالم، تقوم على عنصرين لا غنى عنهما، هما الشفافية والمحاسبة.
ولكن، ها نحن نعلم اليوم، على سبيل المثال لا الحصر، أن الحرب ضد العراق شُنت بناء على أكاذيب ومبالغات، أو في الأقل، على تصورات ثبت أنها خاطئة.
وها نحن نعلم اليوم، أن تغيير أنظمة بالقوة العسكرية جريمة ضد القانون الدولي.
وها نحن نعلم أن النظام الذي أقامه الغزاة في العراق يرتكب انتهاكات وجرائم وأعمال نهب وفساد تتجاوز كل ما ارتكبه القتلة واللصوص على إمتداد التاريخ الإنساني برمته.
وها نحن نعلم أن أعداد ضحايا الغزو في “العراق الجديد” تفوق بأشواط أعداد ضحايا النظام السابق.
وها نحن نعلم أن أعمال التعذيب والإغتصاب لم تقتصر على سجن أبو غريب وحده، بل شملت كل سجون حكومة المليشيات الطائفية، بمعرفة وإطلاع وصمت المنظمات “الإنسانية” الغربية التي تملك الحق بالدخول الى تلك السجون؟
ولكن هل حوسب أحد على أي شيء من تلك الأعمال؟
هل تم تقديم أي أحد من كبار المسؤولين للمحاكمة على ما اقترفته يداه، أو على ما برر القيام به؟
هل اتخذت برلمانات الغرب “المتحضر” أي إجراء لوقف أعمال القتل والتعذيب التي تُرتكب بإسم الديمقراطية؟
هل مارست تلك البرلمانات أدنى قدر من الشفافية حيال تلك الأعمال، وهل بحثت، أو دفعت الى البحث، عن مرتكبيها؟
هل إنتقدت الصمت والتواطؤ الذي تمارسه المنظمات الدولية المعنية بالرقابة؟
لا، قطعا.
وفي الواقع، فلعل السؤال الأهم هو: هل للديمقراطية أو لقيم دولة القانون واحترام حقوق الإنسان أي معنى في الغرب “المتحضر” نفسه؟
ألا تمثل السياسات الخارجية التي يمارسها الغرب إهانة مباشرة لكل القواعد والقوانين والأخلاقيات الإنسانية، بما فيها تلك التي تعتمدها الأمم المتحدة؟
ألا تبدو المفارقة بين المزاعم الديمقراطية وسياسات الإحتلال عارا قائما بذاته؟
هذه المفارقة قد تبدو عارا بالفعل، إلا أن الغرب نفسه هو الفضيحة.