في الحرب الأولى بين حزيران (يونيو) وأيلول (سبتمبر) من العام ٢٠٠٤، كان ميزان التقدّم الميداني يميل لمصلحة الجيش، لأن الحوثيين لم يكونوا يملكون إلا الأسلحة الفردية من بنادق الكلاشنيكوف الى القنابل اليدوية التي لا يخلو منها بيت في القبيلة. وقد طالت المعركة وامتدت على مدى ثلاثة أشهر، وتمكّن الجيش في النهاية من الوصول الى معقل حسين الحوثي وقتله في كمين نصبه له وهو في طريقه لمقابلة لجنة الوساطة بعدما أعطي الأمان. عندها شعر أتباعه بعدم جدوى مواصلة القتال، خصوصاً مع إعلان الحكومة العفو العام عمّن شارك في المعارك. ولم تمض أيام حتى بدأ سكان صعدة يدركون أن الغرض من المعركة لم يكن القضاء على الحوثي، وإنما تحجيم المذهب الزيدي كحركة عقائدية سياسية، فقد سيطرت الحكومة على كلّ المساجد الزيديّة وسلّمتها الى خطباء سلفيين من جنسيات يمنية وعربية، وفرضت على السكان حضور صلاة الجمعة في هذه المساجد. في وقت لاحق، اعتقلت قوّات الأمن اليمنية عشرات الحوثيين العائدين من الجبال ولم تفرج إلا عن عدد محدود منهم، رغم تعهّدها بإطلاق الموقوفين وتطبيق قرار العفو.
وكانت دهشة سكان صخيان (صعدة) كبيرة وهم يشاهدون تهديم أكبر مدرسة زيدية بعد توقّف الحرب، كان حسين الحوثي قد بناها، رغم توسّطهم لدى الجيش للابقاء على المبنى وتحويله الى مستشفى أو حتى ثكنة عسكرية. ونتيجة الصلاحيات الواسعة الممنوحة للجيش، احتفظ الضباط والمسؤولون بمزارع وبيوت كثيرة كانوا قد سيطروا عليها أثناء الحرب، الأمر الذي زاد الأمور تعقيداً.
ومع استمرار الانتهاكات تجدّدت المعارك، وتزايدت خبرة الحوثيين القتالية وبدأوا باقتناء الصواريخ المضادة للدروع. وهكذا بدأ ميزان القوى يتبدّل، حتى وصل الى نوع من التكافؤ الميداني في الحرب الثانية (من آذار/ مارس ٢٠٠٥ الى نيسان/ أبريل من العام نفسه)، وكذلك في الحرب الثالثة (من تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٠٥ الى شباط/ فبراير ٢٠٠٦). وعندما بدأت الحرب الرابعة في العام الفائت تمكّن الحوثيون من السيطرة على عشرات المواقع العسكرية، بما فيها من معدّات، فيما فشل الجيش في تحقيق انتصارات وعجز عن حسم المعركة في مواقع عدة.
في الحرب الخامسة التي بدأت في مطلع أيار (مايو) الفائت تبدّلت الموازين، مرة أخرى، إذ نفّذ الحوثيون تهديداتهم بنقل المعركة الى محافظات جديدة، إذا لم تلتزم الحكومة اتفاق الدوحة، في الوقت الذي أعلنت الحكومة الحرب عليهم بحجّة عدم التزامهم هذا الاتفاق. وفي الأخبار غير الرسمية أن المعركة تدور في خمس محافظات إحداها محافظة صنعاء، وقد تطوّرت بشكل لم يكن يتوقّعه أحد، ويتوقّع الكثيرون أن تنتقل المواجهة، إذا هي طالت، الى قلب العاصمة، وإلى قصر الرئاسة بالذات في مراحل لاحقة.
والسؤال: كيف تطوّرت قدرات الحوثيين بمثل هذه السرعة حتى وصلت الى هذا الحجم؟
الجواب جوابان: الأول يتصل بدعم السلطة نفسها، أي حزب المؤتمر الشعبي العام لهم بعد حرب الانفصال، بقصد إقصاء التجمّع اليمني للاصلاح، والثاني الدعم الخارجي الذي تتقاطع المعلومات على أنه يأتي من إيران. فبعد خروج الحزب الاشتراكي اليمني من السلطة في أعقاب حرب الانفصال (١٩٩٤) انفرد حزبا المؤتمر والتجمّع بالسلطة، وتفرّغ كلّ منهما لتوسعة نفوذه وتقليص حجم الآخر. وفي سعيه الى التمدّد وضرب التجمّع عمل الحزب الحاكم على تعزيز مواقع «الشباب المؤمن» (التنظيم الحوثي)، الذي ظهر في تلك المرحلة على أساس حسابات قصيرة النظر تقول بمواجهة الإسلاميين بإسلاميين آخرين، من مذهب آخر. وبعد أحداث ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١، تبدّلت المقاييس وتحوّل الحزب الحاكم الى مناهضة «الشباب المؤمن» الذي رفع شعارات معادية للولايات المتحدة وإسرائيل، ووجد النظام نفسه في مواجهة «القاعدة» والحوثيين في آن، وسط تراكمات داخلية تتزايد بسبب نقمة الجنوبيين على طريقة الشمال في ممارسة الحكم. في هذه المرحلة بدأ نشاط تنظيم «الشباب المؤمن» يأخذ طابعاً عسكرياً وتوسّع في محافظة صعدة، ثم افتتح عدداً من الفروع تحت اسم الحوزات العلمية في محافظات أخرى بينها صنعاء، معتمداً على الموارد المالية التي كانت تصله من الخارج.
والحوثية، كما هو معروف، تنظيم عقائدي سياسي يسعى الى إحياء الإمامة من جديد، وهو منشقّ أساساً عن المذهب الزيدي، ويمثّل الشيعة أقلّيّة في اليمن ويغلب عليهم المذهب الزيدي. وحسب تقرير «الحرّيات الدينية في العالم» للعام ٢٠٠٦ الذي تصدره وزارة الخارجية الأميركية، لا تزيد نسبتهم على ٣٠ في المئة من عدد سكان اليمن الذين يبلغ عددهم ٢٠ مليوناً. وفي اليمن أيضاً شيعة إسماعيلية يشكّلون ٢ في المئة من عدد السكان. ووفق معلومات «الموسوعة البريطانية» يتمركز الزيديون في شمال البلاد، وبصورة خاصة صنعاء وصعدة وحجّة وذمار، في حين يتمركز الإسماعيليون في حراز وغرب صنعاء.
وتعود جذور حركة الحوثي الى ثمانينيات القرن الفائت، حيث بدأت دينية ثم تحوّلت الى مشروع سياسي. وقد أبدى حسين الحوثي اهتماماً كبيراً بتنظيم «الشباب المؤمن» وتفرّغ له تاركاً مقعده النيابي لأخيه يحيى بدر الدين الحوثي الذي كان بدوره على صلة وثيقة بإيران.
يبقى سؤال: هل إن الحسم العسكري ممكن في الحرب الخامسة؟
دخول القوّات الخاصة والحرس الجمهوري المعارك الأخيرة يحمل على الاعتقاد بأن النظام بدأ يستعمل كل الأسلحة التي يملكها، وهي ثقيلة ومتطوّرة. والروايات تتقاطع (في غياب البيانات الرسمية) على أن الجيش يعتمد أسلوب الأرض المحروقة في المواقع والقرى التي يتحصّن فيها الحوثيون، وهو يقصف القرى بعنف بعد إنذار سكانها بإخلائها. والتطوّر الأهم قد يكون إعلان المملكة العربية السعودية أنها تدعم صنعاء في وجه التمرّد، ولن تتخلّى عن اليمن في هذا الموقف العصيب، الذي يعطي دفعاً إضافياً للرئيس اليمني والحزب الحاكم. وبصرف النظر عن هذا الدعم، يقول الخبراء إن السلطة قد تستطيع محاصرة الهجوم الحوثي أو التضييق عليه، لكن إلغاء الحركة بات أمراً مستحيلاً، لأن الحوثية باتت، بفعل تجاربها، أكثر من تمرّد، وإنما حركة سياسية متجذّرة تستمد مشروعيتها من حكم الأئمة وتلقى دعماً خارجياً واضحاً وهي لم تعد قابلة للزوال.
يزيد على فرص الحوثيين في تسجيل اختراقات عسكرية وربما سياسية، أن الحزب الحاكم يجد نفسه في هذه المرحلة محاصراً بين الشمال والجنوب، وبعد ثلاثين عاماً على وجوده في السلطة ـ وهو رقم قياسي لم يبلغه من الرؤساء العرب الحاليين إلا معمّر القذافي ـ يجد الرئيس علي عبد الله صالح نفسه في خضم إعصار له ثلاثة مصادر: الأول هو التمرّد الحوثي الآخذ في الاتّساع، الثاني الحركات الجهادية (جند اليمن بصورة خاصة) المرتبطة بالقاعدة التي نفّذت مجموعة عمليات كبيرة خلال الأشهر الأخيرة، والثالث هو التوتّر الحاصل بين الشمال والجنوب بعد ثماني عشرة سنة على توحيد اليمن وأربعة عشر عاماً على حرب الانفصال. وعلى خلفية هذا التوتّر تفجّرت احتجاجات بالجملة في الفترة الأخيرة من قبل الضباط السابقين، خصوصاً في عدن والضالع وأبين ولحج وشبوة وحضرموت، وساهم في إذكائها ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمحروقات، الأمر الذي يحمل على الاعتقاد بأن السنوات المقبلة من عهد صالح لن تكون هادئة.
ويسجّل الجنوبيون على النظام، بصورة خاصة في تعز وأب والحديدة والبيضاء ومأرب، أنه يبالغ في احتكار السلطة ولا يراعي متطلّبات الوحدة بين شطري البلاد، ومن بين الدلائل التي يستندون إليها:
ـ إصرار النظام على عدم السماح لأبناء الجنوب المسرّحين من الجيش بالعودة الى عملهم في القوّات المسلّحة.
ـ استبعاد الجنوبيين عن المواقع السياسية والديبلوماسية والادارية العليا.
ـ استحواذ الأقلّيّة الزيدية بقيادات عليا في الجيش والادارات الرسمية على حساب الجنوبيين.
وفي اعتقاد فريق واسع من المراقبين أن ثورة الحوثيين مرشّحة للاستمرار، وأن السلفيين بقيادة حزب الاصلاح يشكّلون بدورهم قوّة ضاغطة، وأن استمرار عدم التجانس بين قوى الشمال، واستمرار النقمة في الأوساط الجنوبية في ظلّ النفوذ القبلي والتشرذم المذهبي والمناطقي، يشكّلان خطراً على الوحدة إذا قدّر للمواجهة المسلّحة أن تتمدّد الى مناطق جديدة
(المشاهد السياسي)