لنقل بدايةً لقد أخفق العلمانيون الأتراك في معالجة قضايا الأقليات وبخاصة حل قضية الشعب الكوردي أكبر الأقليات القومية في البلاد وفق المعايير الديمقراطية بحيث استمرت هذه الإشكالية الإنسانية عالقة في فضاء التجربة العلمانية عسكرية الطابع والذي لبَّدته الغيوم الراعدة طيلة الوقت فتساووا في ذلك من دون أدنى شك مع حكام الأنظمة الأخرى غير العلمانية إسلاميةً كانت أم شبه إسلامية من حيث أن الجميع تنكروا للحقوق القومية التاريخية للطيف الكوردي واحتكموا فقط إلى العنف، والتهجير، والإقصاء، في محاولة واهمة لإطفاء شعلة الكفاح المتواصل التي أوقدتها الأحزاب والمنظمات الكوردية ولا تزال..! وقد ترتب على هذا الفشل العسكري العلماني اتساع دائرة التيار العنفي المطالب بالانفصال واستمرار الصدامات المسلحة الدامية وذلك على حساب التيارات العقلانية التي بقيت عند حدود الحل الديمقراطي المواطني في إطار وحدة الأرض التركية..! لكن، من تبسيط الأمور اعتبار ما واجهته العلمانية التركية من إشكاليات معقَّدة بمثابة فشل للخيار العلماني إذ يجب عدم نسيان أن تركيا كانت دولة دينية نموذجية وهي ظلَّت على مدى قرون مقراً للخلافة الإسلامية بما يعني هذا من تجذر مديد للثقافة والفقه الإسلاميين وقيمهما المتوارثة منذ أن تخطَّ المسلمون حدود الحجاز وحتى اليوم..! وعلى هذا الأساس، ظلَّت حقيقة انتصار العلمنة في العرين الإسلامي العثماني غير قابلة للهضم من الجيران أولاً ومن الآخرين ثانياً..! وهي ستظل كذلك من واقع استمرار ثقافة وفقه الدين الإسلامي كناظم مؤثر بدرجة فائقة في حياة المجتمعات الإسلامية وهو حال بقية الأديان وإن بفعالية أقل بكثير وذلك عائدٌ إلى خصوصية الدين الإسلامي المتعلقة بجدلية الدين والدولة وهو ما كان عليه واقع المسلمين منذ نشأتهم وإلى سقوط الخلافة الإسلامية..!
الصيادون في الماء العربي العكر وهم مستلبون دينياً بالرغم من اليافطات النظرية الجريئة التي يرفعونها كما تظهر حقائق ممارساتهم الحياتية الاجتماعية، سينتهزون الفرصة التركية الحالية ليصوبوا سهام مثاقفاتهم السياسوية والتي ظلّت طائشة منذ بداية عصر الاستقلالات الوطنية، باتجاه العلمنة التركية الفاقدة بنظرهم لسياقات واستحقاقات تتطلبها العملية الديمقراطية فيما خص مسألة الحريات الفردية التي يقتنصونها وهي هنا لا تزيد عن مسألة الحجاب دون أن يتوقفوا لبرهة ليقولوا شيئاً عن هذه الحريات الفردية التي غيِّبتها كوابح التدين والفقه والشريعة التي يحيلونها أولاً وأخيراً إلى الله وأوامره المطلقة وهو تغيِّيب تظهره قواميس وأجندات الإسلاميين وأحزابهم أينما وجدت الصناديق الانتخابية التي أحبوها بعد أن باتت المعبر السالك الوحيد باتجاه السلطة الدنيوية التي يبتغونها…!؟ ويرى عشاق الديمقراطية النقية الخالصة لوجه الله.. والملازمة شرطياً للعلمنة، في وجود الحدود الدستورية والقضائية الناظمة والكابحة للتأثير السلبي الارتدادي المتوقع لثقافات الأديان كل الأديان.. وللمانعة الربانية بلبوسها الأرضي، نكوصاً للعلمانية التي يغضّون النظر عمداً عن انجازاتها المحققة على الأرض..!
لا شك أن مسألة الحجاب ستكون محض حرية فردية مثل أي زي آخر لو لم تكن المرجعية في ذلك أوامر ونواهي دينية أو فقهية تجرِّم السفور وتحرِّمه فتنعدم هذه الحرية عند الكلام عن الأزياء الأخرى الأمر الذي يعني أن الخطوة الأولى في أجندة الإسلاميين المتمثلة بإشاعة الحجاب في المؤسسات التعليمية والحكومية العامة قد يلحقها في الوقت المناسب الخطوة الثانية المتمثلة بتعميمه في كل مكان..!
الحقيقة المسكوت عنها هاهنا، تتحدد في المضادات الحيوية المتوفرة في الثقافة الإسلامية السائدة، والممانعة الفقهية لاستحقاقات الحداثة والمدنية الأمر الذي يملي على العلمانيين في المجتمعات الإسلامية التعويل وحتى إشعار آخر على حراسة بذارهم من خارج الصناديق التي كان الإسلاميون إلى الأمس القريب يجهلونها، أو ينكرونها، أو يحرِّمونها..! واليوم، باتوا يعشقونها، ويتغنون بها عند كل آذان يرفع وشمس تغيب..!؟ لكن، يبقى سؤال لا مندوحة منه عن صحة تعميم المعايير الديمقراطية حيثما وكيفما كان هذا إذا ما تذكرنا النسب المتواضعة للمشاركة المجتمعية في عمليات الانتخاب في معظم الدول المتقدمة بالرغم من الجهود الضخمة والأموال الوفيرة والبرامج المثيرة في حين تكفي فتوى دينية واحدة في المجتمعات الإسلامية كي تندفع جماهير الناخبين إلى صناديق الانتخابات حالاً بالاً ومن دون كيف.. ولماذا…!؟