هل انتهى عصر البحث التقليدي عن الجواسيس الذين يخدمون جهات معادية للعرب؟
هل الجاسوس هو فقط الذي يتبرع بمعلومات عن صفقة أسلحة، أو تغييرات في المناصب، أو زيارات سرية يقوم بها مسؤولون حكوميون؟
في الواقع فقد اختفت تقريبا الأساليب المشار إليها، وأصبح الجاسوس الآن منافسا للوطنيين، ومثقفا يلقي محاضرة عن خطر الاستعمار، وإعلاميا مرموقا يتم تكريمه على مرأى من جمع غفير يصفقون له حتى تدمى أيديهم.
إنه ليس بالضرورة نسخة كربونية من إيللي كوهين، أو هبة عبد الرحمن سليمان أو عزام عزام أو ليفي افرايم أو هشام محجوب أو فارس مصراتي أو سمحان مطير أو سمير عثمان أحمد، لكنه نوع جديد تماما يناسب العصر، ويؤدي مهمته تبرّعا دون أنْ يتلقى في كثير من الأحيان الأوامر أو أدوات التجسس أو الحبر السري أو مظروفا به أجر الخيانة مع نزهة باريسية وسهرة حمراء في المولان روج.
الجاسوس الجديد لا يعمل بالضرورة لحساب إسرائيل، لكنه متطوع بكامل رضاه ووعيه لجهة قد تبدو ظاهريا وطنية، وفي الحقيقة هي سلطة قمعية تمثلها بعثات دبلوماسية لا يدري المرء إنْ كانت إمتدادا للسجون والمعتقلات أو هي فرع أنيق ودبلوماسي لجهاز أمن الدولة.
كوهين الجديد قد يكون موظفا في فندق في الخليج يتبرع لسفارة بلده بمعلومات كاملة عن ضيوف الدولة، وعن تحركاتهم ولقاءاتهم ومضيفيهم وكيفية الحجز وأسماء الموظفين والعاملين لدى المضيف، خاصة إن كان يحتل مركزا رسميا وقياديا.
إنه عين البعثة الدبلوماسية التي لا تحتاج لكتيبات صغيرة تجمع ما فيها من معلومات، إنما هي مهمة بعض موظفي الفنادق، فيكتبون التقارير أو يبلغونها هاتفيا، ولك أن تتخيل هذا الكم الهائل من المعلومات الذي يتدفق على المؤسسات الأجنبية والهيئات والبعثات الدبلوماسية حتى لو أرسلتَ من غرفتك إلى غرفة أخرى مظروفا به رسالة أو كتاب، فكوهين الجديد قادر على ايصال المعلومة لسفارة بلده قبل أن تستيقظ من نومك أو تبدأ أولىَ لقاءاتك.
وقد يكون إعلاميا وطنيا مكرّما من أكبر مضيفيه، وتتفتح له الأبواب، ويُلقى محاضرة في مؤتمر أو ملتقى أو اجتماع فتظن للوهلة الأولى أنك أمام مناضل جهادي يستعد لتفجير نفسه في موكب لمدرعات العدو، فإذا به مكلّف بتقرير يقدمه لأمن الدولة فور عودته لمطار عاصمة بلده.
إنه الإعلامي الجديد الذي يمسك القلم ويفكر في السلطة، ويخط كل حرف وذهنه منشغل بضابط الأمن الذي سيبتسم في وجهه، وربما يقوم بحمايته إنْ غضب عليه رئيسه المباشر.
سألت سائقي في إحدى مرات زياراتي السنوية عن بعض أعداد مجلة ( طائر الشمال ) التي كانت في السيارة، فلم يتلعثم أو يتردد، لكنه قال بوقاحة: لقد أرسلتها إلى سعادة السيد سفير بلدي هنا لكي يطّلع عليها!
سألت صديقا عزيزا ومدير تحرير صحيفة عربية عن هذا الهلع الذي أراه في عيون زملائنا في السلطة الرابعة وهم يجتمعون بعيدا عن الوطن وفي عيد وطني لدولة عربية شقيقة، فقال لي بصراحة أدهشتني: إننا نكتب التقارير ضد بعضنا، ونتوجه فور العودة كل إلى ضابط الأمن المكلف به تلقيّاً وحماية، حتى لو تناول أحدنا طعام العشاء مع معارض في الخارج.
وكوهين الجديد ترتعش أوصاله، وتكاد تنكسر مفاصل ركبتيه إنْ أعطيتَه كتابا يقرأه وفيه مناهضة لسلطات بلده، فهنا تصبح صاحبة الجلالة .. السلطة الرابعة أكثر هشاشة من ورقة شجرة تسقطها نسمة خريف رقيقة.
إنه لا يكتفي بالفزع من الروح الأرنبية المترسخة داخله، لكنه يفكر في موظفي الفندق فكثيرون منهم سيوقظون سعادة السفير من فراشه الدافيء، وربما يفكر الإعلامي بأن تقرير السفارة سيقع بين يدي جهاز الأمن في بلده قبل أن ينبلج صباح جديد.
عندما تتسلم مفتاح غرفتك في الفندق، ويبتسم لك موظف أنيق ومهذب ويكاد يُقَبّل يديك من أدبه الجمّ، فتأكد بأن صورة جواز سفرك قد وصلت لسفارة بلدك قبل أن تشاهدها جهات أمن مضيفك الكريم.
تخيل موجات متدافعة من المعلومات عن مؤتمر عسكري أو أمني أو زيارة مسؤولين أجانب لم تعلنها الصحافة، ويعرف تفاصيلها موظفو الفندق وكوهينوه الجدد!
بعض الدول العربية الثورية تعتمد اعتمادا كبيرا على موظفي الفنادق في دول الخليج وعلى إعلاميين كبار، مقيمين أو زائرين، يتولوّن مهمة غير شاقة، بل يستطيعون أن يُحصوا أنفاس الزائر منذ وصوله إلى مغادرته.
إنهم هجين جديد مكوّن من لقاح أمني مع آخر إعلامي بنكهة دبلوماسية.
( رَجُلنا في دمشق ) كتاب عن إيللي كوهين قرأت ترجمته النرويجية منذ ربع قرن، والآن يمكنني أن أستعير نفس العنوان فتقول: ( رَجُلنا في الفندق ) أو ( رجلنا في الملتقى الإعلامي )!
كنت لفترة طويلة أخشى التواجد الآسيوي الكثيف وأعتبره أكبر خطر يحيق بخليجنا العربي، بل لقد خشيت أن يتحول هؤلاء إلى ذراع طويلة لبلادهم الآسيوية التي تضيق بسكانها وفقرها الأرض بما رحبت.
الآن أخاف على خليجنا من الكوهينيين الجدد الذين باضتهم دجاجة الأمن، وفقستهم سفارات بلادهم.أخاف على خليجنا العربي من إعلاميين ووشاة يهمسون في آذان مضيفيهم كما يفعلون مع أجهزة أمن بلادهم، فيقومون بــ ( تطهير ) خليجنا من زائرين وأصدقاء وعشاق له، لكي تتفتح لهم أبواب جديدة، ومجالات أرحب لكل أنواع الوشاية الدنيئة.
إنهم لا يقلّون خطرا عن جواسيس الأعداء الذين أشرنا إليهم، فهم من لحمنا وديننا وعروبتنا ويتحدثون لغتنا، لكنهم يضمرون لنا كراهية حقنتها في صدورهم مشاعر الخوف من السلطة، والرغبة في التعاون معها ضد أبناء وطنهم.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
وسلو النرويج