لا أضن إن هناك شخص عاقل لا يعي إن الولايات المتحدة الأمريكية غزت العراق ظلما وبهتانا تلبية لمصالحها التي تتشعب بعدة اتجاهات فتبدأ بحاجتها لبسط نفوذها على ثروات العراق والمنطقة لإنقاذ اقتصادها المتهاوي مرورا بالهستريا والرعونة التي طغت على سلوك رئيسها المصاب بهلوسة الحروب والعظمة بوش الصغير ولا تنتهي عند ضمان امن الكيان الصهيوني الذي يعتبر العراق اكبر المصادر التي تهدده وتشكل خطورة على وجوده , وبذلك فهي قد عبرت عن حقدها لا على العراق وأهله أو العرب أو المسلمين فحسب , بل إن سياستها التي اتـّبعتها في العراق قبل وبعد عدوانها الهمجي تدلل على النزعة العدوانية التي عاشت في مخيلة الإدارة الأمريكية لعقود من الزمن فعبرت عنها بالطريقة التي سارت عليها الأحداث , وحيث إن نزعتها تلك صورت لها إن جيوشها الغازية ستستقبل بالورود معززة بما كان يروجه لها عملائها الذين جاؤوا يهرولون مع دباباتها بدعم الفرس على أن العراقيين ينتظرون بوش منقذ آخر الزمان والمحرر والفاتح , وخلافا لإرادة المجتمع الدولي الذي تعرضت منظمته لأكبر كذبة في التاريخ حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل والإبادة الجماعية التي اعترفوا بعدم وجودها , فاندفعت وراء تظليلها لنفسها وللعالم كله فكانت النتائج على النحو المعروف الآن , وما أن انقشع غبار المعارك حتى وجدت نفسها في مأزق رهيب وخطر أهون مخلفاته أن يمرغ انف قادتها وغطرستهم في وحل أقسى هزيمة في تاريخهم القذر ولا تنتهي آثارها في المنظور القريب إلا وقد أصبحت الهيبة الأمريكية كأكبر قوة في الكون اثر بعد عين بفعل الضربات العنيفة والدقيقة التي يوجهها رجال المقاومة الصناديد .
إن المجتمع الدولي بما فيه الأمريكي أصبح يمقت بوش ويستهجن فعله الإجرامي بما فيه حلفائه الذي اصطفوا معه في بداية عدوانه على العراق إلا من حقق أطماعا معينة كالفرس أو الصهاينة أو العملاء , لذلك فقد أصبحت الإدارة الأمريكية تفتش عن منفذ للخلاص من ورطتها يحفظ لها ماء وجهها الذي أصبح أكثر من مبتذل ويبقي لها ولو بقدر قليل من المحافظة على مصالحها في المنطقة خصوصا مع نهاية فترة حكم بوش , فاذا حاولت بادئ الأمر إشراك الدول الإسلامية في العدوان لتبدوا الحرب كأنها تتصف بالشمولية الدولية وتعطيها قدرا معين من الشرعية , وبعد أن فشلت ولم تجد من تريد باستثناء الفرس الذين تحالفوا معها , حاولت استخدام نفوذها في دعم حكومة الاحتلال دوليا وعلى اقل تقدير الحصول على تمثيل دبلوماسي كما حاولت الضغط على الدول العربية التي تتمتع بصداقة وثيقة معها وتحظى بتأثير ونفوذ بين الأقطار العربية ولكنها تراجعت أمام ضغط الشارع العربي الرافض لأي شكل للتعاون مع حكومة الاحتلال التي عززت الفعل الأمريكي من خلال رعايتها للمليشيات الطائفية .
وإزاء كل تلك المعطيات فلماذا تتمسك الولايات المتحدة بالعراق رغم خسائرها الجسيمة ماديا وبشريا ؟
على الرغم من طموح رئيسها بوش الصغير إلى تحقيق شيء متميز في التاريخ الأمريكي الأسود سلبا أو إيجابا إلا إن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تخضع لإرادة الشركات واللوبيات الاقتصادية والتي تحكم السيطرة عليها الرساميل اليهودية الصهيونية التي تدفع بها إلى توسيع دائرة نفوذها في العالم خصوصا بعد انفرادها بالحصة الأكبر في القرار الدولي لضمان مصالحها ومصالح مدللتها الكيان الصهيوني وأمنها , وطبعا من بين مناطق النفوذ المهمة بالنسبة لها منطقتنا العربية وبالتحديد منطقة الخليج العربي التي تتنوع المصالح فيها , فالمصالح الإستراتيجية التي تكمن في الحيلولة دون خضوع المنطقة لقوة عالمية أو إقليمية منافسة لها , وحتى إن سمحت للفرس بتوسيع دائرة نفوذهم وتمددهم في العراق فضمن حدود تسمح بها هي وهذا ما يبرر اعتقالها بين الحين والآخر للبعض من قادة الحرس والمخابرات الفارسية الذين يتجاوزن الخطوط الحمر التي وضعتها لهم , كما إن الولايات المتحدة الأمريكية مصالح متعددة اقتصادية في المنطقة من بين أهمها ضمان تدفق النفط إليها والى حلفائها وضمان عدم استخدام العرب لهذا المعدن المهم كسلاح وأداة ضغط كما حصل إبان معارك العرب مع الكيان الصهيوني في تشرين 1973 , وتبرز أهميته أكثر خصوصا إذا أدركنا إن مخزون النفط الأمريكي الاحتياطي باتجاه النفاذ القريب وهي تستورد غالبية ما تستهلك منه من الخارج لتغطية الحاجة المحلية .
أما مصالح الولايات المتحدة الأمريكية السياسية فتكمن في ضمان امن مشايخ الخليج العربي التي تدرك ضعفها , فتحرك بين الحين والآخر الفرس للتلويح بشعارات فضفاضة مفادها إن الضفة الغربية للخليج العربي فارسية بعد أن أغرقتها بملايين الفرس الذين يتغلغلون في بادئ الأمر كايدي عاملة أو كرؤوس أموال مؤثرة في الأسواق المحلية أو من خلال إثارة الفتنة الطائفية كما يحصل في إمارة الكويت, وتطالب كلما دعت الحاجة الأمريكية بعائدية تلك المحميات إلى الفرس كما حصل مع الجزر العربية الثلاث التي استولوا عليها في مطلع سبعينات القرن الماضي أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى , أو كما يطالب الفرس بضم البحرين إليهم بإجراء استفتاء شعبي , لذلك فان هذه المحميات تبنت سياسة الاعتماد عسكريا على الولايات المتحدة الأمريكية حيث أصبحت ترتبط معها بعلاقات خاصة تعتمد الحماية مقابل المال فضلا عن مصالح اقتصادية يرتبط بها الطرفان عبر علاقات خاصة تخدم المصالح العسكرية في جعل تلك المشايخ مناطق صالحة للتدخل المباشر أو التأثير بصيغ غير مباشرة في سياساتها بالإضافة الى ضمان تدفق النفط لإنعاش الاقتصاد الأمريكي من خلال الاستثمارات المالية , خصوصا وكما هو معروف انه أصبح يعاني من مشاكل حقيقية , وبسبب من التقاء المصالح المشتركة صارت العلاقات بين الطرفين ومنذ فترة طويلة تنبني على معادلة قوامها حماية الأمن الذاتي للنظم السياسية في منطقة الخليج العربي مقابل تأمين المصالح العسكرية والاقتصادية والسياسية الأمريكية في هذه المنطقة وكذلك امتداداتها .
لقد فشلت الولايات المتحدة الأمريكية في إيجاد قيادة متوازنة تحكم العراق بالنيابة عنها وتؤدي لها وتحمي مصالحها أعلاه في نفس الوقت الذي تعبر عن التغير الذي كانت تعلن إنها ستحققه فبعد دخولنا في العام السادس على الغزو , وعلى الصعيد المحلي لا ديمقراطية قد تحققت وحكومة مستقرة ولا خدمات متوفرة وارتفاع حاد في نسبة البطالة لم يشهد لها القطر في تاريخه مثيل وبنفس الحدة فساد إداري ونهب مستمر للثروات الوطنية مقابل شبه انعدام للخدمات الضرورية كالماء والكهرباء والصحة والتعليم والعودة بالقطر الى سنوات الجهل والأمية أما على الجانب الأمني فلك أن تتحدث بما تشاء فلا احد يستطيع أن يعبر بدقة كاملة عن دور المليشيات التي يرعاها الفرس وحكومة المليشيات في عمليات التصفية الجسدية التي طالت ما يقرب المليونين من المواطنين الأبرياء يقع بضمنهم النخبة الوطنية من العلماء وأساتذة الجامعات والكوادر المثقفة وتهجير أضعاف ذلك في داخل البلد وخارجه حسب الطائفة أو العرق.
أما على صعيد الإستراتيجية الأمريكية فلم تستطع أن تنجز ما كانت تصبو إليه , فقد فشلت في تقسيم العراق الى كانتونات هزيلة ضعيفة فلا زال القطر وسيبقى يمتلك يدا حديدية ضاربة عجز الجبروت الأمريكي عن شلها بدلالة الآلاف من قتلى جيوشهم الغازية ولازالت المبادرة بيد المقاومة العراقية الباسلة في تحديد زمان ومكان المعارك الأمر الذي يعني إن امن الكيان الصهيوني لن يتحقق ما دام العراق طرفا مهما وفاعلا في قضية العرب المركزية فلسطين .
إذا كانت المعارك العسكرية على جسامة التضحيات التي تقدمها المقاومة العراقية الباسلة للتفوق الواضح في الآلة العسكرية الحديثة والمتطورة مقابل الاسلحة العراقية الخفيفة في نوعيتها والثقيلة في مبادئها وعمق إيمان من يحملها من الرجال الأشداء, لم تحسم النتائج لصالح العدوان وإدارته على كل الصعد , فمن البديهي إن باقي أهداف العدوان لم ولن تنجز ابتداءا من الفدرالية التي اقرها دستورهم سيء الصيت ويضغط آل الحكيم بدعم الفرس وما يمتلكون من نفوذ طائفي لتحقيقها باستثناء المنطقة الشمالية للظروف الكردية المعروفة , وقانون الغاز والنفط وضع جانبا بينما تضغط كل الإمكانيات والسياسات الأمريكية من اجل تمرير معاهدة بوش – المالكي التي تعتبر إحتلالا أمريكيا بعيد الأمد للعراق يترتب عليه شرعنة تحقيق أهدافها التي تليها .