محمد عبد المجيد
مَرَّ تقريباً شهرٌ ونصفُ الشهرِ علىَ الثلاثاءِ الأسّوَد الذي اصطدتني فيه، وحاولتَ احراقي
محمد عبد المجيد
مَرَّ تقريباً شهرٌ ونصفُ الشهرِ علىَ الثلاثاءِ الأسّوَد الذي اصطدتني فيه، وحاولتَ احراقي واغتيالي على الهواء، ثم سعيتَ إلى دفني في نهاية الحلقة، في رسالة واضحة وصريحة لكل أجهزة القمع والقهر في العالم العربي بأنك أديّتَ إليهم خدمة ستكون لصالحك في أعناقهم، أفرادا ومجتمعين.
أعترفُ لك بأن الأسبوعين الأوليّن بعد جريمة برنامجك مَرّا كأن جبلا من الحزن والهَمِّ والغضب كان يضغط على قفصي الصدري، ومن عادتي أن أجد لمن يُسيء إلى مِنْ عذرٍ واحدٍ إلى سبعين عذرا، أما في الثلاثاء الأسود فلم أعثر لك إلا على سبعين ذنبا لا يستطيع الزمن أن يُحَرّكها من مكانها قيد شعرة.
أستعيد كل دقائق اليوم المشؤوم، فتزداد علاماتُ الاستفهام أضعافا مضاعفة!
كيف تحوّلتَ من شخص وديع قبل البرنامج إلى مساعد أول طاغية أو جلاد لمستبد أو مفترس لصالح سيد القصر؟
كأنك ذاكرتَ الدرس مئات المرات، وحفظته عن ظهر قلب، وتم اجراء امتحان في جهاز أمن الدولة عن كيفية ارباك ضيفك، وقطع حديثه، واقتطاع كلمات في نهايات الجمل الاستئنافية قبل أن يكملها، والاستهزاء به، والسخرية مما لديه، وحجب أي فرصة على توثيق وإذاعة معلومات وبيانات وأسماء و ….
أتذكر تعبيرات وجهك بعد البرنامج وأنت تريد إيصال رسالة أمامي ليسمعها اللواء .. الضيف الآخر، وكأنها شهادة وفاة لينقلها عنك إليهم، حيث استلقوا جميعا على ظهورهم، في مكاتب الاستخبارات، ضحكا وفرحا وغبطة من مصر إلى ليبيا، ومن تونس إلى الأردن، ومن سورية إلى العراق، ومن السودان إلى الجزائر، فقد ضمنتَ لنفسك قاعات كبار الزوار، ونياشين تستقبلك، ونجوما تتراقص فوق أكتاف مضيفيك.
ولكن كيف كانت ليلتك الأولى بعد عودتك إلى فراشك الدافيء في عاصمة المصالحة اللبنانية؟
ألم يقرعك ضميرُك؟
ألم يؤنّبك ولو للحظات خاطفة عن عملية بيع إعلامي زميل على الهواء؟
المفاجأة التي لم تكن أنت تتوقعها جاءت من هؤلاء الأشراف، وحتى ممن يلمسون الشرف بأطراف ضمائرهم، فقد غضبوا عليك، ونزعوا ثقتهم عنك، ورأى كثيرون منهم أنك كنت كمن أخطأ الرصاصة فلم يقتل ضيفه، لكنه أصاب ( الاتجاه المعاكس)، فأعطوك ظهورهم، وتغيرت ملامحك في أذهانهم وفي مخيلاتهم.
كيف طاوعتك نفسك أن تختار زميلا لك، وتمارس معه أمام الملايين ما يفعله ضابط الأمن ومرشد السلطة وسجّان الرأي، فتقطع لساني ثم تطلب مني الحديث، وتكتم فمي لتصيح مستهزئا بأن ضيفك صَكَّ وجهه، وتلعثم لسانه، وفقد القدرة على الحديث؟
أين كانت أخلاق الإعلامي المتمرس، والمثقف المستنير، خاصة وأنك لا تحتاج لمزيد من المال أو السلطة أو الحماية، ولا يقترب منك سوط، ولا يتوعدك كرباج، ولا تتهددك قائمة بالمترقب وصولهم إلى مطار بلد عربي؟
بقدر ما كان جبل الحزن وجلد الذات والغضب عاليا وثقيلا، بقدر ما فتحتَ لي كوة صغيرة، كبرت مع الوقت لتستخرج تحديات كانت كامنة داخلي، وأفكارا لم تدر بذهني، واصرارا أن الهزيمة بداية الوقوف من جديد.
وانتهيت من عدد جديد من (طائر الشمال)، وخرجتُ إلى فضائية في بلجيكا أتحدث عن السجون والمعتقلات، وفتحتُ لنفسي نافذة على النت في شرائط مصورة لتكملة رسالتي عن عالم الأبرياء المنسيين والمختفين والمعذبين في أقبية تحت الأرض (التي تتكلم عربي)!
وفي ذهني عشرات من الأفكار التي تتزاحم لتفوز كل منها بالخروج إلى النور، وتعافيت تماما من الثلاثاء الأسود، لكن حيرتي عن رد فعل ضميرك لا تزال كما هي.
صحيح أن الوجع كان شديدا ومحرجا لأحبابي وأصدقائي ومعارفي وأهلي.
وصحيح أن البعض عاتبني عتابا شديدا، وبعض البعض تهكّم وسَخَرَ، واعتبر الحلقةَ اختبارا يرسب فيه من لا يصيح، ويقاطع الآخر، ويسابق لسانُه فكرَه، وتلوّح قبضة يده في الهواء، ويهددك بالانسحاب على الهواء.
لكن سعادتي كانت تحملها مفاجأة المفاجآت، فقد تلقيت رسائل دعم ومحبة وتعاطف وتأييد، رغم أدائي الذي قارب الصفر أو أدنى، فلم تكن لتنطلي عملية الذبح البارعة على أكثر مشاهديك، بل ومحبيك أيضا.
اتصل بي مثقف كبير، وسياسي محنك قائلا: أمْا أن الدكتور فيصل القاسم باعك على الهواء، فهذا لا يشك فيه حتى من يملك من الفكر ذرة، ومن الفهم أقل منها!
لكن لمصلحة مَنْ قام بعملية البيع والقتل والحرق، بل والدفن التي أعلنها في نهاية الحلقة، فذلك ما لم يحط به صديقي علما؟
اكتشفت عالما رائعا وجميلا من المحبين الطيبين الذين ناصروني، وساندوني، وشدّوا من أزري، ومنحوني كلمات دافئة لو أنك، المنتصر، تلقيتَ قليلا منها لأسعَدَتْك ما بقيّ لك مِنْ عُمْر.
هل تصدق أنني لم أشاهد (الجزيرة) بعد عودتي إلا كلمح البصر أو أقل، فحتى شعارها اختلط في ذهني بالثلاثاء الكاذب، والغريب أن كثيرين أبلغوني أنها نفس مشاعرهم، وأنهم لم يعودوا قادرين على تصديقك.
لم أتمكن من الاجابة على سؤال متكرر طرحه كثيرون: لماذا ظهر الدكتور فيصل القاسم بعد أقل من خمس دقائق كأنه يحمل لك كراهية دفينة، أو كأنه يتوعدك بمصير لا يختلف عن مصير كل من جئت تدافع عنه؟
ترى هل سيأتي الوقت الذي يجبرك فيه ضميرك، ربما في لحظات نادرة من السمو الروحي، أن تقف في اتجاهك المعاكس، وتعتذر عن تلك الجريمة، ولا تأخذك العزة بالإثم؟
بين الحين والآخر، ولو طال الزمن، وعندما أشعر أن الجريمة في طيّ النسيان، ساقوم بتذكيرك مطاردا ضميرك وأخلاقك لعلها تصادف مِرّة واحدة أسمى قيم الحياة .. الاعتذار عن أم الجرائم، عندها قد أسامحك. أما الثلاثاء الكاذب فغير قابل للنسيان!
الاستماع والمشاهدة
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج