عبدالجواد خفاجى
1 ـ ضد الفوضى:
“عزت الطيري” صوت هادر بالشعرية، يبدأ من توت القرى حتى الأنجم السَّكْرَى، له حضوره المميز منذ منتصف السبعينيات، كنَفَسٍ شعريٍّ ممتدٍّ بغير انقطاع، عبرَ كل الدوريات الناطقة بالعربية في العالم أجمع، وعبر مساحة اثني عشر ديوانًا أو تزيد، وإن كانت الدراسات التي تناولت تجربته أقل من أن تُحصى، شأنه شأن كثير من أدباء الجنوب المصري المؤْثِريِنَ البقاء في قراهم ونجوعهم، يغترفون زادهم الشعريِّ شجواً وشجناً ولحناً هادئاً سادراً في سماوات الريف، صاعداً مع عبق الطبيعة وبخرها، وشدو أطيارها إلى آفاق لا يلوثها هدير المُوتورات ، وأبخرة الرصاص .. من هنا يبدأ، بعيداً عن تشابكات المدينة، وآلاتها، وضجيجها، وقلقها.. ربما لهذا تكتسب هذه الأصوات عبقاً يخصها وحدها، وأريحية لا تُضَاهَى في دقتها، ومثابرتها وشغفها بالتأمل المستغرِق في دقائق الحياة حولها، المستوعب لأدقِّ تفاصيلها وعلاقاتها.
نشرت له بآخرةٍ هيئة الكتاب المصرية ديوانين، أولهما: “على طريق الريح” الذي يقع في تسعين صفحة، ويحوي تسع عشرة قصيدة، غير ما يحويه من القصائد التي تَميَّز بها الطيري، وثانيهما “السفر إلى الشمال” وهو يحوى ” مختارات” من دواوين الطيري السابقة.
ويستوقفنا ـ بداية ـ في تجارب الديوانين قدرة الشاعر على التقاط المفردات وتوظيفها، ورصفها بدقةٍ ومثابرة، مؤكداً مقولة أن الكلمة عند الشاعر عالم صغير يخدمها بدلاً من أن يستخدمها، ومقولة أن الشاعر يستخدم اللغة استخداماً جمالياً إلى جانب استخدامه لها استخداماً نفعياً، وأنه يراعي في كتاباته معايير حِرَفيَّة تتعلق بالمثابرة والدقة والإتقان إلى جانب المعايير الفنيَّة الأخرى التي تتعلق بعملية الإنشاء، وأسلوب الكتابة.
وثمة ما نلحظه في تجربة الطيري ـ بما يعد توسعاً في استخدام المجاز ـ هو تركيزه على التقاء ما لا يلتقي، إذ تلتقي المفردات المألوفة تماماً والمتباعدة عن بعضها في واقع الحياة، تتلاقى وتتآلف ـ رغم تباعدها ـ لتعطي تشكيلاً خميلياً منسَّقاً يبعث على الدهشة ؛ فما الذي يجمع بين مفردات من عينة: “هديل، غيمة، لوز، نار، جنون” غير تشكيل مثل: ” بعُنَّابها / ستمرُّ الجميلة ، / مثقلةً، / بهوى السوسنة .. / يحيط بها مطرُ من هديلٍ / وتحرسها / غيمةُ مثخنةُ .. / ويسبقها قمرُ / بالحنين، / يلون خطوتها اللينة!! / بعُنَّابها / وبلوز الجنون، بنار المسافات / والأزمنة .. ” ( على طريق الريح ـ صـ 8 ) .
وثمة قدرة على الرصف والنظم إذ يُضفى على هذا التشكيل موسيقاه .. هنالك يبدو كل شيء طازجاً، يتولَّدُ من مخيِّلة مضمخة بالشاعرية، وهنالك تبدأ الكائنات عزفها، إنه عالم عزت الطيري الشعري.. عالم بكر، مدهش، عازف، يُداخِلُ النَّفْسَ من حيث تدري ولا تدري بسحريته، وبكارته، وأريحيته، واتساعه، ومنمنماته الصغيرة المنسقة .. وربما لذلك هي شاعرية ضد الفوضى.
“عزت الطيري” الذي اعتادته الأوساط الأدبية رائداً للفوضى يقف ضد الفوضوي إذ يُخرِج للوجود قصيدته، تماماً كالنحلة التي تدهشنا بطيرانها الفوضويّ، أو ربما العشوائيّ من زهرة لأخرى، لكنما قد نغير أحكامنا عندما نفاجأ بهندسة بيتها وتنميقاته، بما يصنع دهشة أخرى .. هكذا هي القصيدة عند عزت الطيري : نظام هندسيّ منمق، يقف ضد العشوائية والفوضى من جهةٍ، ومن جهة أخرى يقف مشحوناً بالشهد/ القيمة الجمالية والرؤيوية، وربما لهذا تبدو القصيدة عند الطيري قضية القضايا.
فكثيراً ما ينطرح التساؤل حول الشعر : ما القضية / الهمُّ الذي يفرض نفسه على تجربة الشاعر؟ ولعل القضايا كثيرة بجُنَّزها وخُنّاقها، وما أرخص القضايا المعاصرة في عالم يبدو الآن بغير قضية، وما أفدح القضايا التي تخنق نَفَسَ الشعر والفن معاً؛ لتطفر على وجه الشاعرية كالدمامل والبثور، أو ربما كالشعارات الجوفاء فوق واجهة الحدائق .. ربما لذلك تتنحى تجربة الطيري عن هذا الطريق لتفاجئ الجميع من الخلف بقضيَّةٍ لم يعد يلتفت إليها أحد، تلك هي القصيدة نفسها .. هذه اللبون .. النموذج الجمالي البكر الذي يُحَمِّلُ الجميع على كاهله ـ رغم رهافته ـ أوزار عصرٍ بربريٍّ يرى في أزيز الطائرات وهدير المدافع شاعريته، ربما لهذا هو شاعر العصر مدفعٌ أو .. ربما لهذا ـ بين الرصافة والجسر ـ عيون المها تجتر آلامها؛ وأيامها ، والمسافة بينهما حقول ألغامٍ وساحات من الفوضى، وألاعيب ساسةٍ محترفين، وكثير من صفاقات القوانين، وأصداغ المحللين .. كيف نجتاز المسافة الملغومة إذن إلى عيون المها ؟ كيف نجتاز المسافة والمسافة صاخَّة بصراخ النائحات والثكالى؟ .. كيف نَـعْـبُرها إلى هناك ، حيث القصيدة في عيون المها، نسحبُ انكساراتها ، ونبسم فيها من روحنا روحَ الحياة؟ .. كيف وأرواحنا متعبة؟! .. ربما أن الشاعر وحده قادر على اجتياز المسافة مثلما أن روحه قادرة على أن تعيد لنا ما قد فقدناه.
تُرى كيف بدا شاعرنا الطيري وكأنه لم يفقد شيئاً بعد، بطاقةٍ روحية شعرية هادئة ؟ كيف بدا قادراً على أن يعيدنا إلى عيون المها، أو يعيدها إلينا ، عودٌ حميم إذن، بكل بكارة الحياة وطزاجتها وسحريتها؛ لتبدأ عيون المها ـ كسابق عهدها ـ في قتلنا من حيث ندري ولا ندري!.
هي مهمة لا أظنها هينةً أبداً، ولا أظنُّ الخطو فيها إلا على طريق الريح.. هنالك يبدو شاعرنا ” العشب سيِّده / ووجهته المياه / ويمامتان ، / على طريق الريح / تقتفيانِ موكبه / وترتجزان أغنيةً / يرددها سواه .. / هو في غمامٍ ، / يبتني بيتاً / يسيِّجهُ .. بمرار حنظلة / ويمعن في أساه .. / هو مفردٌ ، / جمعٌ / تمامٌ ، ناقصٌ / يمشي الهوينى / في دروب الدمعٍ / يُسرِع في خطاه / غِرٌّ ، / يسير بدونهِ / معَهْ / ويقفزُ ، / فوق سور الليل / يطرق / باب من يهوى / فيرْجِعه الرتاجُ الصلد / يصدمه صداه / فيفرُّ منه الصحو ، / يَخلع ضِلعه / متيمماً ، / بتراب جدوله / ويُسْرِفُ في دماه / تبت يدا/ هذا الفتى المتلاف ، / قايض عمره / بورد خدِّ غزالةٍ / شقراءَ ، لا .. / بل سلمت يداه !! .. ” ( على طريق الريح ـ صـ 13) .
المتأمل لقصائد الطيري يدرك أن روحه لا تزال هائمة في المساحة البكر من الحياة، تمسح غبش المسافات، وتعيد للمواسم أفراحها، وللأطيار أصداحها، وللأزاهر عطرها وألوانها .. يُفلِّتُ الزمن من إسار التقاويم، والأوطان من تقاسيم الحدود: ” على وطن الليلِ / أجلسُ / أشتاق مرجَ حدائقه / ومداخل أنهاره / وبلابلَه / وبلا عاشقاتٍ يهدهدن لي / وجعي .. ” و ” أنا جالسٌ / فوق ليلٍ / بلا وطنٍ / أو غمام .. / ….. / أنا الآن ، / أهذي قليلاً / وأبكي !! ” ( على طريق الريح صـ38).
ربما يحملنا إلى حالة من تراسل الحواس، وفطرية الوجود، وكثير من نقاوةِ الحياة وسحريتها في عبير السكوت الجميل حيث ” كانت البنتُ / وارفةً / كالحديقةِ / مكتظة بالعناقيد، / مسكونةً بالمواعيد، / متخمةٌ، / بعبير السكوتْ … / هاهنا قمرٌ طازجٌ / وهنا .. / مطرٌ / ناضجٌ … ، / وهُنالك / خوخٌ / وتوتْ … “ ( على طريق الريح صـ44).
في مثل هذا الطقس يحق له أن يتساءل : ” لمن سأهدي أغنيات دهشتي؟! ــ لوردة تموت من هديلها / إن مسَّها بنفسجٌ / مدججٌ بخبثهِ / ورِقَّة احتيالهِ ؟ .. / لطائرٍ ملوَّنٍ / بوردةِ ابتهاله … / لواحةٍ تفرُّ / من رمالها / وحالها / وتقتفي خطى غزالها ؟ .. / لقِطَّةٍ تموتُ من هزالها .. ؟ .. / لغنْوَةٍ على شفاه طفلةٍ، / تلعثمت / فأشرقت سواسن الغزل؟ .. ” ( على طريق الريح صـ47).
وفي مثل هذا الطقس أيضاً حتماً ستمرُّ الجميلة ” وترشق هذا الفتى / بحربة أهدابها الساخنة / وتوقظ في مقلتيه الدموع / وتنكأ أحلامه الممكنةْ / وتدنيهِ من رحماتِ العيونِ / وتلمس من وجده مكمنه / وتطلق من عطرها / موجتين / تلفان أرجاءه الساكنة .. / وتسقيه من نهرها بعضُ ماءٍ ، / وتعطيه من لحنها دندنة …. “ ( على طريق الريح صـ9).
………… القارئ لقصائد الطيري يدرك تماماً أن القصيدة نفسها هي همُّ الشاعر الأول، وهي قضية القضايا بالنسبة له .. كيف تبدو مدهشةٌ ببساطة تراكيبها، واعتيادية مفرداتها، بل كيف تبدو ـ رغم ذلك ـ طازجة دائماً، وهي ترفل في جماليات شكليَّةٍ آسرة ؟ .. كيف أنها مراوغة بلغتها بين السفور والخفر، وكيف أنها تحمل قدْراً من التخييل الناتج عن التوسع في استخدام المجاز اللغوي، وقدْراً من سحرية اللغة التي تكتسب من خلال عملية الانتقاء والجمع والتوليف طاقةً إيحائية بالغة ؟ .. كيف أنها تَعْبُر الظاهر الاعتيادي إلى عوالم سحرية ساهِمة؟!.
2 ـ شعرية البراح :
لا شك أن أزمة النقد شيء، وأزمة الضمير النقدي شيء آخر، وربما أن الأخيرة هي التي توجِّه الأقلام النقدية، وتجعلها بشكلٍ أو بآخر تركز جهدها حول نخبة بعينها لا تتجاوز أصابع اليد، متجاهلة ما يمكن أن تعتبره ـ عسفاً ـ ذيل الخارطة، رغم أن كثيراً من الدارسين والمراقبين لحركة الإبداع في عصرنا متفقون ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ على أن الأقاليم البعيدة هي كنز الإبداع الحقيقي الذي يمكن أن نراهن عليه.
” عزت الطيري” واحدٌ من أبناء الصعيد “الجُوَّاني” استطاع بدأب وجهد ملموس على مدى ثلاثين عاماً أو تزيد من التحقق ، أن يتواجد في كافة الدوريات والمحافل الأدبية، ورغم كافة المعوقات .. أصدر حتى الآن اثني عشر ديواناً غير ما لديه من دواوين مماثلة في العدد لم تطبع بعد.
أما وقد انكسرت قليلاً حدة المركزيات الثقافية للعواصم العربية بفعل متغيرات عصرية كثيرة، وانكسرت معها سلطتها على الثقافية والإبداع فوق أطراف الخريطة، فهل نطمح أن يكون ذلك حافزاً أو مبرراً أمام النقد لكي يتخلى عن نظرته الكلاسيكية المصابة بالبارانويا؟ أو لنقل: يجتاز أزمته الضميرية، وينطلق بجهد حقيقي نحو أطراف الخريطة، حيث البراح، وحيث الفن الحقيقي الذي لم يلوَّث بعد، ولم يُهجَّن بعد، وحيث الفطرية والعفوية والأصالة التي تداخل العصر بكثير ثقة، وكثير تأمل ووعي .. ها هنا حيث ذاكرة الأمة وضميرها الجمعي، وملامحها الأصيلة.
في جنوب مصر ـ ولا شك ـ حداثة من نوع آخر، يمكننا أن نعاينها عن كثب لنرَ ذواتنا الضائعة، وأخصَّ خصوصياتنا التي أجهز عليها العصر المادي الطاحن، ونفير المدن المعبأة بالرصاص، وبخر الأفواه التي تتثاءب وجعها على وجه الإسفلت، وهي تلعن ميلاد الشمس، وهي تستنشق الأكاسيد القاتلة، قبل أن تصلها حافلات الحشر.
في ديوانه “على طريق الريح” الصادر عن هيئة الكتاب عام 2001/ سلسلة “كتابات جديدة” ، وكذلك ديوانه ” السفر إلى الشمال” الذي يحوي قصائد مختارة من عدة دواوين أخرى له، يمكننا أن نلمس في تجارب الديوانين وجوداً مخصوصاً .. ها هنا القرية نائمة .. ” هل فاجأها عسلُ الليل؟ ؛ / فغطَّت جفنيها، / بعبير الشجر / وهل داهمها الوقتُ / وسربلها الكِتَّانُ / بقمصانِ مدامعه / نائمةٌ، نائمةٌ / نا … / وثغاء الماعزِ يخفتُ / وعصافيرُ الوجعِ / تعلِّق حُزْنيها، / فوق بيوتٍ ، من طين هشٍّ ، والقرية نائمةٌ / والحزنُ جميلٌ / حين يغطيها من بردٍ / ويقيها من حرٍّ / والجوع طويلٌ …. ” ( السفر إلى الشمال صـ82).
ها هنا وجود مخصوص بطقسه وعبقه وحُزنه ومفرداته، يتسربل بالبساطة الآسرة والنقاء المعبَّأ بالروعة .. كل شيء هادئ وفطري إلى أبعد مدى .. ثمة ذوات تستمسك بوجودها المخصوص .. كل شيء عزيز لديها، لا تلعن مولد الشمس، ولا يؤرقها العصر الحديدي، أو التطاحن المادي، أو نفير الماكينات.
لنا أن نقرأ قصيدة ” عنواني ” لنعاين هذا الوجود المخصوص :” أول قريتنا / أربع أشجار للسرو / وأخرها / سبعة أحزان / والشارع مزدحم جداً / بتراب مُـرٍّ / وبقش ثـَرٍّ / وبعشب خَـرَّ قتيلاً / وأنينٍ مختلطٍ / بحنين للفرح / وأقمار وكواكب / تتساقط / في كل بداية شهر قروي / حتى منتصف الخامس / من … / أحلام الغيطان / رقم المنزل / كلبان عجوزان / ينامان على أعتاب الصيف ،/ ويعتصمان بخوفهما / وقليلاً ما / ينتبهان .. الخ ” ( السفر إلى الشمال صـ121).
وعزت الطيري ــ كذات جنوبيةــ لا يتخلى عن حلمه الرومانسي ، ولا عن حزنه الشفيف ، ولا عن شجنه الجنوبي وهو يداخل واقعه . وفى المقابل من هذا يمتاح تفاؤله، ويهش أحزانه إذ يندغم في الوجود المجسد أمامه ــ كما نرى في جُلِّ قصائده ـ إذ يتوفر القاموس الرومانسي مضفوراً مع مفردات الطبيعة البكر تعبيراً عن حلم الذات وشجنها وتفاؤلها ، وتساؤلاتها، وهى تتعنق مثاليةً يوتوبيةً جماليةً تنفتح معها التجربة على السحري ، وتعتمد على الوصف ، والمشهدية ، والتحليق المجازى ، والإغراب ، إذ يتحقق كثير بكسر توقعاتنا الاعتيادية عند كل فاصلة شعرية .
في مثل هذا الطقس المخصوص ومع تجربة لها هاتيك المواصفات كان لا بد أن تطفر المحبوبة بحسنها على وجه الشعر .. هو يمتاح ــ إذن ــ من عالم الأنوثة الشفيف ، إذ يجمع بين مفردات المحبوبة ، ومفردات الطبيعة، والبيئة ، ويمزج بينها حتى أن المحبوبة بدت محركاً جمالياً يلون الوجود كله ..” كم مرة / ركضتِ .. في حنينه / كم مرة .. خرجتِ من دمائه / غزالةً / ليعلن انتماءه / لوجهكِ الذي تبرعمتْ / من عشقه الفصول غبطةً / فغيَّر الفصولا ../ لمن يبوح اللَّوْزُ / في غنائه ؟ / لمن يفوح الليل / في حُدائه ؟/ لمن تهيأت / مواكب الأعناب / تزدهي بلونها / وتفسح الطريق لانتشائها / وتبدأ الصهيلا ؟/ لمن تزركشتْ .. فراشةٌ / بنارها / وحوَّمت على حماهُ / بكرةً .. وأصيلا / يا أخت روحه التي تعطرت .. بوجدها / وعنقدت شفاهها / لصمته / وأشرقت هديلا / فأخرجت تفاحها / وسوسنت جراحها / ورفرفت منديلا !! / يا أخت روحه التي تفجِّر الحنين / في حنينه / ويا مَدَى / ما أشرق النعناع / في جنونه / يا موعد الأقمار / في سقيفة القرنفل السخيِّ ، / عند معجزات عطره ،/ وسحر قافه ونونه / فجاهرتْ بضوئها / تبتلت تبتيلا / أيتها التي غابت عن احتراقه طويلا / خذيه .. عانقيه وامنحيه بعض مائك المسحورِ قطرةً / فقطرة .. فسلسبيلا / لكي يواصل الغناء في هواكِ / أو / يواصل الذهولا .. ” ( السفر إلى الشمال ص56).
حقيقة .. إذا كانت القصيدة هي مشروع ” عزت الطيري ” الجمالي الذي يداخل به واقعه ، وإذا كانت القصيدة هي همه الذي يشغله ، فإن المرأة المثال هي العالم الجميل الذي تمتاح منه التجربة الشعرية زادها ، وهي بؤرة الانطلاق ، والإشعاع الشعري عنده ، وهي منطلق المنطلقات ، والعالم السحري الجميل الذي تصبو إليه الروح الشاعرة ، ومن ثم تتوجه إليه كثيراً بالخطاب الشعري ، أو تمارس الحديث عنه ، متسامية في كُلٍّ عن الحسِّيــَّة البليدة إلي عوالم روحانية شفيفة وإلى أجواء عاطفية سامية تمارس تواجدها الشعري فيها كذات عاشقة لمطلق الجمال ، ومن ثم تتغلف التجربة بغلاف شفيف من الغنائية التي تركز على عاطفة الإعجاب ، والرغبة في البوح ، والتحليق الشجني ، والرغبة في التواصل ، ومن ثم لا تتخلي التجربة عن الوصف الجمالي لدقائق هذا العالم السحري الجميل الذي تصبو إليه ، مرتدية قناع كل العشاق الذائبين شوقا إلى محبوباتهم ، ومن ثم ــ أيضا ــ تشيع في القصائد أعلام الإناث مثل ” منى ” و” هدى ” و” مها “.. ولنا أن نطالع قصيدة ” مقاطع متناثرة من لحن منى ” لنرَ : كيف كانت “منى” مفجراً شعرياً : ” منى ../ تدخل الآن / أروقة القلب / فتزلزل جدرانه / وترتب أركانه / وتعلق أشياءها / ها هنا / صوتها / ها هنا عطرها / ها هنا ضحكة رنمتها / على قفشة قلتها / ها هنا حمرة الخجل الأنثوي / على خدها / حين فاجأتها بالهوى / وهي داخلة حجرة الدرس / فارتبكت .. وبكت / ومنى .. / تخرج الآن مسرعة .. مسرعة / لتتركني / مثقلا بالجوى / ومشتعلا بالقصيدة” ( السفر إلى الشمال صـ107).
وفي قصيدته “افتحي الصيف لي” يتوجه إلى المحبوبة بالخطاب الشعري راجياً أن تفتح له ما يؤهله للاشتعال الشعري بعيداً عن الأحزان التي تطبق على روحه: “افتحي الصيف لي / واهدلي / كاليمام المسافر / من ساحل الأغنيات / إلى غنوة الساحل / سائلي موج أحلامنا / عن عذاب المسافر / في أرخبيل البنفسج / والياسمين المؤرق زلزلة / سائلي / هللي .. كالفراش المزركش بالضوء / حول الفؤاد الخلي، / واذكري عاشقاً / ذاب في مهده … ” ( السفر إلى الشمال صـ145).
المرأة المحبوبة في هذه القصيدة وغيرها تؤهله لإعادة اكتشاف الحياة من جديد، كما تؤهله للصعود إلى سدة الحلم، وإلى إعادة بناء العالم من جديد على نحو شعريّ أكثر رحابة، وجمالاً، ولنا أن نتابع الاسترسال الشعري لنرَ تشَكُّلَ عالم جديد: “افتحي الصيف لي / كي أمرَّ على بحره المتوسط / اسحب شاطئه بيدي / وأسير به / للقناديل / في ليلِك السرمديِّ .. / للمواويل .. في كركرات الغدِ … ” إلى أن يقول: “سوف اسحب شاطئه بيدي / وأقيم على جانبيه البلاد ، الحصون ، / القلاع التي تحرس العاشقين الذين / يهيمون في وردةٍ ترتدي / موتاً / وتصبُّ قناديلها / في القلوب التي عطشت / للصباح النديّ … ” ( السفر إلى الشمال صـ147).
وفي قصيدة “سيمفونية العشق” تتضح صورة المرأة الحلم كنموذج يختزل فيه كل جمال العصور والتواريخ والأشياء: ” هل هذي أطراف يديها / أم ضوء مهموس / أم قمرٌ مغموس / في ماء الفضةِ / أم أطياف كريستال / مرَّت بخيال البللور / أم بوح حرير / رفَّ ، وعفَّ ، وشفَّ / وشقَّ الثوب، وشجَّه / أقسم بالعطرِ الأندلسيِّ القادم من قرطبة السَّكرى / في زورق شوقٍ / ليهبَّ على / أهداب حمامٍ / يتهلَّلُ في طنجة …. ” ( السفر إلى الشمال صـ156).
حقيقة إنه الهاجس المختلف ، ولقد سبق أن نوهت في مقالات سابقة عن شعراء الجنوب، أكدت فيها أن في جنوب مصر حداثة شعرية مختلفة ومغايرة عن حداثة المراكز الثقافية التي تتشدق بتحطيمها السافر لكل ما هو أصيل، إذ تصنع ثوراتها في الفناجين، هاربةً إلى عالم وهميٍّ ترسل منه شفراتها الشعرية إلى الأرض الخراب ـ حسب وجهة نظرها ـ أو تنكفئ على ذاتها ممجدة عزلتها وسخطها وانفصامها .. إنها ـ إلى حدٍّ كبير ـ حداثة الاختناق والشتات والتشابك والعشوائيات في آنٍ .. كيف تتداخل العلاقات بل كيف تتجاوز؟ .. كيف يحق لها أن تجرِّد الأشياء من وجودها ؟ .. نعم هي حداثة تجرد الأشياء من وجودها الذي يرهق أعصابها إذ تنام في حضرة الكوابيس!.
في جنوب مصر حداثة على النقيض من ذلك، ليس لديها ما تفرِّط فيه .. كل شيء عزيز .. ليست معنية أساساً بالثورات أو الزوابع التي تحدث في فناجين .. لا تلعن مولد الشمس، ولا شيء ثمَّ يرهقها .. إنها حداثة البراح والتأمل .. حداثة الدوحة، المزمار، الناي، إبداع الله في الكون، موسيقى الله: شدو البلابل، الحفيف، الهسيس، الخرير.. أساطير القبيلة، حكايا الجدات، المصاطب ، الشاطئ، نقاء السريرة، الصفصاف، الجميز، سدرات الأجداد، السواقي ، الشواديف، الغناء، الكون المفتوح، وهدة القيلولة، المراعي، البراري، أسمار المساء.
وجود لا يلعن بعضه بعضاً .. ينام في حضرة الملائكة، وتوقظه هزَّة الأغصان، ونقر العصافير، هديل الحمام، صوت الله في قرآنه، التسابيح …. حداثة تمتلك أصالتها وتراثها، تمتاح منهما شجاعة التجوال وهي تتخطى أو تجتاز مراحل نموها وتواجدها، نمو بطيء وفق متطلبات لحظتها، ووفق ما تسمح به قوي الاختزال المركزية التي تستلب الأوطان وتختزلها في عواصمها .. ليس من ضرورة ملحَّة لديها غير امتلاك ذاتها وكرامتها .. حداثة ريَّانة لا تعرف الظمأ الروحي .. ثرية بذاتها، وفنونها، ومن ثم فالذات الجنوبية هاجسها مختلف، لأن عذاباتها تختلف ومعاناتها تختلف، وواقعها يختلف، ونظرتها إلى الحياة والوجود أيضاً تختلف.
في قصيدته” السفر إلى الشمال” تبدو التجربة مراوغة، إذ تعلن الذات الشاعرة رغبتها في الهجرة إلى الشمال حيث المدنيـَّة، وحيث الفتون الحداثي، وحيث النفير الإعلامي، وحيث “المكياج” الذي يُرَسِّم الملامح المؤقَّتَة، ولكن إلى أي مدى تتوهم الذات أن سعادتها ستكون هناك ؟ .. إنها ـ إلى حد كبير ـ تعاني في جنوبها الإهمال والفقر الخدمي بجانب النفي .. هذا شعور مبدئي تهجس به الذات الباصرة إذ تتأمل واقعها، وإذ يتملكها الشعور بأنها مُستلَبة، ومنفية، وأن كل ما يربطها بالوطن المختزل في الشمال هو هذا القطار الكسيح: ” تسافرُ نحو الشمال ؟ / ـ أسافر .. / أسافر نحو الغيوم / ونحو التخوم / وزرقةِ هذِي العيون التي / والعيون التي / والعيون العيونْ .. “” وتكرر الذات الباصرة على الذات الشاعرة سؤالها مرة أخرى : “تسافر نحو الشمال ؟ / ـ أسافر نحو الحنين / ونحو الفتونْ / ونحو الغروب / فشمس الجنوب / تتوِّج أوجهنا بالسواد / وتزرع في مقلتينا نجوم الحِداد / وتمنحنا / وردةً من رمادٍ / أسافر نحو الشمالِ / وأرحلْ / فليس هنا في الجنوب عبير القرنفل / وسقسقة الطير / فوق غصون السفرجل !! / وليس هنا / غير زهر القصب / وشمس الغضب / ووجه تغضَّن / يرضع من حلمات النهار / عصير التعبْ !! … ” ( السفر إلى الشمال صـ99).
هكذا تتوهم الذات موتَ الحياة في الجنوب، لذلك تعلن موافقتها للسفر إلى الشمال : ” تسافر نحو الشمال ؟ / ـ أسافر في الحالِ .. ” ( السفر إلى الشمال ص 100) ولكن لأن التجربة الشعرية عند عزت الطيري مراوغة، ولأن كل شيء ـ كما سبق القول ـ عزيز، وليس لدى الذات ما تفرط فيه حقيقة ، ربما لذلك نكتشف بعد قليل أن التخيير في ” تسافر نحو الشمال ؟ ” ليس إلا تخييراً وهمياً، وأن الذات الشاعرة لن تفرط في شيء، وإن كل ما كان من استجابات مؤقَّتَةٍ ليس إلا استجابات كذوب، وليس إلا فرصة للتعبير عن الشعور بالنفي والاستلاب، ولعرض بعض عذابات الذات مع الإهمال والفقر المادي والخدمي وصور التخلف والشقاء المفروضة على الجنوب، بَـيْدَ أن الذات حقيقةً تظل مستمسكة بموقعها، واعية بخصوصيتها، وبسماتها الفريدة، وواعية بأن تخليها عن موقعها وقناعاتها إنما يعني موتها، وأن المستحيل حقيقة هو أن تتخلى ، أو بالمعنى: تسافر نحو الشمال وكأن كل التخيير الممنوح كان على سبيل المباكتة والتوهم وليس على سبيل الحقيقة؛ لذلك ومن خلال الحوار المتوالي بين الذات الباصرة والذات الشاعرة تعلن الأخيرة عن حقيقة موقفها: ( صوت 1 ) : ” سيكون صعباً أن تسافرْ / سيكون صعباً أن تغادرنا / وتهجرك الديار / ” يا من يدل دمي عليك ” / إذا سقطتَ / وإن كبوتْ ،/ وإن سُكِبْتَ على الغبار … / وستهجر الأطيار عشَّكَ / والسفائنُ سوف يخدعها الفنار!! / ماذا أقولُ إذا سُئلتُ / عن الزنابق والبيارق / والزوارق والشراعْ ؟ / أأقول ضاعْ ؟! .. ” ( السفر إلى الشمال صـ102). . ونتابع : ( صوت 2 ) : ” من أين يدخلُ زنبق الكلماتِ / شِعرك يا صديقي؟ / من أين يدخلك البنفسجْ، / زهرةُ الفول النَّديَّة، / مهرجان الشمس ، / حين تُدَوِّخ الأقدام، / تلسعها / وتمنحك العذاب؟ / من أين يأتيك الفرار ؟ / من أين تأتيك القصائدُ ، / والمواويل الأثيرة …. إلخ ” ( السفر إلى الشمال صـ105).
السفر إلى الشمال إذن عنوان مراوغ إذ يؤوَّل إلى ” السفر إلى الجنوب” حيث المستحيل هو السفر إلى الشمال إلا على سبيل التوهُّم المباكت للذات المتمردة على النفي والإهمال والاختزال ، وهكذا تعرب الذات عن قناعاتها الحقيقية ، وعن وعيها بأنها ها هنا، وليست هناك، وأن فرادتها تنبع أساساً من وعيها بأنها ذات جنوبية لها هاجسها المختلف، ولديها ما تباهي به في كل أحوالها ، ومهما بدت ذاتاً مشمولة بحزنها الشفيف.
إن نبرة الحزن الشفيف لا تفارق الذات الشاعرة، ثمة حزن رومانتيكي إذن، له ما يبرره، وإن لم تكن الذات معنية بتفنيد علاتها على صعيد الواقع، إلا أنها ذات حزينة إذ تفتش عن عالمها اليوتوبي تحت ركام واقعها المسْتَلَب : ” أفتح حزنين / أملأ جوفهما بالنقاطِ ، / الفواصل، / أنسى الكلامَ / وأنسى … !! ” / …………. / ……….. / أنا جالسٌ / فوقَ ليلٍ / بلا وطنٍ ” ( السفر إلى الشمال صـ37).
أو كما نقرأ في قصيدة” لمن اللوز؟ ” : ” ويعبُر الطريق / مرهقاً نحيلاً / يحدُّه البكاءُ / من جنوبِه / ويحتويه الحزنُ .. من شماله / ويرتخي النخيل فوقه / سواحلاً .. وموعداً جليلاً / الشوق في يديه .. قد نما/ والوردُ في عينيه .. قد همى / والوقت يستحيلُ لحظةً / ويرتمي / في ظلِّ دمعتين / قاتلا … “( السفر إلى الشمال صـ53).
أو كما نقرأ في قصيدة ” حزنه طازج” : ” منذ حزنين / لم يطرق الحلم بابه / منذ .. والقلب مرتبك بنداءاته .. / وعلى هودج الريح مرتحل / يتهدج باسم التي / لوَّنت عمره بالصبابات / من أول العمر ، في آخرِ / الزلزالات التي .. ” ( السفر إلى الشمال صـ58).
أو كما نقرأ في قصيدة ” قمر وأغنية” : ” قمرٌ يرنُّ / على جوانب حزننا / فيحنُّ من رناته قمرُ الكتابة للكتابة ..” ( السفر إلى الشمال صـ17).
هكذا هي نبرة الحزن الشفيف تفرض غلافها حول التجربة وتقيم الوشائج بين فواصلها؛ لذلك ربما كثيراً ما ترتفع على أثرها نبرة الشكوى والأنين: ” لماذا الحبيبة هاربةٌ ، من مواعيدها الزئبقية؟ / .. كيف أنا أحتفي بنداءات جُرْحي / ثلاثين نوماً ، / ثلاثين برقاً هي النارُ تلدغ صدري، / ولا نبع ماءٍ قريب … ” ( السفر إلى الشمال صـ47).
وبجانب نبرة الحزن والشكوى يبدو الحلم هو منفرج الذات، إذ يبدو وقوفها طويلاً في انتظار ما لا يجئ ” أنت أدمنت هذا الطريق / أنت أدمنت هذا الشجن / من تكون ؟ إلى أن يقول : ” إلى أين يا مهرة الله نمشي ؟ / وكل الجهات مهَّيآت للمهالك ؟.. / أنا في انتظاركْ / الطيور تهاجرني والممالكْ / والنساء يجئن إليّ صحارَى / أنا في المواجع يا صاحبي / لا أُبَارى ” ( السفر إلى الشمال صـ145).
وإذا كان ثمة ما تنتظره الذات الحالمة، إلا أنها وعلى الصعيد الحلميّ نفسه تبدو غير متفائلة وهي ترى كل شيء يضيع هباءً مع النشيد النحاسيّ الفارغ، فليس ثمة ما يمكن أن يجسده غير الطنين : ” النشيد النحاسيُّ / يصرخ في لوعةٍ / يا بلادي : / بلادي .. بلادي .. / بلادي التي أوصدتْ / في طريق هوايَ / المسالك ” ( السفر إلى الشمال صـ145).
أما وقد طوَّفنا مع تجربة شاعرنا طوفات عابرة، بغرض إضاءة الطريق نحو تجربة ثرية متسعة، لها كثير خصوصية وحضور، إلا أن ذلك لا يجب أن يخرج عن غرض الإضاءة الممهِّدة لدراسات أكثر تركيزاً على كافة الجوانب الفنية والرؤيوية لتجربة عزت الطيري ، أتمنى أن يساهم معي فيها الجادون من نقادنا في ربوع الوطن.
عبدالجواد خفاجى
25/ 3 / 1004م